أعلنت الحكومة أخيرا عن عدد من القروض الخارجية التى تم عقدها مع بعض المؤسسات المالية الدولية، والتى سيتم توجيهها بصفة أساسية إلى تمويل مشروعات البنية الأساسية. كما أعلنت الحكومة عن قرب طرح سندات فى أسواق المال الدولية للحصول على الموارد اللازمة لسداد مستحقات شركات البترول الأجنبية العاملة فى مصر، حتى تعود تلك الشركات إلى التوسع فى التنقيب والانتاج وسد احتياجاتنا المتزايدة من الطاقة. أما البيان المبدئى للموازنة العامة الجديدة فقد اكد اتجاه الحكومة لتفعيل آلية الصكوك، وكذا طرح السندات فى الخارج فى إطار تنويع مصادر التمويل. والسؤال الذى يطرحه الكثيرون هو هل تتجه سياستنا الاقتصادية إلى التوسع فى الاقتراض الخارجي؟ وماهى حدود ذلك التوسع؟ الوضع الحالي لمديونية مصر الخارجية لايزال فى الحدود الآمنة. بيانات البنك المركزى المصرى تؤكد أن نسبة ديوننا الخارجية إلى الناتج المحلى الإجمالى لا تتجاوز 12%، وأن الغالبية العظمى من تلك الديون هى ديون متوسطة وطويلة الأجل. أما الديون التى تمثل التزامات ملحة قصيرة الأجل، أى التى يتوجب علينا تدبير الموارد اللازمة لسدادها بشكل حال، فلا تزيد نسبتها على 8% من إجمالى القروض، كما أن القدر الذى تستنزفه أعباء خدمة الدين الخارجى من فوائد وأقساط لا يزال فى حدود 5% من الحصيلة الجارية لمواردنا من النقد الأجنبي. باختصار شديد عبء ديوننا الخارجية لايزال فى الحدود التى يتحملها اقتصادنا وتتحملها مواردنا من النقد الأجنبي. وهذا بالضبط هو ما يجب أن نحرص على استمراره. تجربتنا التاريخية للوقوع فى فخ المديونية الخارجية كلفتنا الكثير، على صعيد الاستقلال الوطني، وعلى صعيد التنمية الاقتصادية والاجتماعية الكفيلة بإحداث نقلة حقيقية فى مستوى معيشة الشعب المصري. التوسع فى المديونية الخارحية إلى حد العجز عن السداد هو الذى ساعد على ضرب تجربة الخديو إسماعيل لتحديث مصر فى القرن التاسع عشر، وخضوع ماليتنا للرقابة الأجنبية ورهن أسهم شركة قناة السويس للدائنين، لتصل المأساة إلى ذروتها بالاحتلال البريطانى لمصر فى عام 1882. كما أن التوسع فى المديونية الخارجية، ثم العجز عن السداد فى القرن العشرين هو الذى دفع بنا إلى طلب إعادة الجدولة من الدول الدائنة فى إطار نادى باريس فى بداية التسعينيات وأوقعنا تحت شروط صندوق النقد الدولي، وعلى رأسها الخصخصة ومبادلة الديون بالأصول، بما أسفرت عنه من تفكيك لبنيتنا الإنتاجية وتشريد لعمالتنا الصناعية الماهرة وهيمنة للاحتكارات الخاصة الأجنبية والمحلية على عدد معتبر من الصناعات وقطاعات النشاط الاستراتيجية وعلى رأسها الأسمنت وحديد التسليح. تجربة قاسية ومؤلمة جعلت حتى نظام مبارك يستن قاعدة حرص على الالتزام بها منذ أواخر التسعينيات، تتمثل فى ألا يتم الاقتراض من الخارج إلا تقريبا فى حدود ما يتم سداده. لا أحد ينكر أننا فى حاجة ملحة لموارد مالية ضخمة لمواجهة الخراب الذى خلفه نظام مبارك فى مجال البنية الأساسية، والخدمات العامة، سواء تعلق الأمر بشبكة المياه النقية أو الصرف الصحى أو الكهرباء، ناهيك عن المدارس والمستشفيات والمساكن الآدمية للقاعدة العريضة من المصريين. لا أحد ينكر أن معدل الادخار المحلي، والذى لا يتجاوز 8% هو معدل مزر بكل المقاييس مقارنة بالدول التى تماثلنا فى مستوى الدخل، وأننا نحتاج إلى معدلات ادخار لا تقل عن 25% كى نقوم بتمويل الاستثمارات التى تسمح برفع معدلات النمو والتشغيل وتحقيق طموحات الشعب المصرى فى الحياة الكريمة. ولكن المشكلة أن الحكومة لا ترى لكل ذلك إلا حلا وحيدا هو اللجوء للتمويل الخارجي، سواء فى شكل قروض أو استثمارات أجنبية. حكومتنا ترفض رفع معدلات الادخار من خلال الضرائب التصاعدية وتكثيف تعبئة الموارد المحلية. حكومتنا تقوم بتخفيض الضرائب على الطبقات القادرة، ثم تشكو لنا من عجز الموازنة الذى يضطرها للاستدانة! المفروض أن يتم عرض اتفاقيات القروض على البرلمان لمناقشتها والتصديق عليها. وبما أنه ليس لدينا برلمان ولا حوار مجتمعى فنحن لا نعرف أى شيء عن شروط تلك القروض. الأمر هنا لا يتعلق فقط بالشروط المالية، فنحن نعلم أنه حتى القروض الميسرة ذات أسعار الفائدة المنخفضة وآجال السداد الطويلة يمكن أن تقترن بشروط تتعلق بسياسات ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية عميقة الأثر. لا ننسى مثلا أن القرض الميسر الذى حصلت عليه مصر منذ عشر سنوات من البنك الدولى وبنك التنمية الإفريقى لإعادة هيكلة البنك الأهلى المصرى وبنك مصر، وزيادة رؤوس أموالهما قد اقترن بشرط بيع بنك الإسكندرية. وانتهى الأمر إلى أننا دفعنا 7 مليارات جنيه لسداد ديون الشركات العامة لبنك الإسكندرية، وحصلنا على 9 مليارات جنيه ثمنا له! ولكن الخسارة الحقيقية أنه تم بيع ذلك البنك الذى ظل لسنوات طويلة معنيا بتمويل القطاع الصناعى ليؤول إلى بنك عالمى متخصص فى التجزئة المصرفية، وبذلك تم تغيير النشاط الرئيسى لبنك الإسكندرية، وأصبح نصف ما يمنحه من قروض موجها للأفراد وليس للمشروعات. نريد سياسة حقيقية لتعبئة كل قرش من مواردنا المحلية لتمويل المشروعات الإنتاجية والخدمات الأساسية. نريد شفافية مطلقة بشأن اتفاقيات القروض الخارجية وشروطها. نريد التأكد من كفاءة استخدام القروض وتوجيهها إلى المشروعات التى تعزز قدرة الافتصاد المصرى على النمو، وتكفل سداد المديونية. نريد التأكد من عدم الوقوع مجددا فى فخ المديونية الخارجية. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى