في الثالث والعشرين من يوليو العام 2013 ،بعد أقل من شهر على سقوط محمد مرسي ،صدرت الطبعة الدولية من كتاب لوتشانا بورساتي «مابعد التحرير Oltre Tahrir». أعطى تاريخ الطبعة الدولية (بتوافقه مع تاريخ تأسيس الجمهورية ،قبل أكثر من ستة عقود) دلالة للعنوان قد تقبلها الأغلبية التي أسقطت حكم الإخوان المسلمين في مصر ،لكنها ليست «بالضبط، ماقصدته المؤلفة. الدلالة التي تتناغم مع توجهات الشارع المصري ،الذي صدرت الطبعة الدولية وهو طائر فرحا بنشوة الخلاص من «حكم المرشد» ،هي أن الكتاب يصدر بعد «تحرير مصر» من أسرها الإخواني ،وذلك لأن 23 يوليو يذكرنا بتحرير مصر من حكم آخر سلالة عثمانية. ولا شك أن هذه دلالة غير مقصودة ،فبالنسبة للمؤلفة لم يكن هذا الكتاب (الذي ظهرت ترجمته العربية في مارس الماضي)سوى محاولة لرسم صورة مصر وهي تتجاوز سياق الثورة لتحسب مكاسبها وخسائرها ،بسقوط مبارك وصعود الإخوان ،ولتقرر التخلص من رئيس يمثل جماعة الإخوان المسلمين ،كما تخلصت من حسني مبارك بانتفاضة شعبية في 30 يونيو 2013. لحظة الخروج من السياق الثوري ،رجوعا إلى مسارات التاريخ (باعتبار التحليق في فضاء الحلم الثوري انفلاتا مؤقتا من الواقع التاريخي) هي ،دائما ،لحظة ثقيلة الوطء. يصف مايكل آلبيرتوس وفيكتور مينالدو ،في مقال في نيويورك تايمز(14 فبراير 2013) لحظة ما بعد الفورة الثورية في أقطار الربيع العربي بالإحالة على تجارب ثورية مربها خمسون بلدا ثارت على حكامها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن ،كانت بداياتها مضيئة وواعدة ،ونهاياتها قاتمة وكئيبة. ويستشهد الكاتبان على المآلات المحبطة للثورات بما سبق أن جرى في مصر نفسها ،قائلين إنها انتهت ،بعد ثورتها في 1952 ،إلى « ديكتاتورية جمهورية» أسسها أنور السادات وحسني مبارك. فماذا وجد المصريون وهم يفيقون من حلم ثورة يناير 2011 على واقع «مابعد التحرير» الذي هيمن عليه ظل ثقيل لجماعة سرية وفوضوية ،قفزت إلى حكم الدولة وهي لاتملك خبرة تتجاوز إدارة مستوصف أو سوبر ماركت؟ تلخص بورساتي الموقف فيما يلي: «تصاعدت التوترات السياسية الداخلية وأعمال العنف في ميادين القاهرةوالمحافظات المصرية الأخرى ،وأدت إلى سقوط قتلى وجرحى طوال السنة التي حكم فيها محمد مرسي البلاد. ومع تفاقم المشكلات الكبيرة في البلاد ،وفي مقدمتها الوضع الاقتصادي الخطير الذي أفرغ تقريبا خزينة الدولة ،ومع تدني مستوى المعيشة ملايين المصريين ،أصبح من الضروري التوصل إلى حل». لا تعالج لوتشانا بورساتي ما جرى في مصر ،في ظل مرسي ،ومهد لسقوطه معالجة نظرية ،فهي صحفية وليست باحثة أو منظّرة. وهي ترسم ملامح مشروعها في مقدمتها للنسخة العربية بقولها : «...هذا الكتاب الذي كتب تحت ضغط الحاجة الملحة لمتابعة الأحداث...