منذ انطلاق عملية عاصفة الحزم، وضعت دول التحالف، وعلى رأسها السعودية، مجموعة من الشروط لأجل إنهائها، تمثلت في: اجتماع جميع الأطياف السياسية اليمنية تحت مظلة مجلس التعاون فى إطار التمسك بالشرعية ورفض الانقلاب عليها، وعودة الدولة لبسط سلطتها على جميع الأراضى اليمنية، وإعادة الأسلحة إلى الدولة، وعدم تهديد الحوثيين لأمن الدول المجاورة. وبالتأكيد أن هذه الشروط تشكل الهدف الأساسى لعملية عاصفة الحزم، وتشكل الصيغة الأمثل لاستقرار اليمن على المدى الطويل، ولكن على ضوء ما تكشف من أوضاع يمنية داخلية معقدة، وتحولات مسرح الحرب ونتائجها، والحاجة إلى تفكير براجماتى يستوعب هذه التحولات ويحقق هذه الشروط تدريجيا، فربما كانت هناك حاجة لإعادة تحديد الأهداف بما يتسق مع الهدف الأسمى للتحالف وهو عودة الاستقرار، وعودة اليمن كبلد عربى وليس إيرانيا. مفارقات العاصفة أكدت إدارة العمليات العسكرية من جانب دول التحالف اختلاف «عاصفة الحزم» عن أى حروب إقليمية أخرى من حيث أهداف الحرب ومعانى الانتصار فيها. فبحكم كون اليمن دولة عربية، وفى ظل سياق الحرب التى اندفعت بمواجهة التمدد الحوثى والتغلغل الإيراني، فإن معانى الهزيمة والنصر مختلفة، وربما أنها ليست من الأهداف التى تشبع نفسية دول التحالف، كما أن الطريق إلى تحقيق انتصار فى اليمن سوف يمر بمنعرجات ومنحدرات بالغة التعقيد، قد تأتى على المستهدف من الحرب، وقد تقلبها -إذا طال أمدها- إلى حرب تحرير ومنازلة كبرى للاستقلال اليمني، وما أسهل ما تجذب هذه الشعارات البراقة أذهان البائسين والمهمشين، خصوصا تجاه بلاد أخرى بالغة الثراء فى جوارهم غالبا ما استشعروا تجاهها بمزيج من مركب الحرمان والاستعلاء، وهو ما قد ينتهى إلى تسكين اليمن كله فى خانة أخرى ضمن الهلال الشيعي. ومن المرجح أن تقليص الخسائر العسكرية والبشرية فى ظل المواجهات البرية كان بين الحسابات الأساسية لقيادة التحالف، ولكن من المرجح أيضا أن حساباتها بشأن يمن ما بعد الحرب كانت عاملا أساسيا جعلها تتردد فى استمرار العاصفة بالوتيرة ذاتها، فالضربات الساحقة للحوثيين وهم فصيل سكانى أساسى ولبقايا الجيش اليمني، والخسائر فى البنية التحتية من المنشآت والمؤسسات، وفى صفوف المدنيين، كلها عوامل كانت ماثلة أمام قيادة التحالف، ودفعتها إلى اتخاذ قرار بوقف العملية على نحو مفاجئ بشكل بدا للبعض هزليا، ولكنه عكس فى الحقيقة انتصارا للحكمة. لقد نظر البعض إلى موافقة القوى الكبرى على القرار الأممى 2216 نظرة تآمرية، ورأى أنه استهدف دفع دول التحالف للتورط العسكرى لأقصى مدى بهدف إدخال النظام العربى ودول الخليج فى حرب طويلة تغل يدها عن الانطلاق فى ساحات أخرى وتستنزف مالياتها وقدراتها العسكرية، ولكن هذه الدول قررت - فى استدارة ذكية - ترشيد توظيفها للقرار الدولي، على نحو أكد أن القرار السياسى والعسكرى العربى يتحلى بعناصر حكمة ويمكن ائتمانه من المجتمع الدولى فى مهام تالية. الخبرة الأمريكية ولو أن الولاياتالمتحدة هى التى كانت على رأس تحالف عاصفة الحزم، لأخذت المواجهات مع الحوثيين ودخل اليمن مسارا آخر، فمن خلال خبرات الحروب الأمريكية فى أفغانستانوالعراق عامى 2002 و2003 كانت واشنطن تفرض الهزيمة القاسية على الخصم، ولم تكن تتورع عن اقتلاع نظامه واحتلال أراضيه وإعدام قادته أو اعتقالهم فى السجون الداخلية أو ترحيلهم إلى السجون الأمريكية على نحو يكرس لواقع إذلال مهين. ولم يكن الحرص على الوجود السياسى للآخر أو إعادته إلى الأمة العربية