ثلاث وقائع متتالية شهدها الوسط السينمائي مؤخرا بدأت بمنع تصوير أحد الأفلام, ثم منع عرض آخر,, ثم رفض الرقابة لعملين سينمائيين, الوقائع كشفت عما وصلت إليه الأمور, ونبهت الي الكيفية التي سيتعامل بها الاسلاميون مع الفنون باعتبار انهم الأغلبية السياسية المسيطرة الآن, فبالرغم من تشدقهم بحرية الإبداع ومطالبتهم بضرورة الارتقاء بالفنون- بحسب التصريحات المعلنة من ممثلين عن ذلك التيار في وسائل الإعلام-, الا أن ذلك لم يمنع الوقائع السابقة, فكلها ظهرت في الفترة الأخيرة رغم تشكيل مايسمي بجبهة الإبداع للدفاع عن حرية المبدع والمبدعين خاصة في ظل صعود التيار الإسلامي, وفوزه بالأغلبية البرلمانية, وخوف الجبهة من تحجيم حرية الإبداع, الأمر الذي دفع مؤسسيها الي المطالبة بأن ينضم بعض المبدعين والمستنيرين إلي اللجنة التأسيسية لوضع الدستور. فنون الأهرام ترصد سوابق المنع وتطرح التساؤل مع مبدعين, عن مستقبل الفن والمؤشرات والدلالات التي تحملها هذه الوقائع.. وهل يجد الفنانون أنفسهم أمام الاختيار الأسوأ وهو ترك مصر والهجرة إلي لبنان مثلما حدث في السبعينيات من القرن الماضي؟ فرش وغطا أولي هذه الوقائع تتعلق بمنع تصوير فيلم فرش وغطا للمخرج أحمد عبدالله, بمسجد السيدة نفيسة برغم حصول أسرة الفيلم علي التصاريح الرقابية, والموافقات الأمنية من وزارة الداخلية إلا أن وزير الأوقاف, رفض إعطاء تصريح لتصوير الفيلم في مسجد السيدة نفيسة وليس ذلك فقط بل رفض أي نوع من النقاشات مع أسرة العمل, ووضع مدير مكتبه في صدارة المشهد, ويبدو أن مدير مكتب وزير الأوقاف والذي دخل معه مخرج الفيلم في نقاش حول أهمية الفيلم وأنه لا يحمل أية إساءات تذكر, فالفيلم تدور أحداثه حول سجين هارب ويتتبع حياته خلال الليالي الثلاث التاليين لهروبه من السجن, وأشار عبد الله إلي أن التصوير لن يعطل الصلاة والشعائر داخل المسجد حيث سيتم التصوير ما بين صلاتي العشاء والفجر. في جمعة الغضب, واستفاض مخرج الفيلم في شرح تفاصيل العمل مشددا علي أن الفيلم يرصد فترة مهمة في حياة المصريين ومؤكدا أن هناك الكثير من الأعمال السينمائية والدرامية المهمة التي صورت مشاهدها داخل المساجد العريقة, ومنها فيلم جعلوني مجرما لفريد شوقي, وفيلم قنديل أم هاشم لشكري سرحان وفيلم رصيف نمرة خمسة لفريد شوقي وزكي رستم وفيلم أرض الخوف لأحمد زكي, وفيلم واحد من الناس لكريم عبدالعزيز, ومشاهد في الثلاثية لحسن الإمام, وحسن ومرقص لعادل إمام وعمر الشريف والذي صور مابين المساجد والكنائس وأن السينما المصرية طوال تاريخها تتعامل مع تلك الأماكن بقدر كبير من الاحترام والتقدير, ولم يحدث أي فنان أو فنانة إساءة تذكر أو قدم عملا رديئا يسئ إلي قداسة هذه الأماكن, إلا أن مدير مكتب وزير الأوقاف أصر علي رفضه في حضور ممثل عن حزب الحرية والعدالة, والذي بحسب رواية, مخرج الفيلم ومن كان معه من طاقم العمل, لم يتدخل في الحوار كثيرا, بل اكتفي بمراقبة أداء موظف الأوقاف, والذي اختتم حواره مع صناع العمل بأن تلك الموافقات كانت تحدث قبل الثورة ولكن الوضع بعد الثورة بقي حاجة ثانية, والمفارقة أن مكتب وزير الأوقاف أصر علي عدم إعطاء خطابا رسميا يحمل الرفض.. حسبما صرح منتج الفيلم محمد حفظي والذي هدد باللجوء إلي القضاء, في حالة بقاء الموقف علي ما هو عليه وفضل أن يقوم فريق العمل باستكمال تصوير المشاهد الخارجية, إلا أن يصل الي نتيجة مع الأوقاف. يبدو أن واقعة منع تصوير مشاهد فرش وغطا بمسجد السيدة نفيسة أربكت العديد من الفنانين ومسئولي النقابات الفنية, والذين بادروا بإصدار بيانات تدين ما حدث مؤكدين أن هناك هجمة سرشة علي حرية الإبداع والمبدعين, وأن هناك قوي ظلامية ترغب في أن تعيد مصر إلي الوراء,وأنهم لن يكفوا مكتفو الأيدي أمام ما يحدث, وللأسف لا يعرف أحد ماهي الخطوات التصعيدية التي من الممكن أن يقوم بها المبدعون..حتي هذه اللحظة فلا أحد يملك تصورا محددا وعلق الكاتب وحيد حامد علي تلك الواقعة متسائلا هل إذا قام مهندسو الديكور في مدينة الإنتاج الإعلامي ببناء ديكورات لدور العبادة, هل نضمن ألا تتعرض لهجوم مثلا ؟ ويحمل حامد الكثير من التخوفات لأن مثل هذه الظواهر جديدة علي مصر, والتي تحمل الكثير من العداء للإبداع الحقيقي, وهو ما يؤكده أيضا المخرج مجدي أحمد علي والذي ابدي انزعاجه من تزايد العداء الضمني والصريح من المؤسسات الحكومية والخاصة لحرية الإبداع وممارسة الحق في التعبير, محملا المؤسسات مسئولية تفاقم هذه الروح المعادية للفن والثقافة بتخاذلها عن اتخاذ خطوات حاسمة للتصدي لهذه الظواهر ومعالجتها. وهو ما أكده أيضا العديد من الفنانين الكبار ومنهم عزت العلا يلي ويسرا والتي أوضحت أن مصر طوال تاريخها دولة وسطية ولم تعرف التطرف, والفن والإبداع الحقيقي لهما دور تنويري في النهوض بالمجتمعات والإسلاميون يجب أن يكون لديهم وعي بأهمية الفن والدور الذي يلعبه في الارتقاء بالحياة. أما الفنانة الهام شاهين فأبدت دهشتها علي تلك الواقعة مؤكدة أن السينما المصرية والتي يمتد تاريخها لأكثر من مائة عام لم تشهد مثل هذه الواقعة,وتساءلت الهام ألا يعرف هؤلاء المانعين أن من قام ببناء المساجد ودور العبادة هم فنانون, ومن خط ونقش أسماء الله من خطاطين هم أيضا فنانون وهبهم الله ملكة الإبداع, وأيضا من صمم سقف كنيسة السيستين بروما هو مايكل أنجلو وبتكليف من البابا, وهي التي تضم أيضا تماثيل لرافاييل ولوحات لدافنشي. وأضافت ماذا عن السينما التسجيلية والتي أرخت لأقدم وأهم دور العبادة هل ستمنع هي الاخري؟ وطالبت شاهين المبدعون بأن تكون لهم وقفة جادة مع ما يحدث. ورغم تعنت وزير الأوقاف والذي يبدو أنه يعمل حساب لحزب الحرية والعدالة أكثر من أي شئ آخر إلا أن هناك عدد من الشيوخ المستنيرين ومنهم الدكتور محمد رأفت عثمان, عضو مجمع البحوث الإسلامية,والذي أكد للإعلامي وائل الإبراشي إن تصوير المسلسلات والأفلام داخل المساجد حلال شرعا وجائز طالما أنها ليست مخلة أو مخالفة لتعاليم الإسلام والآداب. لا مؤاخذة ومع حالة الارتباك التي تسود ومصر, والحصار الذي بدء للمبدعين المصريين, انعكس كل ذلك علي حالة جهاز الرقابة علي المصنفات الفنية, والذي يبدو أن أسهل شئ عنده بات هو المنع فالرقباء أيضا يخشون من غضب الإسلاميين وفئات أخري في المجتمع, فبعد أن رفض رئيس الرقابة الدكتور سيد خطاب التصريح بعرض فيلم الخروج من القاهرة بحجة حساسية موضوعه وتناوله لقصة حب بين شاب مسلم وفتاة مسيحية, رغم أن الفيلم سبق وعرض في العديد من المهرجانات الدولية والعربية ومنها مهرجان دبي السينمائي ممثلا لمصر, ورغم كل الهجوم وبيانات الإدانة التي صدرت من جانب المبدعين تجاه رفض التصريح بعرض الفيلم, إلا أن الحال لم يختلف كثيرا مع المخرج عمرو سلامة_ والمعروف عنه محافظته وتقلديته في أحيان أخري_ حيث رفضت الرقابة ولجنة التظلمات الموافقة علي سيناريو فيلمه لامؤاخذة, وهو فيلم كوميدي ساخر يدور حول المسكوت عنه في العلاقة بين المسيحيين والمسلمين, أو التمييز الصامت كما أطلق عليه مخرج الفيلم في محاولة لمناقشة كل مشاكلنا بحرية وجرأة حتي نستطيع معالجتها بشكل صحيح, ولم يصدق عمرو سلامة نفسه لأن منطق الرفض مازال كما هو فالرقباء الذين ناقشوه لساعات أكدوا له أن سبب الرفض يعود إلي الحفاظ علي أواصر الوحدة الوطنية. أزمة فيلم انفصال .. وازدواجية الإسلاميين أما الواقعة الثالثة والتي تكشف ازدواجية التفكير لدي الإسلاميين فهي واقعة قيام بعض الإسلاميين المتشددين منع عرض الفيلم الإيراني انفصالوالحاصل علي جائزة أوسكار أحسن فيلم أجنبي لهذا العام, بدعوي أنه ينشر الفكر الشيعي في مصر, وهو أمر كالمضحكات المبكيات, فالإسلاميون طوال الوقت يتشدقون بالنموذج الايراني في السينما ويطالبوا فناني مصر بالاحتذاء بالسينما الإيرانية, وتلك الواقعة تكشف بحق النظرة الدونية من الإسلاميين وتحديدا الذين يدلون بتصريحات أمام الكاميرات يؤكدون فيها أنهم مع الفن الجيد والهادف, ولكن في الواقع سيظل الفن بالنسبة لهم عمل من الشيطان... وتتساوي الأعمال الفنية بالنسبة لهم أيا كان مستواها, والذي لا يعرفه هؤلاء المتشددون أن فيلم انفصال ينتقد المجتمع الايراني, وقمع الحريات والمصادرة عليها من خلال قصة إنسانية معقدة التفاصيل بين زوج وزوجة, والمدهش أن إيران أيضا منعت حفلا كان يتم الإعداد له للاحتفال بمخرج الفيلم أصغر فرهادي وطاقم الفيلم. لذلك يحق لمبدعي مصر القلق والخوف علي مستقبل الفن من طيور الظلام.