حكايات التاريخ تتشابه إلى حد كبير.. ربما لا تتطابق إلا فى حالات انزلاق الأمم إلى الحروب، فالحكاية دائماً تشبه تدحرج كرة الثلج، حين تجد الشعوب نفسها فجأة قد تورطت فى الحرب.. فى مثل هذه الأيام من عام 1967كان جزء كبير من قواتنا المسلحة لا يزال فى اليمن عندما طلبت مصر فى 16 مايو من قائد قوات الطوارئ الدولية الجنرال ريكى سحب قواته من نقاط المراقبة على الحدود، وعرض ريكى هذا الطلب على السكرتير العام للأمم المتحدة يوثانت الذى طلب إيضاحات من مندوب مصر السفير محمد القونى، الذى استفسر بدوره من القاهرة وجاءه التوجيه بأن يخطر يوثانت بأن مصر لن توافق على أى محاولة لدفعها للتراجع عن طلب سحب القوات الدولية، وهنا قال يوثانت إن السحب الجزئى غير مقبول، وإذا كانت مصر تطلب سحب كل القوات فإنه يجب أن توجه طلباً رسمياً بذلك إلى يوثانت نفسه، وفى اليوم التالى 17 مايو أرسل السكرتير العام يوثانت كتاباً إلى السفير القونى يتضمن أنه لا توجد مؤشرات لتحرك قوات أو حشود إسرائيلية تدعو للقلق ، وفى يوم 18 مايو طلبت مصر رسمياً سحبا كاملا لقوات الطوارئ الدولية ، وفى اليوم التالى 19 مايو أصدرت القيادة العليا المصرية أوامرها لاحتلال شرم الشيخ الذى يسيطر على مضيق تيران ، وفى يوم 21 مايو انسحبت القوات الدولية من شرم الشيخ وحلت محلها قوات مصرية، فى يوم 23 مايو أذاعت مصر فى الصباح الباكر أن مضيق تيران قد تم إغلاقه بشكل كامل أمام الملاحة الإسرائيلية ، وكذلك أمام السفن التى تحمل شحنات إستراتيجية إلى إسرائيل ، والتقى يوثانت مع عبدالناصر فى القاهرة وكذلك بعض القيادات المصرية، حيث أبدى دهشته من أن قرار إغلاق مضيق العقبة قد اتخذ بينما كان هو فى طريقه إلى القاهرة، موضحاً أنه يعتقد أن ذلك سوف يجعل الحرب أمراً لا مفر منه، وفى يوم 24 مايو قام وزير الحربية شمس بدران بمغادرة القاهرة متوجهاً إلى موسكو ، بينما أعلنت الإذاعة المصرية أن مصر قامت بتلغيم خليج العقبة، وحذر وزير الخارجية محمود رياض بأن دخول أى سفينة إسرائيلية إلى الخليج سوف يعد عدواناً ستقوم مصر بالرد عليه، وفى 25 مايو التقى شمس بدران فى موسكو مع رئيس الوزراء كوسيجين ووزير الخارجية أندريه جروميكو، ونائب وزير الخارجية سيمينوف ووزير الدفاع جريتشكو ، وقد قال كوسيجين إن كل ما فعلته مصر حتى الآن صحيح، ولكن الوضع بالغ الخطورة، وطالما سجل المصريون موقفهم فعليهم أن ينزعوا فتيل الأزمة كى يدعموا مكاسبهم، وفى 26 مايو التقى وزير الخارجية الإسرائيلى أبا إيبان مع الرئيس جونسون فى محاولة لاستكشاف المدى الذى يمكن أن تصل إليه أمريكا فى مساندة إسرائيل لفتح مضيق العقبة بالقوة، وقد أكد جونسون دعمه لإسرائيل ، ولكنه رفض التصريح بأن أمريكا سوف تقوم بكل ما فى وسعها لإعادة فتح المضيق، وقال لإيبان: «إن إسرائيل لن تكون وحيدة إلا إذا قررت التحرك بشكل أحادى منفرد، وفى 27 مايو قام السفراء السوفييت فى كل من القاهرة وتل أبيب