أو التوقف عند نقطة محددة والقبول بأنصاف الانتصارات خيارا مطلقا. بينما فى عاصفة الحزم كان هناك قيد أساسى على دول التحالف، فالهدف الإبقاء على اليمن عربيا ومنعه من السقوط فريسة لإيران. وحتى الآن لم يجر معرفة أسباب الإعلان المفاجئ عن وقف عاصفة الحزم(رغم استمرارها بمعدلات أقل)، ولكن الملاحظ أن دول التحالف استجابت للمبادرات السلمية المطروحة، وأنه على الرغم من افتقاد الدلائل التى تشير إلى التزام الحوثيين بأى منها على الأرض، فإنها قررت من جانب واحد تحويل مسار العملية، والتعلق بأقل بارقة أمل فى التنازل السياسى من جانب الحوثيين. مهام عربية ثلاث أمام التحالف العربى فى اليمن ثلاث مهام أساسية: الأولى: الإشراف على العملية السلمية والحوار الوطنى الجديد: فمن حسن الحظ أن مهمة إعادة بناء الدولة فى اليمن لن تبدأ من فراغ، فاليمن هو أحد الدول العربية التى شهدت ثورة، لكنها لم تكتمل، ومع ذلك فقد جرى استثمار بعض الأشهر فى حوار وطنى جاد جرت فيه مناقشة كل شيء، ومن يتصفح مرئيات ووثائق هذا الحوار الذى استمر خلال الفترة من 18 مارس 2013 حتى 25 يناير 2014، يتضح له أن اليمنيين قد اتفقوا على مختلف جوانب الخلاف الممهدة لانطلاق ماكينة الدولة الجديدة الحديثة العصرية، لكن مؤهلات الانطلاق غير موجودة. فلقد جرى الاتفاق على المرئيات والوثائق، ولكن لم تتوافر الآليات والقدرات على الأرض، وظلت القيادات والقوى السياسية تتعامل برؤى وخبرات وأدوات الماضى مع وثيقة عصرية، وانتهى الأمر بأن أغرى اختلال موازين القوى فى ظل ثورة - مع ضعف الحكم - فصيلا سياسيا لانتهاز فرصة فراغ السلطة، فانطلق لحيازتها بالقمع والقهر. لقد جرى (فى الحوار الوطنى اليمني) تقديم معالجات ورؤى لكل قضايا الصراع فى اليمن، سواء كانت قضية الجنوب أو قضية صعدة والحوثيين أو القضايا ذات البعد الوطنى كالمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، أو قضايا بناء الدولة والحكم الرشيد، أو أسس بناء الجيش والأمن ودورهما أو استقلال الهيئات والمؤسسات، أو الحقوق والحريات أو التنمية الشاملة والمستدامة. ومن ثم لن يكون التحالف العربى الذى سيشرف على عملية الانتقال السياسى فى اليمن إزاء مهمة صعبة، لأن هناك تصورات وتفاهمات وتوافقات يمنية بشأن كل المشكلات الداخلية، ولكن فقط مجرد الإشراف على التزام الكل بتنفيذ التعهدات. وهو ما يحتاج إلى إشراف دولى وعربى وخليجي، من خلال المنظمات الثلاث الأممالمتحدة وممثلها باليمن، والجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي. ومن المرجح أنه فى ظل الحوار اليمنى الجديد سوف يجرى إعادة طرح بعض القضايا التى لم تكن محل رضا من جانب بعض الأطراف، وقد يجرى فتح موضوع إعادة توزيع الحصص والتمثيل بالمؤسسات وتقسيم الأقاليم. كما سوف تجرى إضافة بعض الملفات والقضايا الجديدة التى تفرعت عن نتائج المواجهات فى ظل عملية عاصفة الحزم. والثانية: التدخل لإعادة تكوين الجيش اليمني: فعلى الرغم من أن قرار وقف العاصفة قد يبدو وكأنه بمنزلة ترشيد أو إنهاء لعمليات التحالف العسكرية، فإن التحالف سيكون إزاء مهمة جديدة وطويلة فى اليمن إذا انتهى الجميع إلى التسوية السلمية، فدور التحالف والوجود العسكرى البرى العربى لا غنى عنه، وهو أمر حيوى لمستقبل الاستقرار فى اليمن. وهو ما يشير إلى ضرورة الإسراع فى بناء القوات العربية المشتركة، حيث إن تركيبة الحكم، سواء استمر الرئيس منصور هادي، أو جرى التوافق على استبداله بالدكتور خالد بحاح رئيس الوزراء