يزداد مفهوم تجديد الفكر الديني غموضا والتباسا من كثرة ما تناولته وسائل الإعلام بغير إعداد علمي كاف لبيان مفهوم التجديد وآلياته وضوابطه، وانطلقت ماكينات التكفير والإقصاء والجدل التي لم تترك للعلماء فرصة للانكباب على ترسيخ ثقافة تدفع بأوطانهم إلى مكانة لائقة بين الأمم. وانبعث من بطون كتب التراث قضايا عرضها المتخصصون وغير المتخصصين على شاشات الفضائيات التي يسهر لها الناس لمتابعة الحروب الكلامية والجدل حول تُراث السَّلَف وكتب الأحاديث والمذاهب الفقهية، والناسخ والمنسوخ والردة وعذاب القبر، وهي جميعها شبهات مردود عليها منذ قرون. وإذا كنا اليوم في أشدّ الحاجَة إلى مراجعة أمينة وقراءة نقدية لهذه المفاهيم في تراثنا الإسلامي، لتحصين الشباب من الوقوع في براثن هذه الجماعات الإرهابية وفَهمِ صحيح الدين ، فلماذا لا تتوقف الفضائيات عن إثارة تلك القضايا الخلافية على شاشاتها، والتي تحدث حالة من الارتباك والتشكيك وخصوصا ما نعانيه من نسبة أمية عالية بين أبناء الوطن؟ أم أنه يجب أن تكون المناقشة بضوابط وشروط وأن تكون لغة الاحترام هي السائدة؟! أم أن ذلك يعد حجرا على الفكر وتقييدا لحرية الرأي التي كفلها الدستور والقانون؟!ولماذا يحمل الإعلام الخطاب الدِّيني المسئولية عن ظهور «داعش» دون البحث عن العوامل الأخرى التي دفعت بكثير من الشباب إلى حمل السلاح وتبني هذا الفكر المسموم، ويتناسى الجميع الخطابات السياسية والاقتصادية والتعليمية والثقافية والإعلامية والفنية التي تحتاج أيضا إلى إصلاح لا يقل شأنا عن إصلاح الخطاب الديني.
يقول الدكتور أحمد فؤاد باشا، عضو مجمع اللغة العربية، إن الضوء يسلط في عصرنا على تجديد الخطاب الديني فقط دون سائر أنواع الخطابات التي تحتاج هي الأخرى إلى إصلاح وتطوير وتقنية، بعد أن أصابها الخلل والضعف والتلوث، فنحن بحاجة ماسة، بالدرجة نفسها ، إلى تطوير الخطاب التربوي والتعليمي، وإلى ترشيد الخطاب الثقافي والفكري، وإلى مراجعة الخطاب العلمي والسياسي، وإلى تنقية الخطاب الفني والإعلامي، فنحن بحاجة ماسة إلى أن يشهد واقع الأمة المتردي تجديداً واعياً ومدروساً للخطاب الحضاري بكل أنواعه، وربطه بمواجهة تحديات العصر، واستشراف المستقبل. وأضاف: إن الخطاب الديني يكتسب أهمية خاصة بسبب قدسية الدين التي تميزه على أنواع الخطاب الأخرى، لكن الاجتهادات المبذولة لتجديده لا يمكن أن تؤتي ثمارها كاملة إلا بالتآزر والتعاون والتكامل مع كل جهود التنوير والإعمار في مختلف مجالات الحياة.
غياب الخطاب العلمي
وأوضح أن غياب الخطاب العلمي، أو ضعفه، تأصيلاً ومعاصرةً، ظاهرة سلبية في ثقافتنا العربية الإسلامية التقليدية، التي تختلط فيها التصورات الشعبية بالأفكار الدينية والحقائق العلمية، ولقد تجاوزها الفكر العلمي المعاصر كضرورة حتمية من ضرورات التجديد الحضاري وبناء مجتمع المعرفة والمهارة، انطلاقاً من أهمية العلم ذاته كعنصر أساسي في حياتنا المعاصرة، بحيث لم يعد هناك أي نشاط إنساني إلا ويعتمد على العلوم وتقنياتها في تطويره والإسراع بإيقاع حركته.
وأكد أن على الخطاب الديني والخطاب العلمي التنويري، مجتمعين ومتآزرين، أن يوضحا الوظيفة الاجتماعية للعلم النافع، أولاً: في بحثه عن الحقيقة وتأملها في إطار رؤية كونية حضارية إيمانية، وثانياً: في تسخير ما يكتشفه من حقائق للتطبيق في أعمال نافعة للبشر، إذ إن رسالة العلم النافع لا تكتمل إلا بإعمار الحياة على الأرض، وضمان إشاعة الخير والأمن والسلام بين الناس.
