شهدنا خلال الأسابيع الأخيرة مناوشات غريبة الطابع بين مجلس الشعب والحكومة, طالب فيها بعض أعضاء المجلس إسقاط الحكومة أو تغييرها, وتمسكت فيها الحكومة بعدم أحقية المجلس في ذلك, وهو حقا حوار غريب, فما أهمية وعجالة تغيير الحكومة وستتغير حتما بعد أشهر قليلة عقب انتخاب الرئيس المصري الجديد, وهل يعقل أن تنطلق الحكومة من أن مجلس الشعب ليس له حق محاسبتها, بصرف النظر عن أن قرار الإقالة من عدمه بيد المجلس العسكري. فهل يتصور سياسيا استمرار حكومة بعد سحب مجلس الشعب الثقة منها. ألم يكن الهدف من إجراء انتخابات مجلس الشعب مبكرا تمكين ممثلي الشعب من محاسبة الحكومة ثم رئيس الدولة سياسيا أزعجني كل ذلك لأنه يعكس أن الكل يتصرف علي أنه وحده صاحب القرار والرؤي المطلقة, في حين أن الهدف الحقيقي للثورة, وأساس أي نظام ديمقراطي, هو الشراكة في المسئوليات, واحترام الرأي و الرأي الآخر, فضلا عن وجود أمور عاجلة عديدة, مثل توفير الأمن, ووقف النزيف الاقتصادي, أهم من مصلحة الحكومة أو المجلس.
وأزعجني هذا العبث لأنه يعكس أن السياسيين في مصر لا يتسقون مع روح أو يقدرون حساسية المرحلة التاريخية التي نمر بها, و التي تحتم التركيز علي كيفية بلورة نظام ديمقراطي مصري يجمعنا و يشملنا جميعا, باختلاف معتقداتنا و مواقفنا السياسية, نظام يحمل عنوان الثورة المصرية ويترجمها إلي أسس ديمقراطية تضمن لنا حقوقا متساوية, و يرسخ قوة القانون ويحقق العدالة الاجتماعية. وأزعجتني هذه المهاترات لأنها جذبت انتباه الشعب بمختلف فئاته عن قضيتين رئيسيتين, و هما وضع دستور مصر يحدد هوية مصر الحاضرة و المستقبل.
لقد سئلت عن نظرة مصر المستقبلية و نظامها السياسي خلال جولة سريعة لي بالخارج مؤخرا, فحاولت طرح أفضل صورة لما يدور في مصر, دون إغفال الواقع, و نفي الأخطاء, أو التهوين من حجم التحديات التي تتعرض لها البلاد, وسئلت أيضا بتكرار و إلحاح عن فرص المرشحين المصريين للرئاسة, وهي القضية المهمة الثانية التي أمامنا, لنحدد من سيقودنا نحو المستقبل, و السؤال في حد ذاته دليل علي ما تشهده ساحتنا السياسية من تغيير, فلم أواجه طوال عملي العام ما يزيد علي 35 عاما إلا مع اقتراب نهاية الولاية الأخيرة للرئيس السابق, باعتبار أن التغيير كان قادما لا محالة. هناك تغيير بالفعل, رغم أنه ليس بالأسلوب المطلوب, فقد انتقلت مصر في أقل من عقد واحد من الزمن من الانتخابات غير مباشرة, يحدد نتائجها حزب واحد ممثل في البرلمان, إلي انتخاب رئاسي مباشرة عام 2005 بأكثر من مرشح و إنما بنتائج معروفة مسبقا, ثم إلي انتخابات رئاسية يتعدد فيها المرشحون إلي الدرجة التي يصعب علي أحد منا حصرهم.