ونائب الرئيس، أو بأى أحد آخر، سوف تستدعى توفير عناصر حماية للنظام الجديد، من الأفضل ألا تكون من بين اليمنيين من أى من الجانبين، وإنما من الأنسب أن تكون بقوات عربية ترفع العبء النفسى والسياسى عن أطراف الصراع اليمني. وسوف تحتاج قوات الجيش اليمنى ولفترة طويلة إلى عمليات التدريب وإعادة التشكيل والتأهيل والصهر الوطني، فى ظل ما أظهرته خبرة الجيش فى العقود الماضية، فلا تزال قوات الجيش قبلية أسرية، تتمحور حول القبيلة والشخص والمصالح، ولا تلتزم قواعد الاحتراف والعسكرية المنضبطة، ولا يعنى ذلك التخلص من الجيش اليمنى على نحو ما حدث فى العراق، وإنما إعادة غرس العقيدة العسكرية لتتمحور حول الدولة والولاء الوطنى وليس حول الأشخاص أو العصبوية القبلية، وذلك سوف يحتاج إلى وقت طويل، خصوصا مع احتمالات طرح مطالب للعسكريين الجنوبيين الذين جرى استبعادهم وتسريحهم من الجيش فى عهد على صالح، والذين كانوا أحد الأسباب الرئيسية لانطلاق الحراك السلمى المطالب بانفصال الجنوب. وهنا يمكن للقوات العربية المشتركة أن تقوم بمهام عصرنة وتحديث وتوطين الجيش اليمني، وإيجاد أدوات إشراف ومراقبة تستمر لسنين بهدف ضمان عدم عودة عناصر وألوية ووحدات الجيش إلى تغليب الولاءات التحتية، ويتطلب ذلك عمليات طويلة من فرز القيادات، مع ضمان ائتلاف سياسى جديد تجارى مدنى قبيلي، يشكل عصب وبؤرة الالتفاف حول الدولة الجديدة. أما المهمة العربية الثالثة فى اليمن، فتتمحور حول المشروع الاقتصادى التحديثى الداعم للمشروع الوطنى للدولة: فمشكلات اليمن متشعبة، وهو ما يعنى أنه بالإمكان دفع أغلبية اليمنيين إلى الاصطفاف خلف هدف وطنى عام يجرى إشراكهم فى مكاسبه المادية دون إقصاء أو استثناء، وهنا يلعب العامل الاقتصادى دورا أساسيا، بحيث يجرى استبدال مركبات وشبكات النفوذ الفاسدة بمركبات وشراكات مدنية وتجارية وصناعية صالحة وقانونية، تجتذب القوى اليمنية فى صفوف التحديث بدلا من الانحصار فى دوائر الالتزام والولاء والتمركز المصلحى القبلى اللاقانونى الفاسد. وفى هذا الصدد، فإن مشروعات مثل مشروع الملك سلمان لإعمار اليمن بقيمة 13 مليار دولار من القطاعين العام والخاص الخليجيين، وما تردد عن إمكان ضم اليمن إلى مجلس التعاون الخليجي، هى أمور يعول عليه كثيرا فى إحداث نقلة تحديثية ووطنية فى اليمن تبعده عن أن يشكل خطرا على المملكة والخليج والأمن القومى العربي. وعلى الرغم من أن ضم اليمن إلى مجلس التعاون الخليجى هو حلم وطموح قديم لليمنيين، وكان دائما ضمن نطاق التفكير الخليجي، فإنه من الضرورى معاودة طرح هذا الحلم فى سياق مشروع، والبدء فى إعادة تأهيل اليمن للتكيف مع أوضاع ومستويات التنمية والتحديث فى دول المجلس، وهو أمر قد يأخذ عشر سنوات أو أكثر، بالنظر إلى اختلاف الأوضاع الاقتصاية والسياسية وأوضاع الحياة والسكان والفقر فى اليمن مقارنة بدول الخليج، وبالنظر أيضا إلى تباين مستوى المؤسسات، وخصوصا الجيش اليمنى الذى يحتاج إلى سنين من عمليات إعادة التأهيل فى التكوين والعقيدة العسكرية. ويبقى مشروع ضم اليمن للمجلس هو الضمان المؤسسى الرئيسى لبناء دولة وطنية عصرية، وهو السبيل الوحيد لانتزاع الحوثيين من دوائر النفوذ الإيراني، حيث لن تحتاج دول المجلس حينئذ إلى أساطيل وبوارج لحماية الشواطئ اليمنية من إيران، وإنما سوف يؤدى الانخراط الاجتماعى للحوثيين فى المشروع الوطنى إلى إخراجهم نفسيا وروحيا من الولاء لإيران، قبل أن يمكن من إخراجهم من دوائر الولاء السياسى والمذهبى لها.