كان السبب الرئيسي وراء ظهوره هو الرغبة في أن نحكي عن مصر الأخرى ،تلك التي تتجاوز أسطورة ميدان التحرير». ثم تضيف «الكتاب قدم أيضا شهادة تيسر للقارئ فهما أفضل لسلسلة الأحداث التي انتهت إلى خلع مرسي». وتتساءل بورساتي : «هل كان ذلك [خلع مرسي] انقلابا عسكريا على النحو الذي ارتأته غالبية الرأي العام الأوروبي؟» ثم تجيب : «قد يبدو كذلك من الناحية الفنية ،لكن الملايين التي نزلت إلى الشوارع معلنة أنها ضد مرسي والإخوان (رغم شرعية انتخابهم)هي التي جعلت الأمر يبدو مختلفا.» وفي حديث لها حول الكتاب مع محطة «تري موندو» الإيطالية تؤكد بورساتي الفكرة ذاتها بالقول: الأمر لايتعلق بانقلاب عسكري بل هو عبارة عن موقف اتخذته جموع الشعب المصري بقوة ،عندما نزلت إلى الميادين وأعربت عن موقفها الذي وجد نوعا من الدعم ،من جانب قادة الجيش المصري الذين حرصوا على ألا يتحول الوضع إلى فوضى عارمة ،وحرصوا على حقن دماء المصريين». وتواصل بورساتي حديثها للقارئ الأوروبي عن دور الجيش في المرحلة التي عالجها الكتاب بقولها : «قام ناشط سياسي يدير مركزا للدراسات بعمل استطلاع للرأي حول أربعة مقترحات للخروج من الأزمة [التي ترتبت على حكم الإخوان] كان بينها مقترح بتدخل الجيش ...والمفاجأة أن نحو 80 بالمئة ممن استطلع المركز آراءهم فضلوا هذا الحل». وتفسر الكاتبة لجمهورها الأوروبي موقف المصريين من جيشهم بالقول:»هذا يرجع إلى أن الجيش يجسد الهوية القومية بشكل لايمكننا نحن الأوروبيين تخيله» وتوضح الكاتبة ،في مقدمتها للطبعة العربية ،الأسلوب الذي اختارته لمقاربة موضوع خلع مرسي وشرعية النظام الذي قام بعده ،موضحة قراراها بأن تنظر إلى الأمر «من زاوية الرؤية التي نظر بها إليه المصريون الذي كانوا يريدون تغيير النظام على ذلك النحو» ثم تضيف:» لكني لم أرد لعملي ان يكون أطروحة جيوسياسية ،فقد تضمن ،ببساطة ،مجموعة من حكايات عن أناس من خلفيات متباينة». تنقلت بورساتي ،وهي تجمع مادة كتابها ،بين مختلف مستويات المجتمع المصري ،صعودا وهبوطا ،وسافرت إلى مختلف محافظات مصر. التقت(من الجنسين)مثقفين وسياسيين وناشطين حقوقيين وسياسيين ليبراليين ويساريين وبائعين وتجارا وداعية سلفيا يسعى للتفاهم مع الليبراليين والأقباط (!). وعلى رغم تنوع الشخصيات والخلفيات الاجتماعية والثقافية ،فالكتاب يقدم صورة متجانسة لمصر وهي تنفلت من قبضة الإخوان الملتفة حول عنقها ،شاخصة بعينيها لجيشها تطلب منه أن يؤدي واجبه بالتقدم لمساعدتها. الروائي عبده جبير ،الذي أخذت لوتشانا بورساتي إلى الفيوم للقائه رأى لحظة «مابعد التحرير» باعتبارها لحظة يمتزج فيها فساد قديم موروث عن عهد مبارك ،بعجز الحكام من الإخوان المسلمين عن تقديم أي حلول للمشكلات ،وبوعي سياسي متصاعد ،وفقر وبطالة متفاقمين ،وكل هذا كان يدفع بالبلاد في اتجاه حرب أهلية ،بعد أن تعلم الناس «النزول إلى الشارع والتظاهر ،وخرجوا عن السيطرة». والحل ؟ أن يبادر تحالف يضم الليراليين واليساريين و القوات المسلحة إلى «ثورة أخرى». الناشط السياسي اليساري والمحامي ياسر شكري (هو أيضا مغن وموسيقي) يمضي في الاتجاه ذاته. تنقل عنه لوتشانا قولا أعلنه على موقع التواصل الاجتماعي «الفيس بوك» قبل سقوط محمد مرسي: «علينا إنهاء احتلال جماعة الإخوان المسلمين لمصر ،وبدء معركة جديدة لمواصلة ثورتنا حتى نحصل على العيش والحرية والكرامة الاجتماعية». ينزل الملايين للشوارع وهم يطالبون بإسقاط «حكم المرشد» وخروج محمد مرسي من السلطة. ويتحرك الجيش إنفاذا لمشيئة الشعب. وتنقل لوتشانا بورساتي عن الناشطة الحقوقية داليا زيادة رؤيتها لماجرى: «إن التدخل العسكري الذي حدث كان لإنقاذ حياتنا من إرهابيي مرسي. ونحن لا نعتبره انقلابا ،فالحفاظ على أرواحنا هو واجب القوات المسلحة». ثم تنقل بورساتي ما قاله الكاتب علاء الأسواني عن تحرك القوات المسلحة للخروج بالبلاد من الأزمة :«لايتعلق الأمر بانقلاب فلو لم ينزل الثلاثون مليونا إلى الشوارع للمطالبة برحيل مرسي ،لما كان للجيش أن يتحرك». ويقول الأسواني لبورساتي:«المصطلح الصحيح للتعبير عن المواجهة السياسية مع حكومة الإخوان هو المقاومة ،باعتبارهم فاشيين مثل هتلرالذي أصبح ديكتاتورا بعد انتخابه». أما الإيطالية ليتسيا ريكاردي الباحثة والمعلمة التي عاشت في مصر ،بعد حصولها على منحة دراسية ،من 2010 حتى 2014فقالت لبورساتي: «الثورة التي بدأت في عام 2011 هي جزء من عملية ثورية مستمرة. الرئيس محمد مرسي لم يكن في استطاعته مقاومة جموع الشعب المصري الساخطة على الأوضاع السياسية والاقتصادية ،أولئك الذين قرروا النزول مرة أخرى إلى الشوارع ليعطوا انفسهم فرصة استعادة حقوقهم المنهوبة». هكذا صورت لوتشانا بورساتا ما جرى بين 30 يونيو و3 يوليو العام 2013،باعتباره انتفاضة مصرية ضد«حكم المرشد» أعادت تأكيد على حقيقة تجسدت في يناير 2011 عندما تحول الجيش المصري من كونه طليعة «الشعب المسلحة» ،كما قال عنه جمال عبد الناصر في 1952إلى «درع وسيف» بيد الشعب ،كما قال عنه انور السادات في 1974،وبمعنى جديد ،في مرحلة جديدة من تاريخنا الطويل. فهذا هو ماجرى عندما نزل الجيش المصري في 28يناير 2011،لينحاز إلى شعبه ،ضاربا عرض الحائط بمطالبة واشنطن له بأن يبقى على الحياد ،بين الثوار وبين إدارة مبارك(الطريق إلى ميدان التحرير :مصر والولايات المتحدة ،تأليف لويد غاردنر). أصبح الجيش درع الوطن وسيفه ضد الخطر الداخلي (ممثلا بقوى الفوضوية الأصولية) كما كان ،في معارك تاريخية سبقت ،درعه وسيفه ضد الخطر الخارجي. وبهذا أمكن أن تشهد مصر ،»ولأول مرة منذ آلاف السنين» كما قال الرئيس السيسي في بداية ولايته: «تسليما ديمقراطيا سلميا للسلطة» حيث «يصافح الرئيس المنتخب الرئيس المنتهية ولايته ويوقعان معا وثيقة تسليم السلطة». لقد كنت سعيدا بالسفر مع لوتشانا للقاء الناس والحديث إليهم ،وبترتيب لقاءات مع بعض أهم من حاورتهم ، وكنت سعيدا بحماس وكفاءة المترجمين محمد سعد الله ورباب سامي عبد النبي، لكني أكثر سعادة بهذه الشهادة من كاتبة أوروبية جمعتني بها (وبالمترجمين الشابين) زمالة لفترة لم تتجاوز عاما واحدا ،لمست أثناءها في لوتشانا بورساتي موضوعية ونزاهة جعلتاني أعتبرها «صديقة للحقيقة» ..وكل صديق للحقيقة هو ،بالضرورة ،صديق لأحلام وتطلعات الشعب المصرى.