منذ أكثر من100 سنة كان طلبة مدرسة الحقوق الخديوية في مصر يهتفون في وجه حاكم البلاد وقتها بشعارهم الشهير: الدستور.. يا أفندينا. ولم تكن دعوة الدستور جديدة علي مسار النضال المصري في مضمار الحقوق والحريات. فقد سبق للمصريين أن قرأوا عن المشارطة بمعني العهد الميثاق( شارتر) في كتابات الأزهري الرائع رفاعة الطهطاوي بعد عودته من بعثة من باريس في عام..1831 بل استطاع الكفاح السياسي في مصر أن ينتزع أول مدونة سياسية سجلت المعالم الجوهرية للممارسة الديمقراطية بمعناها المدني الحديث, وحملت اسم; اللائحة الأساسية; الصادرة بتاريخ1866/10/22 وتم بموجبها إنشاء مجلس شوري النواب في حقبة الخديو اسماعيل. ومنذ90 عاما تشكلت لجنة الدستور من النخبة الوطنية التي أسفرت عنها ثورة1919 الكبري لتضيف الي الخبرة التاريخية للشعب المصري وثيقة دستور1923 الليبرالي وتفتح الطريق أمام سلسلة متباينة من الوثائق الدستورية في القرن العشرين ما بين دستور1930 ودستور1954 الي دستور.1971 ثم كان طبيعيا أن تتنادي قيادات العمل الوطني غداة ثورة25 يناير2011 الي البدء بإصدار دستور جديد للبلاد يتواءم مع الواقع الثوري الذي أسفرت عنه نضالات الشعب المصري وطلائعه الشبابية, وبحيث يصبح الدستور دليلا يوجه المرحلة القادمة ويظل متوائما مع مستجدات القرن الحادي والعشرين. ومن أسف أن لم تلق هذه الدعوة بكل موضوعيتها, بل وضروراتها, ما كانت تستحقه من اهتمام.. وهو ما أسلم إلي عدد من التعديلات, هل نقول الترقيعات, التي أوصلتنا الي حالة الخلط السياسي والتشوش التشريعي التي نكابدها في اللحظة الزمانية الراهنة, حيث أصبحنا ملزمين تحت وطأة الظروف والضرورات بإنجاز الدستور الجديد المرتقب دستور ثورة يناير في غضون فترة زمنية بالغة الضيق بحيث لا تتجاوز الشهرين أو نحوهما.. وتلك مهمة تعد من الصعوبة بمكان. ورغم أن هناك من الآراء التي يذهب أصحابها الي أن دستور1971 مازال أساسا سليما أو فلنقل معقولا للانطلاق الي وضع الدستور الجديد بعد إصلاح العوار الذي شاب وثيقة1971, وخاصة ما يتعلق بإطلاق أمد الولاية الدستورية لرئيس الدولة الي ما لا نهاية, هذا فضلا عن إضفاء صلاحيات مطلقة علي منصب الرئيس المذكور, إلا أن الأمر في تصورنا, لا يقتصر علي ادخال إصلاحات أقرب الي الترميمات في الدستور السبعيني إياه: قد مرت أمواج بغير حصر تحت جسور الوطن.. فما بالنا وقد تعرض الوطن لقوة الإعصار الثوري الجسور في يناير من العام الماضي.. مما يستدعي المزيد من التدبر والحوار وصولا الي إضفاء تغييرات جذرية علي متون الدستور المذكور. ومن ذلك مثلا القضايا المتعلقة بدور مجلس الشوري بل وبوجوده, مجرد وجوده, أو بنسبة الخمسين في المائة من المواطنين العمال والفلاحين.. أو بدور المجالس الشعبية والهيئات المحلية المنتخبة أو بآلية تفعيل الفصل الصحي والصحيح بين السلطات الدستورية الثلاثة لإفساح الطريق أمام تفعيل المبدأ الجوهري الذي تطلق عليه الأدبيات السياسية الأمريكية وصف; الضوابط المراجعات والتوازنات;(checksandbalance). هناك أيضا جدول الاهتمامات والهموم المستجدة, ومنها ما يتصل مثلا بأهمية النص علي حقوق المواطنين من المعوقين وذوي الاحتياجات الخاصة( وهناك من يصل بحجمهم العددي الي نحو15 مليون مواطن) وهناك أيضا ضرورات الإحالة الصريحة, وربما النصية أيضا, الي الصكوك التعاهدية الدولية التي تعد مصر العربية طرفا أصيلا وملتزما بأحكامها وفي مقدمتها مثلا العهدان الدوليان للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية, إضافة الي اتفاقية منع التمييز ضد المرأة( السيداو) واتفاقية حقوق الطفل واتفاقيات وبروتوكولات منظمة العمل الدولية وما في حكمها. إنها مهمة عسيرة ولابد أن ينوء بها كاهل الجمعية التأسيسية المكلفة بوضع دستورنا الجديد. وبديهي أن يسبق هذه المهمة.. خطوات تشكيل الجمعية التأسيسية علي نحو ما أوردته المادة60 من الاعلان الدستوري. وفيما تنوعت, وما برحت تتنوع, الآراء إزاء تشكيل عضوية الجمعية التأسيسية ما بين قصر عضويتها علي نواب البرلمان وهو في تصورنا رأي متطرف.. وإن كان يجاوبه في التطرف كما نري رأي يذهب الي اختيار كل أعضائها من خارج البرلمان, إلا أننا نظن أن الأوفق ليس مجرد انتهاج طريق وسط بقدر ما أنه اتباع سبيل يجمع موضوعيا بين الأعضاء المنتخبين في مجلسي الشعب والشوري( في حدود30 40 عضوا) وبحيث يتم اختيارهم علي أساس الوزن التمثيلي للحزب أو الهيئة المعينة داخل البرلمان وبحد أقصي10 أعضاء.. ومن ثم يصار الي استكمال النسبة المتبقية(60 70) من شخصيات تجسد في مجموعها سائر أطياف المجتمع المصري, وبحيث تضم في المقدمة ممثلي الإخوة المواطنين المسيحيين علي اختلاف مذاهبهم, الي جانب أعضاء منتخبين من النقابات والاتحادات المهنية والعمالية, اضافة الي ممثلي مؤسسات المجتمع المدني وقيادات النشاط الأهلي ثم ممثلي المواطنين الفلاحين المزارعين.. فضلا عن ممثلي ذوي الاحتياجات الخاصة والقطاعات النسائية والعناصر والنخب الشبابية والرموز الأكاديمية ورواد الإبداع والإنجاز في مجالات الفن والفكر والعلوم التطبيقية.. ويضاف الي ذلك بالطبع خبراء في السياسة وأعلام في الفقه الدستوري ممن سيتولون بلورة آراء هذا الحشد الوطني الجامح وترجمتها الي نصوص دستور يشكل بحكم التعريف وثيقة مجتمعية بقدر ما يجسد صكا توافقيا ومعبرا عن أشواق الجماعة الوطنية في مصر الي تحقيق الشعار الثلاثي الذي طرحته في بساطة تلقائية ثورة يناير مجسدا في الحرية والعدالة والكرامة. دساتير من العالم وبديهي أن الجمعية التأسيسية لن يطلب منها اختراع العجلة ولا إعادة اكتشاف الكهرباء.. وحسبها أن تتابع بكل الاهتمام ما نطالب به في هذه السطور, وهو اجراء حوار مجتمعي تتوازي وقائعه مجردة بغير غرض.. رصينة بغير صخب لتصاحب عملية وضع الدستور.. وهو ما يتيح لكل أعضاء; التأسيسية; معينا لا ينضب من التصورات والتحفظات والطموحات, التي لابد أن يسترشدوا بها خلال استكمال العملية التاريخية التي شرفهم الشعب باستكمالها. نشير أيضا في هذا الصدد الي امكانية الإفادة من باقة فكرية وقانونية أصبحت متاحة بالفعل وتتمثل في عدد من دساتير العالم, ومنها دساتير لدول تتقارب أحوالنا مع ظروفها مثل جنوب افريقيا والهند والبرازيل وتركيا وماليزيا, وقد قامت بترجمتها الأستاذة أماني فهمي الخبيرة بالأمم المتحدة وأصدرها المركز القومي للترجمة بالقاهرة. وبديهي أيضا أن عنصر الاستمرارية المطلوب بحكم التعريف أيضا في وثيقة الدستور إنما يقتضي النص بوضوح صياغي وحزم تشريعي علي آليات وأساليب إدخال التعديلات علي متن الدستور بحيث يظل مسايرا لما يستجد في مراحل المستقبل من تطورات بعضها قد لا يكون أساسا في الحسبان.. ونشير في هذا السياق بالذات الي آليات التعديلات في الدستور الأمريكي وقد بلغت27 تعديلا منذ إصداره في فيلادلفيا بتاريخ6/21/...1788 ولسنا نشك في أن الجمعية التأسيسية سوف تتوقف مليا عند الباب الخامس من الدستور المصري المرتقب, حيث الهدف الأسمي يتمثل أولا في تحجيم السلطات المطلقة لرئيس البلاد ولكن دون التهوين من تلك السلطات الي حيث تنكمش الي وضعية الرئيس شبه الفخري أو البروتوكولي علي نحو ما تقضي به الأعراف الدستورية في بلاد مثل الهند أو ألمانيا.. وإذا كنا لا نريد الرئيس الديكتاتور أو الرئيس الفرعون فنحن لا نريد أيضا الرئيس الرمز.. بقدر ما نريد رئيسا قويا في التحليل الأخير علي نحو ما نعاينه مثلا في حالة الرئيس الأمريكي الذي يتمتع بسلطات واسعة ولكن يحكمها ويرشدها ويحول دون جموحها الأدوار التي يقوم بها مجلسا الكونجرس( النواب والشيوخ) ومعهما المحكمة العليا.. فضلا عن سلطة الصحافة وميديا الإعلام الناطقة باسم جماهير الرأي العام.. وهي تتمتع بحريات بالغة الاتساع بموجب مبدأ حرية التعبير وتدفق وتداول المعلومات.. وهو مبدأ يكفله بالمناسبة التعديل الأول من دستور الولاياتالمتحدة. تلك خواطر نسوقها وأفكار نحاول تسجيلها وفي الوجدان شوق الي أن يوافينا شهر يونيو القادم ونحن قابضون بإصرار علي دستورنا الجديد.. فيما تكون حملة الانتخابات الرئاسية قد آذنت بالانتهاء: ساعتها نتطلع الي مجلسي البرلمان.. والي وثيقة الدستور.. ثم نصغي السمع إرهافا وارتقابا الي الرجل الذي اختاره شعبنا وهو يردد قسم الولاء للوطن.. بعد أن تلوح تباشير الفجر عند مطلع يوليو المقبل بإذن الله. المزيد من مقالات محمد الخولي