بتسليم خطابات ترجو ضبط النفس إلى كل من ناصر وأشكول فى ساعة مبكرة من الصباح، وقد اجتمع مجلس الوزراء الإسرائيلى وانقسم الرأى فيه إلى نصفين ما بين مؤيد لشن الحرب ورافض لذلك، وفى 28 مايو غادر شمس بدران والوفد المصاحب له موسكو، وقبل أن يصعد سلم الطائرة قال له المارشال جوريتشكو إن على مصر أن تصمد وأن السوفييت يقفون وراءها، وفى 29 مايو قام ناصر بإخطار مجلس الأمة المصرى بأن شمس بدران قد أحضر معه رسالة دعم من موسكو، وفى 30 مايو قاد الملك حسين طائرته متوجهاً إلى القاهرة حيث وقع اتفاقية دفاع مشترك مع مصر، وهى نفس الاتفاقية التى وقعتها مصر مع سوريا، وفى نفس اليوم سافر مائير إميت رئيس الموساد الإسرائيلى إلى واشنطن كى يحصل على مزيد من التوضيحات حول الموقف الأمريكى، وفى 31 مايو أخبر المشير عامر وزير الخارجية محمود رياض بأنه يجب ألا يقلق، لأنه يمكنه الوصول إلى بئر سبع بثلث القوات المصرية فقط ، وفى أول يونيو التقى ناصر مع وزير المالية الأمريكى السابق روبرت أندرسن، ويوافق على إرسال نائبه زكريا محيى الدين إلى واشنطن لبحث وسائل نزع فتيل الأزمة ، وفى نفس اليوم أعلن عن تعديل وزارى فى إسرائيل، تولى فيه موشيه دايان منصب وزير الدفاع، وانضم إلى الوزارة مناحم بيجين كوزير بغير حقيبة ، ووصفت هذه الوزارة بأنها وزارة حرب، وفى 2 يونيو حذر ناصر كبار القيادات العسكرية بأن إسرائيل سوف تهاجم خلال أيام ، وفى 3 يونيو اجتمع مجلس الوزارء الإسرائيلى المصغر واستمع إلى تقرير أمنى وأوصى بشن الحرب، وفى اليوم التالى 4 يونيو اتخذ مجلس الوزراء الإسرائيلى قراره بشن الحرب ، وفى صباح 5 يونيو بدأت إسرائيل هجومها... كما رأينا فقد تدحرجت كرة الثلج فى شهر مايو 1967 بتسارع مجنون، ولم يكن هناك أحد فى القاهرة يحاول أن يرفع رأسه بعض الشىء كى يرى مساحة أكبر من الصورة، فقد انغمس الجميع فى تزاحم الحوادث وتواليها، مع إعلام يدق طبول الحرب بلا توقف، وحالة تشبه نشوة السكارى لم نفق منها إلا بعد المذبحة التى أطلقنا عليها اسما محايدا وهو: «النكسة». لقد مر على تلك الأحداث 48 عاماً.. زمن قصير فى عمر الشعوب، ولكنه يكفى أحياناً لمحو أجزاء من رصيد حكمة التجارب، وهذا ما حدث مثلاً مع ألمانيا التى خرجت مهزومة من الحرب العالمية الأولى ، لكنها عادت مرة أخرى كى تحارب العالم كله فى الحرب العالمية الثانية ، لتخرج منها مرة أخرى مهزومة .. لقد ولدت أجيال لم تر النكسة وربما لم تسمع عنها إلا معلومات قليلة، أجيال لم تعرف مرارة القتال من خنادق على ساحل قناة السويس، بينما طائرات العدو تصب النابالم فوق الرؤوس أثناء حرب الاستنزاف، أجيال ربما سمعت عن عبور 1973 فى بعض الأغانى فى زمن كان يطبل ويزمر للسلام واحتقار الحروب.. فى الذكرى الثامنة والأربعين للنكسة، إذا كنا قد نسينا دروسها المتعددة، فأرجو ألا ننسى درس كرة الثلج المتدحرجة .. لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق