"لقد قضت القومية الإنجليزية على حزب العمال في إنجلترا، وقضت القومية الاسكتلندية على حزب العمال في اسكتلندا". هذا مدخل لمحاولة فهم أكبر هزيمة يعانيها حزب العمال البريطاني خلال 20 عاما. أسأل أي إنجليزي عن أكثر ما يستوقفه في المشهد السياسي البريطاني اليوم؟ في 99% من الحالات سيكون الرد: صعود القومية الاسكتلندية. وهو صعود يرد عليه الانجليز بمشاعر قومية انجليزية مضادة. ففي ريتشموند جنوبلندن، انتشرت الاعلام الانجليزية البيضاء يتوسطها الصليب الأحمر على نوافذ بعض البيوت، تماما كما يحدث خلال مباريات كرة القدم التي تشارك فيها انجلترا. البعض يرى هذا ردا على انتشار الأعلام الاسكتلندية في اسكتلندا، ودعما ضمنيا لمقترح رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون إجراء تعديلات قانونية تعطي النواب الانجليز وحدهم حق نظر كل ما هو متعلق بشئون انجلترا في البرلمان البريطاني، على غرار برلماني اسكتلندا وويلز. عندما ينظر حزب "العمال" البريطاني إلى هذه الصورة المعقدة لابد وأن ينتاب المسئولون فيه الكثير من المخاوف والقلق. فلو أن فشل حزب "العمال" الذريع كان سببه ضعف زعامة إد ميليباند، فهذه مشكلة يمكن أن تحل بعدما أستقال وتحدد شهر سبتمبر المقبل لإجراء انتخابات داخل الحزب لإختيار زعيم جديد. ولو كان سبب الفشل ضعف برنامجهم الاقتصادي ووقوفهم يسارا أكثر من اللازم في انجلترا، ويمينا أكثر من اللازم في اسكتلندا، فالحل هو برنامج اقتصادي أفضل يستجيب لتطلعات الناخبين شمالا وجنوبا. لكن الحقيقة أن "العمال" لم يخسروا فقط بسبب غياب الزعامة وضعف البرنامج الاقتصادي، بل أيضا بسبب تناحر الهويات القومية في بريطانيا، وإستخدام ذلك سياسيا من قبل "القومي الاسكتلندي" و"المحافظين" و"حزب استقلال بريطانيا" أو (يوكيب). وكسل وفشل حزب العمال في فهم التحولات الكبيرة التي تمر بها بريطانيا. فنتائج الانتخابات تقدم صورة معقدة عن تأثير العامل القومي المتزايد في السياسة البريطانية يمكن تلخيصها اجمالا كالتالي: الاسكتلندي يصوت للاسكتلندي. والإنجليزي يصوت للمحافظين ويوكيب. والبريطاني (مجموع هويات انجلترا واسكتلندا وويلز) يصوت للعمال والاحرار الديمقراطيين. ففي اسكتلندا خسر "العمال" 40 مقعدا كلها ذهبت للحزب القومي الاسكتلندي. وفي انجلترا وويلز خسر "العمال" 26 مقعدا كانت تعتبر تقليديا مراكز نفوذ للعمال، بغالبيتها السكانية من الانجليز الذين ينتمون للطبقات العمالية متوسطي التعليم ومحدودي الدخل. لكن هؤلاء صوتوا بكثافة للمحافظين ول"يوكيب" الذي بات ثالث أكبر حزب بريطاني من حيث التمثيل الشعبي حيث حصل في الانتخابات على نحو 13% من الأصوات. بالمقابل، حقق "العمال" نتائج جيدة في ويلز كما هو معتاد منذ عقود. لكن المنطقة الوحيدة التي حقق فيها "العمال" نتائج أفضل من انتخابات 2010 كانت لندن، مدينة "الاقلية الانجليزية"، حيث يشكل الانجليز 45% من السكان. وما ترسمه صورة هذه النتائج باختصار هو تصويت على أساس قومي وهذا شيئ جديد تماما على السياسة البريطانية. فلقرون طويلة كانت "الوحدة السياسية" هى الرابط الأساسي بين اسكتلندا