أثار إعلان عدد من قبائل سيناء عن تنظيم مقاومة شعبية ضد الجماعات التكفيرية، تساؤلات كثيرة عن جدوى هذه الخطوة، ومدى اتساقها مع فكرة سيادة الدولة، وخطورة انتشار السلاح بين مواطنى سيناء، وهل يمكن أن يتطور الأمر إلى حرب أهلية بين القبائل؟ والحقيقة أن الإجابة عن هذه الأسئلة يستلزم التعرف على حقيقة الأوضاع فى شمال سيناء، حيث تتركز معظم الأعمال الإرهابية والمجموعات التكفيرية، خاصة تلك المرتبطة بتنظيم داعش وتطلق على نفسها اسم «ولاية سيناء»، والأسباب التى دفعت القبائل إلى اتخاذ هذا الموقف. إن وجود المجموعات التكفيرية فى شمال سيناء وخاصة المنطقة الحدودية مثل رفح والشيخ زويد، هو نتاج عدة عوامل مختلفة، فبعضها تسلل من غزة حيث توجد بعض هذه المجموعات التى قد تكون متحالفة أو معارضة لحركة حماس ونجح فى استقطاب عناصر مصرية من سيناء، وبدأ يدعمها بالمال والسلاح، والبعض الآخر وصل إلى هذه المنطقة بالتنسيق مع جماعة الإخوان التى كانت تشجع مجموعات إسلامية متشددة من عدة مناطق داخل وخارج مصر، خلال فترة حكمها للبلاد، بهدف تكوين احتياطى استراتيجى من الميليشيات تستطيع أن تستخدمه فى مواجهة أى قوة أخرى فى مصر بما فى ذلك الجيش وقتما تريد. وقد استفادت هذه المجموعات من فترة الانفلات الأمنى فى مصر، ومن حالة الفوضى فى ليبيا بعد سقوط نظام معمر القذافى، فى الحصول على كميات ونوعيات ضخمة ومهمة من السلاح بعد تهريبها من ليبيا والسودان. وساعد على انتشار هذه المجموعات الإهمال الذى كانت تعانى منه منطقة سيناء طوال السنوات الماضية، وعدم توافر الخدمات الضرورية ، ليس فقط فيما يتعلق بالاحتياجات المعيشية، ولكن أيضا الخدمات الثقافية والتعليمية والدينية والإعلامية التى ترفع من وعى المواطن، وتشكل وجدانه، مما جعل من هذه المنطقة بيئة خصبة لانتشار الأفكار والإتجاهات التكفيرية. لكن هذه المجموعات لم تحظ بحماية قبلية، ولم تتحول إلى جزء من المجتمع القبلى السيناوى، بل على العكس نفرت منه وتناقضت معه، لأن هذه المجموعات لا تؤمن بالانتماء الوطنى أو القبلى ، وتقصر علاقات الأخوة على أعضاء المجموعة وليس على الأقارب من العائلة أو القبيلة. وينتمي أهل سيناء إلى 12 قبيلة بدوية أبرزها قبيلة الترابين ، القبيلة الأكبر في سيناء والنقب ، وقبائل: سواركة، والتياها، والحويطات، والمساعيد، من قبيلة هذيل العدنانية ، وقبائل أخرى كثيرة، ويشكل البدو أكثر من 60% من سكان سيناء. وتعود جذورهم إلى الجزيرة العربية واليمن. وكثيرا ما نبذت هذه القبائل بعض ابنائها من الشباب الذين ينتمون لمجموعات متشددة، لأن بعض هذه العناصر كانت تكفر القبائل ايضا، وترتكب جرائم تتنافى مع أخلاقيات البدو، وتتسبب لهم فى مشكلات مع سلطات الدولة خاصة الأجهزة الأمنية. وكان سقوط الإخوان هو كلمة السر فى اشتعال الأوضاع فى سيناء، وانتشار الأعمال الإرهابية ضد الجيش والشرطة والمواطنين ايضا، ونظرا لطبيعة سيناء الصحراوية، واحتماء العناصر الإرهابية بالمناطق السكنية فى رفح والعريش والشيخ زويد وغيرها، وطول أمد العمليات العسكرية بسبب حرص القوات المسلحة والشرطة على تجنب سقوط ضحايا من المدنيين الذين يختبئ الإرهابيون وسطهم، اصاب بدو شمال سيناء الذين وقعوا بين مطرقة الإرهابيين وسندان الأجهزة الأمنية اضرار كثيرة. وتفاقمت المأساة عندما حاول أعضاء تنظيم «أنصار بيت المقدس» بسط نفوذهم على مناطق خاصة بقبيلة الترابين، مثلما ذكر إبراهيم العرجاني أحد وجهاء القبيلة، موضحا أنهم حاولوا توزيع منشورات وسطهم ، وعندما رفض أحد أعضاء القبيلة قتلوه أمام أطفاله . وحاولت «الترابين» أكثر من مرة نصح عناصر التنظيم الإرهابي وإبعادهم عن العنف، ولكنهم لم يستجيبوا، بل وقتلوا 5 من أبناء القبيلة. هنا كان لابد من تصرف جديد، يحمى القبائل فى مواجهة الإرهابيين، فجاءت فكرة تشكيل مقاومة شعبية من القبائل تتولى بالتنسيق الكامل مع القوات المسلحة مطاردة العناصر الإرهابية، فالمناطق السكنية التى لا يستطيع الجيش التعامل معها خوفا على أرواح المدنيين، يستطيع ابناء القبائل الذين ينتمون لهذه المناطق تطهيرها من الإرهابيين دون المساس بالمدنيين، والدروب الوعرة والكهوف فى الجبال والصحارى يستطيع بدو سيناء الوصول إليها بسهولة، والقضاء على الإرهابين الذين يحتمون بها. وبهذا الشكل فإن فكرة المقاومة الشعبية لا تتناقض مع سيادة وسيطرة الدولة، بل تتكامل معها وتعمل تحت مظلتها، ولا يمكن أن نخشى من حرب قبلية لأن العناصر الإرهابية لا تنتمى لقبيلة معينة ولا تؤمن بالانتماء القبلى أصلا، بل إن هناك ثأرا الآن بين معظم القبائل والإرهابيين، ولذلك توحدت كبرى قبائل سيناء فى مواجهة الإرهاب بقوة وحزم. أما انتشار السلاح وسط القبائل، فهو أمر ليس بجديد لأن السلاح من المستلزمات الأساسية لكل بدوى فى سيناء، وعنصر من عناصر الفخر لدى كل قبيلة. والخلاصة، اننا فى حالة حرب حقيقية تستلزم اللجوء لكل تكنيكات القتال، والمقاومة الشعبية هى جزء من هذه التكنيكات التى نحتاجها لأهداف محددة ، وفى بيئة معينة، وفى النهاية سيكون النصر بإذن الله للشعب المصرى ضد قوى الشر والعدوان، وهو أمر طالما تكرر على أرض سيناء منذ فجر التاريخ. كلمات: .. والقلب الكريم لا ينسى شيئا أحبه، ولا شيئا ألفه. مصطفى صادق الرافعى لمزيد من مقالات فتحي محمود