أجد في ذلك إيجابيات كثيرة, وعدد من المخاطر الجادة علي مستقبل مصر. أولي الإيجابيات هي وجود عدد لا بأس به من المرشحين الذين لديهم فرص حقيقية للنجاح, فضلا عن عدد غير قليل من المرشحين الآخرين المتقدمين تسجيلا لمبدأ, أو تمهيدا لمواقف و طموحات مستقبلية, إذن لم يعد من الممكن الادعاء بعدم وجود من يصلح للمنصب, و من ثم لا يمكن الاستغناء عمن يتولي منصب الرئيس. و من محاسن الأمور أيضا أن أمامنا أكثر من مرشح صالح له فرصة حقيقية للنجاح, حيث يعني ذلك حتي الآن- أن هناك حراكا سياسيا حادا و تنافسيا. و شهدنا الدكتور الكتاتني علي منصة مجلس الشعب يدير جلساتها و يبادله الأعضاء الاحترام, و كان منذ عامين فقط يمثل المحظورة, كل ذلك و البعض ينفي حدوث تغيير في الساحة المصرية, و يحمل الثورة مسئولية الضبابية السياسية و عدم الاستقرار, و لا يعطيهما حقهما في تغيير الواقع السياسي المصري, فهناك تحول جوهري حدث و يحدث, مع إقراري بأننا لم نصل بعد إلي بلورة نظام ديمقراطي صحي يرتفع إلي مستوي تطلعات ثورة 25 يناير 2011, وأن خريطة الطريق وضعت بشكل غير سوي. و أتابع باهتمام تصريحات المرشحين المحتملين, و أجد الغالبية تتحدث في عمومات متشابهة, و عدا ارتباط بعضهم بخلفية سياسية فلا اختلاف حقيقي بينهم. وليس أمامنا حتي الآن في تقييم أو الاختيار بين المرشحين سوي الاستناد إلي خبراتهم السابقة, والتكوين الذاتي للمرشح, أو بمعني آخر هل الشخصية رئاسية أم لا, و ملائمة لقيادة مصر في مرحلة سياسية انتقالية, إلي أن تستلم قيادات سياسية شابة أخري دفة القيادة مستقبلا, أي أننا ننتخب رئيسا لوطن يمر ذاته بمرحلة انتقالية اجتماعية و اقتصادية و ثقافية وسياسية, تتطلب منه أن يكون سياسيا بالمعني الإيجابي لذلك, ومن أهم المسئوليات التي ستقع علي عاتقه ما يلي: أولا: إعطاء صورة و رؤية جديدة لمصر, في مزيج من الرزانة التاريخية و الحيوية الشبابية و الابتكار رغم أننا سنظل في مرحلة انتقالية, فالوضع الداخلي, أو الإقليمي لا يتحمل انتظار دورة رئاسية كاملة, وانتخابات أخري, قبل أن يشعر المواطن أو العالم أن مصر تغيرت, فإلي حين تحقيق التغيير الجوهري السياسي والمجتمعي الحقيقي, علي الرئيس الجديد في إدارته السياسية طرح شكل جامع رسالة خلاقة لمصر, لذا أقترح أن يعين عدد من نواب الرئيس, قبطي, وشاب, وامرأة, وممثل عن التيار الإسلامي, أو الليبرالي إذا كان الرئيس من التوجه الآخر, ليشكلوا مع الرئيس صورة جديدة للقيادة المصرية, مع العلم أن الرئيس سيظل الوحيد المخول شعبيا بقيادة البلاد. ثانيا: منذ ثورة يوليو 1952, ومصر نقسمة علي بعضها, أولا بين الإقطاعيين و الفلاحين, ثم حول الملك العام و الخاص, ثم بين الغني و الفقير, و مؤيدي السلطة و معارضيها, والليبرالي أو العلماني أو التيار الديني, وقد امتد ذلك و للأسف الشديد بين الحين والآخر إلي الفرقة بين المسلم و القبطي فيما بيننا, وإلي الاسترسال في توجيه اتهامات باطلة للتشكيك في إيمان أو وطنية كل من اختلف الرأي. وأدعو الرئيس الجديد فور انتخابه لتشكيل مجلس توافق وطني لا يتجاوز أعضاءه 10-15 فردا, يقوم باختيارهم بصفته الشخصية لمدة عامين قابلين للتجديد, للتحاور معه حول التوافق المجتمعي, و يعملون معه كجزء من مؤسسة الرئاسة, و هدفهم الرئيسي يكون ايجاد و صيانة علاقة مجتمعية مصرية جديدة. ثالثا: طرح سياسة اقتصادية متكاملة جديدة, تسمح وتشجع القطاع الخاص المصري و الأجنبي علي الاستثمار والابتكار, وتعمق و تسرع في وصول فوائد ذلك إلي جميع مواطني الشعب, بما في ذلك قيام الدولة بدور فعال في رقابة آليات السوق, وضمان توفير الخدمات والاستجابة لاحتياجات الطبقات الاقتصادية الدنيا, وهي الترجمة الحقيقية لما يسمي بالعدل الاجتماعي, وأول و لعل أهم الأولويات في ذلك هي توفير فرص عمل للمواطنين. رابعا: وضع تصور مستقبلي لمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا, وتوجيه سياساتنا الخارجية و الأمنية انطلاقا منها, فوزن أي دولة الخارجي مرهون بوضعه الداخلي, وينطلق في الأساس من ساحته السياسية الأولي, وهي الإقليمية العربية والأفريقية بالنسبة لمصر, وكانت ريادتنا الإقليمية سابقا وستظل فكرية في الأساس, والريادة الفكرية الإقليمية هي نقطة الانطلاق لاستعادة مكانتنا الإقليمية والدولية مستقبلا. المزيد من مقالات السفير: نبيل فهمى