كما شدد على أن تجديد الفكر الديني في العالم الإسلامي يجب أن يهدف إلى شحذ الهمم واستنهاض العزائم، نحو فهم الإسلام، فهماً صحيحاً يساعد المسلمين على تغيير حياتهم نحو الأفضل دائماً ويمكنهم من المشاركة في حضارة العصر بنصيب يتناسب مع تاريخهم المجيد، كما ينبغي تأكيد أهمية البعد العلمي ودوره المحوري في دعم مرتكزات الخطاب الإسلامي المعاصر، وتعميق أثره في المسلمين وغيرهم.
قانون ينظم الفتوى
وطالب الدكتور أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار علماء الأزهر، بإصدار قانونٍ يحظر على غير العلماء التصدر للشأن الديني على القنوات الفضائية، مضيفًا أن بعض الإعلاميين يروق لهم أنْ تسير الحوارات إلى العنف والتناحر الذي يجذب المشاهدين.
وأضاف أنه في عهد تولي الدكتور محمود حمدي زقزوق وزارة الأوقاف، أصدر مجلس الشعب قانونًا يمنع اعتلاء المنبر لأحد إلا بتصريح من وزارة الأوقاف، فما المانع من اقتراح قانون يقصر الظهور في أيٍّ من قنوات القطاع العام والحكومي، للتصدر للشأن الديني على العلماء من خلال ترخيص.
وأوضح هاشم أن هناك عقولاً قد تستوعب الشبهات، فيجب ألا نفتح الباب لكلِّ مَنْ هبَّ ودبَّ بحجة حرية الرأي التي ضيعت الفكر الإسلامي والعالم الإسلامي، ومناقشة الأمور الدينية الشائكة علي الفضائيات جرم في حق الدين والوطن لأنها تصنع حالة من الشقاق والانقسام بين العامة وخصوصا ونحن نعاني نسبة أمية كبيرة، ومثل هذه الأمور يجب أن تعالج في قاعات مغلقة من أهل الاختصاص وليس من هؤلاء غير المتخصصين.
ويقول الدكتور عبد الفتاح إدريس، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، إن هذه الأمور التي تتم مناقشتها على الملأ هي بالقطع أمور لا تدركها أفهام غير المتخصصين, فإن لم يتبين لهم وجه الحق فيها عن طريق مداخلة أو سؤال, فقد يفتنون في دينهم, وهو ما أسفرت عنه المناقشات التي لم تنته إلى بيان وجه الحقيقة في المسائل المتعلقة بالخوض في الدين من غير المتخصصين, حتى لقد ظن الدهماء أن الذين شمروا عن ساعد الجد, ليظهروا علمهم على الناس كنوع من الاستعراض, فشلوا في نظر العامة فشلا ذريعا, فحسب هذا أن يفسد أكثر مما يصلح, وقد كان يجب أن يحال صاحب الفكر إلى المحاكمة, ويستكتب الراسخون في العلم لتفنيد مفردات فكره التي أذاعها على الملأ, ليحاكم بمقتضى هذا التفنيد فيدان أو يبرأ.
ليس حجرا على الرأي
وأضاف أن مناقشة هذه الأمور الدينية في مكان قصي عن غير المتخصصين أنفع لهم, وأبعد عن الفتنة في الدين, وهو في جميع الأحوال ليس حجرا على الرأي, فإن المؤتمرات المتخصصة التي تناقش أمرا من أمور الدين, لا تدعو غير المتخصصين للاشتراك في مناقشتها, لأنهم لا يحسنونه, فضلا عن أن وجودهم في مكان الانعقاد قد يزلزل من معتقدهم, لأنهم قد يسمعون ما لا تدركه أفهامهم فيفتنون في دينهم, والقول بالحجر على الرأي مضغة في أفواه الخاوين علميا.
وطالب إدريس، بسن قانون ينظم هذه المناقشات, بحيث لا تكون على الملأ, حتى يتم حفظ معتقد الناس من التشويش والتشكيك الذي قد يفهم من خلال هذه المناقشات. فقوانين الدولة جرمت من يصف للناس الأعشاب الطبية لعلاج بعض أمراضهم, وحوكم من يمارس عملا وهو غير مجاز من قبل مؤسسة لممارسته, فيأتي في هذا السياق وجوب سن قانون يجرم من يخوض في أمور الدين وهو غير مؤهل لذلك, لأن ترك هذا الأمر يمارس بهذه العشوائية التي نراها, فيه مساس بالأمن المجتمعي, وهذا مقوض لبنيان أي أمة.
