جرى العرف الشائع فى أوروبا أن ينشغل المفكرون الأوروبيون بتحليل الوضع القائم فى بلادهم من أجل التنبؤ بوضع قادم. ولكن فى فبراير 1981 انعقدت ندوة مشتركة بين معهد العلاقات الدولية ببون بألمانيا ومركز بحوث الشرق الأوسط بجامعة عين شمس حيث كان موضوع الندوة على عكس العرف الشائع هو «مستقبل أوروبا برؤية عربية». وفى مفتتح الندوة أثار رئيس معهد العلاقات الدولية ولفرد بُل ثلاثة تساؤلات على هيئة احتمالات جاءت على النحو الآتى: هل ثمة احتمال فى أن تؤدى مؤتمرات الغرب الثقافية والتكنولوجية والاقتصادية إلى حدوث «أزمة هوية» لدى العرب وتفضى بدورها إلى معاداة الغرب وأوروبا أم إلى تمثل لهذه المؤتمرات وذلك بأسلمتها؟ هل ثمة احتمال فى أن تتقبل السلطات التراثية الحداثة، وأن تكون على وعى بأن عدم تقبلها لهذه الحداثة من شأنه أن يفضى إلى صراع قادم ؟ هل ثمة احتمال فى أن يطلب العرب من الأوروبيين الانتباه إلى أهمية تراثهم دون اخبارهم بمدى اهتمام العرب بصياغة رؤية عن مستقبل أوروبا؟ ومن المؤسف أن الندوة انتهت دون صياغة لرؤية عربية عن مستقبل أوروبا على نحو ما ارتأى نائب رئيس معهد العلاقات الدولية ديتر بيلنشتين. ومع ذلك فإنه ارتأى أيضا أن الأمل لازم فى تصور وضع قادم يسهم فى صياغة الرؤية المطلوبة. وأظن أن بحثى كان معبراً عن «أمل مفقود» بديلاً عن «يأس من أمل مرغوب» إذ كان عنوانه «مستقبل العرب بدون أوروبا» وهو عنوان نافٍ لعنوان آخر كان يمكن أن يكون وهو العرب وأوروبا معاً. والسؤال اذن: لماذا النفى بديلاً عن الايجاب؟ كان فكر الحداثة مطلوب ولكنه توقف عند التحديث الذى يعنى التكنولوجيا. ومن هنا جاء قولى بهذا المصطلح «الحداثة المجهضة» وذلك بسبب طغيان التيار السلفى الذى يزعم بأن العصر الذهبى للعرب كامن فى الماضى، أى فى التراث، وليس فى المستقبل الذى يتميز بتجاوز التراث. والمجاوزة قد تكون بنقد التراث فى الحد الأدنى أو ببتره فى الحد الأقصى. فى أوروبا تبنى فلاسفة الحداثة وكان فى مقدمتهم ديكارت الذى لُقب بسبب ذلك بأنه أبو الفلسفة الحديثة. وقد أراد طه حسين محاكاة ديكارت فى بتر التراث فى كتابه المعنون ز فى الشعر الجاهلىس(1926) حيث قال «أريد أن اصطنع المنهج الفلسفى الذى استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء فى أول هذا العصر الحديث. والناس جميعاً يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج أن يتجرد الباحث من كل شئ كان يعلمه من قبل.» ثم استطرد قائلا: «فلنصطنع هذا المنهج حين نريد أن نتناول أدبنا العربى القديم». وبسبب هذا المنهج حوكم طه حسين وكفر، ومن ثم انتهى «بتر التراث» بلا رجعة وبقى «نقد التراث». إلا أن هذا النقد لم يكن يعنى إعمال العقل الناقد فى التراث، إنما كان يعنى تنقية التراث من المؤثرات الخارجية أو بالأدق من المؤثرات الغربية، ومن ثم نلتزم بالتراث وهو فى حالة نقاء. وكانت هذه رؤية الأفغانى ومحمد عبده. فالأفغانى رفض المادية الغربية فى كتابه المعنون «الرد على الدهريين» (1886). ومن هنا جاءته عبارته المأثورة: «إن المسلم مريض والقرآن هو دواؤه الوحيد». أما محمد عبده فقد هاجم فرح أنطون بسبب كتابه المعنون «ابن رشد وفلسفته» (1903). والمفارقة هنا أن الهيئة المصرية العامة قد نشرته مبتوراً فى زمن الرئيس مبارك ونشرته نفس الهيئة كاملاً فى زمن الثورة وبمقدمة من صاحب هذا المقال. وفى سبب تأليف ذلك الكتاب، يقول فرح أنطون إنه مردود إلى تأسيس العلمانية التى تعنى عند أنطون فصل السلطة الزمانية عن السلطة الدينية، وحجته فى ذلك الفصل مردوده إلى أن صياغة السلطة الدينية للقوانين محكومة برؤيتها للعالم الآخر وذلك فى مواجهة السلطة الزمانية التى تصيغ قوانينها بتأثير من رؤيتها للعالم الأرضى. أما محمد عبده فيرى أن فصل الدين عن الدولة ليس فقط غير مرغوب بل هو أمر محال لأن الحاكم فى حكمه ينبغى أن يكون ملتزماً، من حيث هو حاكم، بدين محدد. وهذه الرؤية منشورة تفصيلا فى مجلة «المنار» لصاحبها رشيد رضا الذى بدوره أورثها لحسن البنا مؤسس حركة الاخوان المسلمين. نقاء التراث اذن هو الغاية من تجديد الخطاب الدينى عند الأفغانى ومحمد عبده، وهو الغاية أيضا عند مَنْ جاء بعدهما. فالفيلسوف الجزائرى مالك بن نبى يلتزم هذه الغاية فى دعوته إلى تحرير العالم الاسلامى مما يسميه «القابلية للاستعمار» على نحو ما ورد فى كتابه المعنون «وجهة العالم الاسلامى». فهذه القابلية عنده تعنى استدعاء الاستعمار، وهذا الاستدعاء مشروط بعدم حيازة الوسائل الكفيلة بتنمية الشخصية الاسلامية. ولهذا فإن أى ثورة فى البلدان الاسلامية ما لم تكن على وعى بهذه القابلية فمصيرها الدوران إلى الخلف. وافراز هذا الوعى ليس ممكناً من غير ثورة ثقافية. إلا أن هذه الثورة ليست كافية وإن كانت ضرورية، إذ يلزم مواكبتها بما يسميه بن نبى «المفجر الاقتصادى». ومع ذلك فحتى هذا المفجر ينطوى على معضلة وهى تكمن فى ضرورة التحرر من الرأسمالية والماركسية معاً من غير سند من البديل. وأظن أن البديل غائب فى العالم الاسلامى بسبب تصميمه على تنقية التراث أو بالأدق نقاء التراث. ومن هنا تكون ضرورة التكفير للمحافظة على هذا النقاء. ومن هنا أيضا يلزم تغيير عنوان هذا المقال فيكون على النحو الآتى: «مستقبل أوروبا بدون رؤية عربية». ولكن هل هذا ممكن؟ لمزيد من مقالات مراد وهبة