رغم تفشى الديكتاتورية، وانتهاك حقوق الإنسان والفقر والفساد والأوبئة إلاّ أن ربع القرن الأخير شهد زيادة ملحوظة للبقع المضيئة فى إفريقيا المظلمة. لم تَعُد الأمثلة قاصرة على الفريق سوار الذهب فى السودان أو العقيد ولد فال فى موريتانيا للتدليل على الزهد فى السلطة وعلى احترام إرادة الشعوب بل لحق بهما كثيرون أجروا انتخابات حقيقية وخسرها بعضهم أمام مرشحين معارضين فأعادوا الأمل لعامة الأفارقة أن يروا يوماً تتحسن فيه أحوال معيشتهم وتُحترم إنسانيتهم. سوار الذهب انحاز لانتفاضة الجماهير لإنهاء حكم نميرى الدموى عام 1985 ورفض توسلات الأحزاب لتأجيل الانتخابات حتى تستكمل استعداداتها وسلّم السلطة للحكومة المنتخبة فى الموعد المحدد وانصرف لشأنه الخاص، وولد فال أطاح بنظام ولد الطايع القمعى قبل اتساع بركان الغضب الشعبى عام 2005 ولم يكتف بتسليم السلطة فى الموعد المحدد لرئيس منتخب والتوجه إلى بيته الريفى للاستمتاع بالقراءة ورعاية إبله وغنمه،بل حرّم على نفسه وأعضاء المجلس العسكرى الترشح لأول إنتخابات رئاسية وبرلمانية ومحلية حتى لا يُتهموا باستغلال النفوذ. الحكام الديكتاتوريون الذين عرضنا لمعظمهم الأسبوع الماضى يقابلهم آخرون اقتنعوا على الأقل بفضيلة الديمقراطية وسمحوا بتطبيقها فى بلادهم. فحتى عام 1973 لم يكن فى القارة كلها سوى ثلاثة رؤساء منتخبين ديمقراطياً،وبقى العسكر يحكمون 43 بلداً حتى عام 1980،لكنّ العدد ارتفع إلى 35 حتى عام 2001 بصرف النظر عمّا إذا كانت الانتخابات حقيقية أم شكلية.كما أعلنت مؤسسة «موإبراهيم» صاحبة جائزة الحكم الرشيد الإفريقية القيّمة أن ثلثى دول إفريقيا جنوب الصحراء شهدت تحسناً فى الحكم بحلول عام 2006 خاصةً فى مجالات حقوق الإنسان وحكم القانون والأمن، وأن 94% من سكان القارة أصبحوا يعيشون فى دول شهدت تنمية شاملة فى نظام الحكم منذ عام 2000. كما تولّت أول امرأة إفريقية هى إيلين جونسون- سيرليف رئاسة ليبيريا وتبعتها جويس باندا فى مالاوى وكاترين سامبا- بانزا فى إفريقيا الوسطي. إفريقيا التى شهدت احتفال ميلتون أوبوتى فى أوغندا بزفافه بحضور 28 ألف مدعو على نفقة الدولة وقوله إن على الشعب أن يتحمل إنفاق قادته الذين جلبوا له الحرية،وكذلك شراء جومو كينياتا أول رئيس لكينيا بعد الاستقلال أغلى ثلاث سيارات فى العالم بعد قليل من اعتلائه الحكم،والتى ابتُليت بحاكم يأكل لحوم البشر مثل جامبوديل بوكاسا إمبراطور إفريقيا الوسطى وبروبرت موجابى الذى حطّم الرقم القياسى فى رفع نسبة التضخم إلى أرقام فلكية فى زيمبابوى، هى إفريقيا التى شهدت نماذج مشرّفة فى احترام إرادة شعوبها وحقوقهم وإنسانيتهم.فإذا كان تخلِّى ليوبولد سينجور عن حكم السنغال وتفرغه للأدب شابته شبهة الهروب من أعباء حكم شعب يعانى من الفقر والجهل والمرض فهاهو الجنرال إبراهيم عبُّود حاكم السودان سنة 1964 يسأل مساعديه عن سبب احتجاج الجماهير حول مقر إقامته،فلمّا أبلغوه أنهم يعترضون على سياسة الأرض المحروقة التى ينتهجها الجيش ضد المتمردين فى الجنوب طلب من أعضاء مجلسه العسكرى التفاوض معهم وأمر بعودة القوات إلى ثكناتها وقال جملته الشهيرة:«إذا كانوا لا يريدوننا فلماذا نبقى هنا؟».ولمّا سأله رئيس الحكومة الانتقالية عمّا إذا كان له مطلب شخصى قبل أن يتنحى قال بعد تردُّد: «اسمحوا لابنى الدارس فى انجلترا بالإقامة بمنزل السفير لأن معاشى لن يكفى نفقات دراسته». وفى موزمبيق تنحى يواكيم شيسانو عن الحكم عام 2005 رغم سماح الدستور له بفترة ثالثة وهو فى قمة نجاحه بإنهاء الحرب الأهلية وتحقيق المصالحة بين فئات الشعب وترسيخ الحكم الديمقراطى وإنعاش الاقتصاد والحد من الفقر ومكافحة الإيدز فاستحق عن جدارة جائزة الحكم الرشيد عام 2007، ومثله فعل فيستوس موجاى رئيس بوتسوانا وبيدرو فيرونا بيريس رئيس جزر الرأس الأخضر، فاستحق الأول الجائزة عام 2008 تقديراً للرخاء والاستقرار اللذين حققهما لشعبه وإنقاذه من براثن الإيدز، ونالها الثانى عام 2011 لقيادته حرب الاستقلال عن البرتغال ورفع مستوى معيشة الشعب وتدشينه نظام التعددية الحزبية وتركه كرسى الرئاسة طواعيةً بانتهاء مدته الثانية.وفى ناميبيا، وقبل أن يسلِّم الحكم للرئيس المنتخب فاز هيفيكدبونى بوهامبا بجائزة 2015 تقديراً لنجاحه فى رفع مستوى معيشة بنى وطنه، وتحسين مستوى التعليم والالتزام بالديمقراطية خلال السنوات العشر التى قضّاها فى السلطة. هناك أيضاً من احترموا شعوبهم وإن لم ينالوا الجائزة من بينهم رئيس زامبيا روبياه باندا الذى سمح بفوز مرشح المعارضة مايكل ساتا عليه عام 2008 وقال مقولته الشهيرة: «لقد قال الشعب كلمته ويتعين أن نصغى إليها وليس أمامنا سوى التسليم بالهزيمة»، وفى غانا وخلال العام نفسه فاز المعارض جون أتا ميلز على المرشح الحكومى بفارق 30 ألف صوت فقط،لو أرادت الحكومة جمعها من دائرة واحدة بالتزوير لفعلت دون أن يشعر أحد، وفى 2012 فاز مرشح المعارضة ماكى صال على رئيس السنغال عبدالله واد الذى اعترف بالهزيمة، وأخيراً وليس آخراً وقبل أيام فقط،فاز محمد بخارى مرشح المعارضة فى نيجيريا أحد معاقل الديكتاتورية وحكم العسكر على الرئيس جودلاك جوناثان الذى هنًأه وقال مهدّئاً أنصاره:«طموحات الإنسان لا تستحق إراقة دم نيجيرى واحد». لمزيد من مقالات عطيه عيسوى