العمل الإعلامي "احتساب..لا اكتساب"؛ إذ يجعل صاحبه المصلحة العامة نُصب عينيه، ويتجرد من مصالحه الذاتية، متسلحا بإنكار الذات، وتحمل الإيذاء؛ بحثا عن الحقائق غير المعلومة، وإماطة اللثام عن المسكوت عنه، أو المخفي مما يجب أن يكون معلوما بالضرورة من دنيا الناس. "يموت الرسول، وتحيا الرسالة"، ويبقى "نبراس الحقيقة" مضيئا للأجيال المقبلة. المهم هنا إحساس الإعلامي بأهمية إظهار الحقيقة، ونقلها للعالم، ووجوده في المكان والزمان المناسبين، حتى لو أدى ذلك إلى أن يجود بنفسه؛ لذلك لم تكن مبالغة من الكاتب المصري فهمي هويدي أن يصف ماري كولفن الصحفية الأمريكية، وريمي أوشليك المصور الفرنسي، بأنهم من "شهداء الحقيقة". فقد لقيا حتفهما يوم 22 فبراير 2012 بمدينة حمص، في أثناء تغطيتهما لاعتداء قوات النظام السوري على المواطنين العزل، وكانت حجته وجود إرهابيين، لكن ماري دحضت مزاعمه قبل مقتلها بأيام في تقرير بثته (سي.إن.إن)، مما جعلها وزميلها هدفا لغاراته. إن العمل الإعلامي ينطلق من بعد رسالي. والإعلامي "القوي الأمين" رأس مال جيد للأمة، والمهنة، والبشرية. وهذا يؤكد إلى أي حد يبلغ تأثير الإعلام ودوره في التغيير لا سيما في المراحل الانتقالية من تاريخ الأوطان، ووجود بيئة تعاني من الفوضى الفكرية أو السيولة القيمية، خاصة أن حجم الأعباء والضغوط يزيد حينها على عاتق الإعلامي النابه. وعلى مستوى المؤسسة الإعلامية لابد من وجود رسالة ورؤية وأهداف وقيم، وحرص على منع تعارض المصالح، بما يعنيه من عدم قيام الصحفي أو المسئول بالعمل لصالح مؤسسة تتناقض مصالحها مع مصالح مؤسسته، حتى لا يؤثر ذلك على حياده، ومصداقيتها. والأمر هكذا، أرى أن هناك عشرة أجنحة يمكن للإعلام المصري في مرحلة ما بعد الثورة أن يحلق بها في سماء العالمية، كما يلي: 1- وجود هيئة أو لجنة خاصة للتقويم المرجعي والتحريري (معايير التحرير) مهمتها وضع معايير دقيقة للنشر، ومراقبة الأداء المهني، وتدقيق المنتج الإعلامي، بهدف قياس مدى التزامه بالمعايير الموضوعة، وانطباق السياسة التحريرية عليه، مع تقديم تقارير دورية تساعد هيئة التحرير أو مجلسه على سد الثغرات، ومعالجة الخلل، وضبط الأداء. 2- وضع مدونة سلوك أو كراس تحرير (GUID LINES) أو (STYLE BOOK): تتضمن قواعد التحرير الملزمة للعاملين في المؤسسة، مما يساعدها على بلوغ مستويات أعلى في العمل. وتتضمن هذه القواعد: الاستقلال، والدقة، والحياد، وعدم التحيز، والتوازن، ومراعاة المصلحة العامة، وتجنب الانتقائية والشخصنة، والتلوين، والتنميط، والبعد عن الإثارة، والكذب، والتهييج، مع الالتزام بتقديم الحقيقة المجردة، وحياد اللغة (استخدام كلمات لا توحي للمتلقي بأن الإعلامي له موقف من القضية). ومن القواعد المهنية كذلك: النزاهة، ووحدة الموضوع، ونسبة كل معلومة لمصدرها، والتثبت منها، والبعد عن التكهنات، والتحلي بروح المسئولية، وأن تكون المؤسسة الإعلامية محلا للمحاسبة والمساءلة بحيث تقوم بالتصحيح الذاتي لأي خطأ تقع فيه، وتعتذر عندما تخطئ، باعتبار أن "المصداقية أغلى شئ تملكه". 3- العمل الدائم على تطوير المحتوى: (CONTENT MANAGEMENT SYSTEM) من خلال ترتيب أولويات التناول الإعلامي (AGENDA SETTING)، وتحديد الموضوعات الأكثر أهمية..في كل لحظة، وكم من الوقت والجهد ستحتاج، مع مراعاة اهتمامات الجمهور المتلقي، والتأثير التحريري، ومراجعة الأجندة بشكل دائم، والحذف والإضافة فيها بحسب أهمية الموضوعات، وأولويتها. 4- التدريب المتواصل، وصقل مهارات العاملين: يتضمن ذلك الإلمام بكل جديد في العمل الصحفي، وطرائق الكتابة والتعبير، وتوصيل المعلومة..إلخ؛ فصحفي اليوم مطالب بإتقان لغة أخرى إلى جانب لغته الأم، وأن يتقن إعداد التقارير، والإتيان بالمعلومة، والاتصال بالمصادر، وتحرير المادة، وإعدادها لمواقع النت ، والتليفاز والإذاعة.. في وقت واحد! من هنا تأتي أهمية المتابعة الدورية لمواقع المؤسسات الإعلامية الكبرى مثل رويتز، و(بي.بي.سي)، وشبكة الصحفيين الدوليين، والمدونات المهمة كمدونة المهدي الجندوبي. 5- مراعاة التخصص في نوعية معينة من القضايا أو الموضوعات: كالتخصص في الاقتصاد، أو السياسة، أو القضايا الاجتماعية.. إلخ.. وداخل كل مجال ينبغي أن يكون للصحفي مزيد من التخصص؛ بحيث لا يصبح صحفيا فقط، وإنما باحثا وخبيرا أيضا في مجاله، وهنا يزيد وزنه النسبي في المجتمع، والقيمة المضافة من عمله الإعلامي. وبجانب التخصص في مجال معين لابد من التخصص في لون صحفي بقدر الإمكان مثل التحقيق المتعمق أو الحوار أو التقرير بأنواعه أو المانشيت أو القصة الخبرية ، أو الإنسانية، وكلها أشكال صحفية تحتاج إلى التدريب المتواصل عليها.. للتمكن منها، والتجويد فيها. 6- الإلمام بالتكنولوجيا الحديثة في الإعلام بعد أن صار رقميا، إذ أصبح مطلوبا من كل صحفي أن يمتلك هاتفا محمولا للتسجيل والكتابة والتصوير والإرسال وإجراء المكالمات، وحتى إرسال النصوص، وكذلك امتلاكه كاميرا حديثة، وجهاز "آي فون"، أو "آي باد" وغيرها من وسائل الاتصال الحديثة، باعتبار أن من يمتلك السبق الفوري (LIVE COVERAGE) يحوز ناصية السبق الإعلامي. 7- أهمية التسلح بوسائل الإعلام الاجتماعي: بأن يكون للصحفي مدونة أو موقع إلكتروني وصفحة على الفيس بوك، وحساب على تويتر.فصحفي اليوم يتعامل مع فيس بوك وتويتر على أنهما مصدران للمعلومة ومعرفة الأشخاص، ويجيد التعامل مع ازدحام مصادرهما (SOURCING CROWD)، وكثرة المعلومات، وتضاربها، وتدقيق مصداقيتها. وكمثال: أثبتت الثورات العربية، وخاصة السورية، أهمية الاعتماد على (الهاتف المحمول وصحافة الفيديو) في نقل وقائع الثورة، وأساليب الثوار، واعتداءات النظام السوري. 8- التحلي بروح الابتكار والإبداع، والحرص على تقديم كل "جديد مفيد" في أهم مجالات الحياة، وتناوله بشكل جذاب، ومشوق للقارئ، ومؤثر فيه، عبر المعالجة الإبداعية. فالصحافة تعني إخبار الناس بشئ جديد دوما. ويتطلب ذلك الابتكار، والعمل الدائم على تغيير العقليات، والعادات، وطرائق التفكير، وتشجيع الناس على التغيير في الاتجاه الصحيح. 9- الاهتمام بالإعلام التنموي والمحلي الذي يقدم الصور المضيئة، والنماذج المكافحة، والمشروعات الناجحة، والقدوات المجتمعية، والقصص الإنسانية، مما يقتضي عدم الانكفاء على السلبيات، وإدراك أن ذلك الإعلام يمنح صوتا لكل مواطن، وسبيلا للتطوير من المنبع. 10- تكوين الروابط الإعلامية المجتمعية: يتحقق ذلك بالبدء في عمل رابطة خاصة للصحفيين المهتمين بتخصص معين، مع إضفاء صفة قانونية على الرابطة، وجذب الآخرين إليها، من خلال عقد الدورات، وحلقات العمل، وممارسة والأنشطة والفاعليات المختلفة، مما يقوي الصحفي نفسه، والاتجاه الذي يتبناه، ويزيد من تأثيره في الوسط الذي يعمل به. [email protected] المزيد من مقالات عبدالرحمن سعد