وانجلترا، وكانت كلمتا "بريطاني" و"انجليزي" تستخدم بلا تفريق. لكن الانتخابات البرلمانية آخر مؤشر على أن هذا يتغير بسرعة كبيرة. وأفضل وصف للبرلمان الحالي هو انه "برلمان واحد بحكومتين". فالانجليز يدعمون مواصلة نقل السلطات تدريجيا إلى اسكتلندا وويلز، ونحو 75% منهم ترفض التراجع عن مبدأ نقل السلطات. إلا ان الغالبية أيضا تشعر بغضب شديد من تأثير ذلك على الميزانية العامة. ويرون أن اسكتلندا، التي يشكل سكانها نحو 8% من مجمل سكان بريطانيا، تأخذ اكثر من حقها في الميزانية. وآخر استطلاعات الرأي تشير إلى أن نسبة الانجليز الذين يرون أن الاسكتلنديين يأخذون أكثر مما يستحقون ارتفعت من 25% إلى 50% خلال 10 سنوات. وخلال الانتخابات البرلمانية الاخيرة انتشرت نكات عن "الاسكتلنديين الذين يريدون الاستقلال نهارا، لكنهم يقومون بمداهمات وغارات ليلا على الحدود الانجليزية لسرقة خزائن الانجليز". الهوة بين "الانجليزي" و"البريطاني" في اتساع ايضا. وفي الاستطلاع السنوي ل"التوجهات الاجتماعية للبريطانيين"، قال 55% من الناخبين الانجليز عام 1997 إنهم يرون أنفسهم بريطانيين. بينما قال 33% إنهم يرون انفسهم انجليز فقط. بحلول 2012، انخفضت نسبة من يرون انفسهم بريطانيين من 55% إلى 43%، فيما ارتفعت نسبة من يرون أنفسهم انجليز فقط من 33% إلى 43%. ويقول مايكل كيني الكاتب والاكاديمي المتخصص في تاريخ بريطانيا إن صعود "يوكيب" لم يكن ليحدث لولا صعود المشاعر القومية الانجليزية. الانتخابات الأخيرة أثبتت أن المحافظين و"يوكيب" يمكن أن يحققا نتائج ممتازة مع تصاعد المشاعر القومية الانجليزية والاسكتلندية. لكن "العمال" سيكونون الخاسر الأكبر كما حذر رئيس الوزراء البريطاني السابق جوردون براون الذي قال إن النبرة المعادية للانجليز في اسكتلندا، والنبرة المعادية للاسكتلنديين في انجلترا لن تؤدي إلا إلى صراع قوميات مفتوح. وهذه هى الاستراتيجية التي لعب عليها المحافظون بمهارة شديدة. ففي كل استطلاعات الرأى قبل الانتخابات وجد المحافظون أنه كلما ذكرت كلمة "اسكتلندي" إلى جانب حزب العمال، حقق "العمال" مستويات دعم هزيلة جدا. وكان قرار جورج اوزبورن وزير الخزانة، والعقل المفكر وراء الحملة الانتخابية وشعاراتها مع باقي مسئولي الحملة هو أنه يمكن حسم الانتخابات في أخر 72 ساعة بالتركيز على كلمات مثل "برلمان معلق"، و"صفقة العمال مع القوميين الاسكتلنديين"، و"أخطر أمرأة في اسكتنلندا" في إشارة إلى نيكولا ستورجيون، و"ابتزاز"، و"المحرك الخفي" في إشارة إلى اليكس سالمون القيادي البارز في "القومي الاسكتلندي" الذي تسرب له فيديو يقول فيه "سنكتب نحن ميزانية بريطانيا إذا فاز العمال". وقد كان فالغالبية البرلمانية المفاجئة التي حققها المحافظون تعود بالاساس للعب على تباين الهويات القومية المتزايد في بريطانيا. صعود القوميات ليس ظاهرة بريطانية فقط. ففي فرنسا واسبانيا واليونان وفنلندا هناك صعود للقوميين ايضا. لكن بريطانيا أكثر من غيرها مؤهلة كى تتغير بشكل جذري إذا ما سعت قومياتها المختلفة للتحرر من عبء "الإتحاد البريطاني" وما يفرضه من تسويات