حاولت كثيرا أن أبث بعض الطمأنينة في نفسي, وأقول في سري: شيء عادي جدا ما يحدث من فوضي.. وما تحاول الأغلبية أن تفرضه علي الناس باسم صندوق الانتخابات, فهذا زمن ثورة وفورة وارتباك وتصفية حسابات وانتهاز فرص, وقطعا سوف تهدأ الأمور وتستقر وتغلب مصالح الوطن مصالح الجماعات والأفراد.. وكنت اتجاهل مؤشرات خطيرة ودامغة بأننا ذاهبون في اسكة اللي يروح مايرجعشب, وأبرر ذلك بأن مصر هي أقدم دولة في التاريخ, وبشرها هم الذين دونوا اكتاب الموتيب قبل أن يهاجر إليهم أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم.. فالمصريون هم أقدم شعب علي ظهر الارض آمن بالتوحيد, والدين عنصر أساسي من تكوينه الوجداني والنفسي والعقلي..لكنه أيضا شعب عبقري لم يكن متشددا ولا متزمتا, وتمكن من تمصير المسيحية, فكانت مسيحية المصريين متفردة بين كل من اتبعوا السيد المسيح عليه السلام, و أيضا تمكنوا من تمصير الإسلام فكان إسلامهم وسطيا متسامحا عفيا واعيا عن كل من أمنوا برسالة سيدنا محمد (صلعم), أي كان فهم المصريين للديانتين الكبيرتين عميقا وخاصا بهم دون أي مساس بالجوهر العظيم للرسالتين..فكان للكنيسة المصرية اتباع من دول أخري, وكان للأزهر دوره المؤثر في كل العالم الإسلامي من الف سنة. ولم يحدث أن كان الإسلام غريبا أو مهددا أو واهنا أو متواريا في أي فترة من فترات التاريخ المصري بعد أن آمنت به الاغلبية, بعد قدومه إلي البلاد بمائتي عام تقريبا, وهذا لم يمنع من ظهور حالات تشدد وتعصب حين تضعف الدولة وتوهن سلطاتها ويتصارع عليها ذئاب السلطة, لكن مصر كانت قادرة دوما علي احتواء تلك الأحداث الخارجة عن طبيعتها وتسامحها.. وحين شقت جماعة الأخوان المسلمين طريقها إلي الوجود, كانت رافدا من روافد الجماعات الدينية, ولم تستطع أن تغير من طبيعة المصريين ولم ينضم إليها أغلبهم ولم تقترب العضوية فيها إلي نصف عضوية حزب الوفد بأي حال من الأحوال, ولم يستطع رجالها التفوق في أي انتخابات علي حزب الأمة في ذلك الوقت.. وكانت الجماعات الدينية والصوفية منتشرة وقائمة وتعمل, فالمدائح النبوية لا تتوقف عن الإنشاد في ليالي الذكر والموالد من أول إسكندرية إلي أسوان..والمساجد عامرة بروادها..وكتاتيب حفظ القرآن لها الغلبة علي نماذج تعليمية آخري.. كانت روح العصر وروح الدين تمضي جنبا إلي جنب في وطن يحاول أبناؤه أن يشقوا لها منفذا من التخلف والفقر والمرض إلي التقدم والتحضر والتنمية. صحيح أن مصر فشلت في كل تجارب النهوض الماضية, ليس بسبب بعدها عن الدين وأحكام الشريعة وسيرها في بناء الدولة علي قوانين غربية كما يحاول أن يفهمنا االإسلاميون الجددب! فهذا تفسير قاصر وساذج, أولا لأن قوانين مصر في 99% منها لا تخالف الشريعة علي الإطلاق حتي لو كان المصدر غربيا, بحكم أن االجديدب في المعارف السياسية والاقتصادية والتصرفات وتفسيرات العلاقات المؤسسية كان قادما من الغرب, بحكم أنها معارف جديدة ومستحدثة ولم يكن لها وجود من قبل مثل النظرية السياسية والدولة القومية, النظريات الاقتصادية, علم الإدارة والتنظيم, علم النفس, العلوم الطبيعية..