رحل الزعيم الأفريقى نيلسون مانديلا... بعد حياة حافلة ومليئة بالإنجازات فى مجال الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وإنهاء العنصرية. رحل نبراس الحرية ورمز الإنسانية وأيقونة النضال والثورة ومصدر الإلهام للشعوب. رحل الرجل الذى علّم العالم بأسره معنى أن تكون إنسان، وأن تدافع عن مبادئك وما تؤمن به من أفكار، حتى لو كلفك هذا السجن لمدة 30 عامًا. لقد كان لمانديلا، الحائز على جائزة نوبل للسلام فى عام 1993، دورًا عظيمًا فى إنهاء نظام الفصل العنصرى (الأبارتيد) فى جنوب أفريقيا، وقاد شعبه بشجاعة غير مسبوقة حتى الحصول على الاستقلال، وتم تنصيبه أول رئيس ذو بشرة سمراء لجنوب افريقيا فى عام 1994، ولأنه ليس طامعًا فى السلطة أو باحثًا عن منفعة شخصية أو مجد لنفسه، فقد آثر أن يبتعد ولا يختفى نهائيًا، وتنازل عن ترشحه لرئاسة جنوب أفريقيا لفترة ثانية، لأنه كان يؤمن أشد الإيمان بضرورة تداول السلطة التى هى ركن أصيل من أركان الديمقراطية. عاش مواطنو جنوب افريقيا فى ظل حكم نيلسون مانديلا (التى امتدت إلى خمس سنوات) كمواطنين حقيقيين من الدرجة الأولى وليس كعبيد، كما كان يفعل البيض أثناء الحكم العنصرى البغيض، كما أنه حارب الفقر وعدم المساواة فى المجتمع، واستطاع أن يحقق عدالة انتقالية ومصالحة وطنية شاملة وحقيقية بين جميع الأطراف السياسية بمن فيها أحزاب البيض الذى ناضل ضدها وكانت سببًا فى دخوله المعتقل، بالرغم من أن قطاعًا واسعًا من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام السابق، لكنه وقف ضد ذلك، وبرهنت الأيام أن هذا كان الخيار الأمثل، فلولاه لدخلت جنوب أفريقيا إلى آتون الحرب الأهلية أو العودة إلى الديكتاتورية من جديد. أعطى مانديلا دروسًا فى العطاء والصمود والكفاح والنضال والشجاعة والتسامح وحب الوطن والعمل من أجله وعدم اليأس والتمسك دائماَ بالأمل حتى إذا كان مستحيلاَ، لأن الأمل موجود مادامت الحياة.. وهو الذى قال "الموت هو شىء لا مفر منه، والأهم من ذلك هو أن يقوم المرء بواجبه تجاه شعبه ووطنه قبل الممات" وقال أيضًا "الجبناء يموتون مرات عديدة قبل موتهم، والشجاع لا يذوق الموت إلا مرة واحدة". مانديلا يجسد الفارق البسيط بينه وبين كثير من رؤوساء العالم الذين لاهم لهم إلا مصلحتهم الشخصية والتتشبث بكرسى السلطة حتى لو كان هذا على حساب أوطانهم، فعندما خرج من السجن كان رئيسًا لكل أبناء وطنه يعمل من أجلهم جميعًا بدون أى تفرقة فاستحق التكريم والاحترام والإجلال من كل الدول، وعندما شعر بأنه قد أدى رسالته على أكمل وجه ترك المنصب لغيره ليكمل المسيرة من بعده. نيلسون مانديلا هو رمز كبير فى تاريخ البشرية كلها ورجلاَ من طراز فريد نادرًا ما يتكرر، فهو لم يكتف بالتفاعل مع قضية شعبه فقط، بل استشعر آلام المظلومين فى جميع أنحاء الأرض دون أن يفرق بينهم على أساس ألوانهم أو عناصرهم أو بلدانهم أو أديانهم، فدعم القضية الفلسطينية، وشارك فى إنهاء الصراعات المسلحة فى العديد من البلدان الأفريقية كبوروندى وزيمبابوى، وعارض بشدة احتلال أمريكا للعراق، كما أنه ركز على العمل الخيرى فى مجال مكافحة الفقر وانتشار الإيدز من خلال المؤسسة التى تحمل اسمه. ولأن الإنسانية لا تموت أبدًا فسيظل مانديلا حيًا فى قلوب وضمائر شعوب العالم أجمع وخالدًا فى ذاكرة التاريخ، تاركًا سيرة ملهمة وحافرًا اسمه بحروف من نور. وستبقى أفكاره ومبادؤه هى نبراس للباحثين عن الحرية والمتعطشين إلى الحق والعدل والمساواة فى كل مكان. ويا ليت يتعلم الحكام العرب من هذا الزعيم والمعلم والقائد، الذى عاش ومات عزيزًا وشريفًا لا بحث عن مال أو جاه ولا استسلم إلى بريق السلطة، وانحاز دائمًا إلى وطنه وشعبه. فالشعوب العربية فى هذه اللحظات الدقيقة والمرحلة الحرجة فى حاجة إلى "مانديلا" لينتشلها من ما هى فيه الآن، ليعمل من أجلها فقط، ولتتوحد وراءه وبدون أى تفرقة تحت هدف قومى ووطنى يحقق مصلحة الجميع. فهل سنجد فى المستقبل القريب من يمكن أن يطلق عليه مانديلا العرب؟