وفي السياق ذاته أكد الدكتور محمد إسماعيل البحيري، إمام وخطيب مسجد الزهراء بمدينة نصر، أن ما يحدث الآن هو هبوط بمستوي الحوار والموضوع لكي يثير بعض مقدمي البرامج المشاهدين، ويعتبرون أنه كلما كان الحوار صادما ويثير فضول الجماهير كان ناجحا وحقق نسبة مشاهدة عالية. ولابد أن يراعي عالم الدين نوعية الموضوع والمحاور التي سيتحدث فيها المذيع والضيوف المشاركون معه وإذا ما شعر بعد قبوله المشاركة بأي تجاوز أو إخلال بما اتفق عليه مسبقا فعليه أن ينسحب فورا مهما كان الإغراء المادي والمقابل الذي سيحصل عليه مقابل مشاركته في هذه الحلقات.
وقال إن بعض القنوات والبرامج تحاول استغلال المشايخ بصورة غير لائقة لمناقشة بعض الموضوعات المثيرة لإضفاء نوع من الشرعية علي هذه الموضوعات التي تناقش بلا حياء، وبصورة تحوي الكثير من الإثارة التي لا تتناسب مع دور العالم ورسالته وتعد نمطا من أنماط الإفساد الخفي ويقول: «أشعر بالضيق والحزن عندما أري بعض المشايخ يتم استغلالهم لتحقيق هذا الهدف.
أخلاقيات الإعلام
من جانبه رفض الدكتور أحمد كريمة الأستاذ بجامعة الأزهر مناقشة الأمور الدينية علي الفضائيات وقال: يجب أن تكون هذه المسائل العلمية الدقيقة في قاعات البحث والدراسة على أيدي العلماء والباحثين خاصة فيما له صلة بالسلم المجتمعي.
وأشار إلى أن طرح مسائل تخصصية دقيقة من غير المتخصصين تحدث لا محالة الشك والافتراء علي الشرع وتلك مفاسد، والقاعدة الفقهية تقول دفع المفاسد مقدم علي جلب المصالح والقنوات الفضائية أحدثت حالة من الجدل وأوجدت مذاهب وفرقا للطعن والتجريح في الأمور الدينية والسنة المحمدية التي هي ذاكرة الإسلام والأمة الإسلامية، وكل ذلك يرجع إلي غياب أخلاقيات الإعلام والحرية والفوضى التي يعيشها هؤلاء مما أدي إلي ما نراه الآن.
وقال الدكتور عادل المراغي، إمام وخطيب مسجد النور بالعباسية، إن هذه البرامج وما يحدث فيها من تجاوز تجاه الضيوف من علماء ومشايخ أو محاولة عمل نزاعات وصدامات بين الضيوف المشاركين ليرتفع مستوي سخونة الحلقة أو مناقشة بعض الموضوعات الحساسة بشكل مثير، وما يمكن أن ينتج عنه علي المدى البعيد من تأثير علي صورة علماء الدين، خاصة علماء الأزهر الذين نعول عليهم في كل أمور الدين وندعوهم دائما لعدم ترك الساحة للمدعين ولغير المتخصصين ليفسدوا حياة الناس بما يصدر عنهم من فتاوى وأحكام غير صحيحة.. كل هذا يجعلنا نتساءل: ما هي نوعية البرامج والموضوعات التي يمكن أن يشارك فيها المشايخ؟ وما هي الحدود التي يجب أن يتوقف عندها مذيع البرنامج حتى وإن كان العالم أو الشيخ يحصل علي مبلغ مقابل اشتراكه في برنامج معين وهو ما أصبح متعارفا عليه في كل القنوات الفضائية؟. وأوضح أن مناقشة الأمور الدينية علي الفضائيات أصبحت متاجرة وعمل شو إعلامي لمصالح شخصية مدفوعة من الخارج علي حساب امن وسلامة الوطن وقال لا ارفض تماما مناقشة مثل هذه الأمور لكن بضوابط الحوار وأدب الحديث. وما نشاهده الآن هو أشبه بحرب هوجاء لتحقيق مصالح شخصية علي حساب الأمن المجتمعي والدين تجاوز كل الخطوط الحمراء، ولا يحتمل السكوت عليه.