الخ. ثانيا أن دولا إسلامية كثيرة لم تخلع ثياب التخلف, بل إن دولة مثل السودان انقسمت, ودولة مثل الصومال تحولت إلي دويلات متحاربة, وباكستان تكاد تتفتت, بينما النموذج السليم نسبيا هما ماليزيا وتركيا, وفيهما من مظاهر الحضارة الغربية الكثير. ونقل المعارف والعلوم لا يعني بالضرورة نقل الثقافة الاجتماعية الشائعة من عادات وتقاليد وأخلاق..ولم يحدث في مصر أن غزتها ثقافة أجنبية وعاشت فيها, لأن مصر عبر تنوعها الحضاري والتاريخي اكتسبت خصائصها الخاصة علي استيعاب ثقافة الآخرين وافرازها عسلا مصريا صافيا يكاد من فرط مصريته أن يكون نابعا من أرضها وناسها.. وما يقال عن الغزو الثقافي هو نوع من اللغط ونشر الفزع والرعب من االتحضرب, صحيح أن بعض المصريين قد يتغربون, وينزعون أنفسهم من جلدوهم الشرقية ويقلدون ثقافة الغرب تقليدا أعمي, لكنهم في النهاية جماعات صغيرة وفئات اجتماعية وطبقية محدودة, أما النهر العام فيظل مصريا محافظا..لأن هذه هي طبيعة شعب..حتي من قبل الديانات السماوية الثلاث. ولم يكن فشل تجارب النهضة سواء مع محمد علي أو في أوائل القرن العشرين أو مع ثورة 1952 مرجعه أي خصومة بين هذه التجارب والإسلام, وإنما مرجعه أن هذه التجارب عملت في جانب منها بثقافة القرون المظلمة, ولم تستطع قطع الروابط بتلك الثقافة المتخلفة وقيمها العامة (الكارو بجانب المرسيدس, العشوائيات في قلب الأحياء الحديثة), لتؤسس بدلا منها ثقافة حديثة وقيما جديدة, والقيم غير الأخلاق, مثل قيم المثابرة والجد والالتزام في العمل والاتقان واحترام الوقت وتقدير الكفاءة..الخ, وهي أيضا قيم إسلامية يتحدث عنها المسلمون ويكتبون عنها في كل الدول الإسلامية ولا يطبقونها علي الإطلاق.. وهذه القيم لا تعمل بمفردها وحسب رغبات الأفراد, إنما داخل نظام عام يفرضها, ويعاقب من يخرج عليها بالاستبعاد من الجماعة.. وذات مرة كنت في الولاياتالمتحدة وتعاطفت مع المشردين وهم ينامون في عز البرد تحت الكباري في صناديق خشبية, ودار حديث في وزارة الخارجية عن المعونات الأمريكية وتقدر بعشرين مليار دولار سنويا, فسألت: أليس من الأجدي لكم أن تبنوا بها منازل للمشردين؟! ردوا: قطعا..لا..حتي لا نفسد النظام العام..من يعمل بجد ويطور أدواته هو صاحب حق في العيش الكريم, ومن يخرج عن تلك القيم عليه أن يعاني, حتي لا تصبح عادات المشردين وسلوكياتهم نموذجا شائعا! منطق فيه قسوة إنسانية..لكن أيضا لا يخلو من وجاهة.. وبسبب ثقافة التخلف كان سهلا أن يحدث تراجع لنا كلما تقدمنا إلي الإمام خطوات, لأن لها جذورا متغللة منذ انهيار الدولة العباسية! ويبدو أن تلك الثقافة قد أحكمت قبضتها علينا الآن.. وهذا هو سبب القلق وهروب الاطمئنان! المزيد من مقالات نبيل عمر