افتقد اليسار الماركسى دينامية التحرك بفعل رهانات تاريخية خاسرة، نتجت عن التخبط فى دروب التيه الأيديولوجي، وقد غاب عن منظريه أهمية توافر الشروط الموضوعية قبل تطبيق التصورات والمضامين النظرية، فكان الانفصال عن الواقع حاجزاً هائلا أدّى إلى العزلة عن الجماهير. وهو ما فتح ثغرات تسللت منها تيارات إسلامية يمينية، وهو ما ظهر جليّاً فى المشهد السياسى إبّان أحداث الربيع العربي، الذى كان بكل المقاييس خريفا قاسيا ضل فى ثناياه اليسار وتخبط فى مساراته المتشابكة . فحتى لو سلمنا أن النظرية تتسم بالكلية المطلقة، فهى فى لحظة حضورها إلى الواقع لابد أن تتماهى ومعطياته، فالمجتمع هو تلك الوحدة الجوهرية الكاملة التى تتألف من الإنسان والمجتمع، وجميع الثورات الاجتماعية تتجه فى نهاية الأمر إلى تحقيق الكلّ الاجتماعي. وعليه يصبح النضال السياسى فعلاً اجتماعياً يتعاطى مع ظروف المجتمع وفق رؤية تتقاطع ومجريات الواقع بعيداً عن الصنميّة ويوتوبيا الحلول المستحيلة. ويعكس تاريخ اليسار الماركسى كل أنماط الرهانات الخاسرة، ففى أجواء الحرب الباردة كان الشرق الأوسط من أهمّ مناطق الصراع، وقد تنازعته سياسيات الهيمنة الأمريكية والاستقطاب السوفيتي، ليطرح كلّ منهما نفسه بديلاً للاستعمار التقليدي. ظهر الماركسى المؤدلج حائراً، فهو من جهة لا يجد غضاضة فى الارتباط بموسكو، والتهليل لأصداء الصعود القوى الذى عرفه اليسار الأوروبى بعد الحرب العالمية الثانية، وفى الوقت نفسه يرفض التماهى مع المشروع الناصرى الذى واجه الغرب الكولونيالى والحركة الصهيونية وساند حركات التحرر شرقاً وغرباً، لكنه حافظ على مسافة ما بينه وبين حليفه السوفيتي، لم تكن ترضى الماركسى التراجيدى الرافض للتنازل عن حلم البروليتاريا، والصاخب فى مواجهة شتى البدائل التى يفرضها الواقع، متشبثاً بمعادلاته المستحيلة، رافضاً طرح البدائل أو فك الارتباط ولو قليلاً مع البعد الأيديولوجي، مفضّلاً مواجهة النظم الاشتراكية القومية وبقايا الرأسمالية والصهيونية والتيارات الدينية. ويصبح فى مواجهة الجميع. مع احتدام المواجهة، ظهر اليسارى البدائلى محاولا التكيف مع منطلقات الواقع ومعطياته الجديدة، ولم يجد غضاضة فى تأييد عبد الناصر عقب انفتاحه على الكتلة الشيوعية، فى حين ظلّ الماركسى الطوباوى فى مواجهة ال «بكباشى الفاشى الذى يبحث عن المجد» على حد وصفه، فى رفض صريح للاشتراكية فى صورتها الناصرية. والالتزام الصارم بتحقيق دكتاتورية البروليتاريا كحلّ حتمى لإشكالية صراع المصالح بين الطبقات المتعارضة، بينما سعت الاشتراكية الناصرية إلى تذويب الفوارق بين الطبقات، وهو ما رأى فيه البدائلى مقدمة حتمية للوصول إلى الاشتراكية الشاملة. انحرف عبد الناصر فى نظر الماركسى (الإشكالى) عن الاشتراكية العلمية رغم استحالة تطبيقها فى مجتمع إقطاعى زراعى بعيد كل البعد عن الرأسمالية وتناقضاتها اللازمة لقيام دكتاتورية البروليتاريا، ولم يدرك هؤلاء حتميّة خضوع النظرية لمعطيات الواقع كما فعل لينين وماو، لكنهم تمسّكوا بالتجربة السوفيتية وحدها، وتحت وطأة قمع السلطة تصدّر البدائلى المشهد من جديد. وعليه، أصبح البدائلى بكلّ تناقضاته ومحاولات البقاء التى بذلها تحريفياً مخيباً للآمال فى نظر الإشكالي، فانقسم تحت وطأة الضغط بين عائد للمعادلات المستحيلة، وانتهازى يلعب لعبة الآخرين نفسها، فسقط هو الآخر، وفشل فى تبرير طروحاته ومنطلقاته. لم يتخلّ العقل الإشكالى عن ذاكرته الدراماتيكية وهو يواجه واقعاً مغايراً إبّان الفوران الثورى المتزامن مع الربيع العربي، كان الماركسى الإشكالى بتوجهاته الطوباويّة حاضراً فى صدارة المشهد، رافعاً قبضته فى مواجهة الاستبداد، منخرطاً بين صفوف الثوار دون أن يدرك ما بينه وبينهم من قطيعة سرعان ما ظهرت عقب انتهاء الموجة الأولى وظهور التحالفات والصفقات السياسية. كان بعيداً كلّ البعد عمّا يحاك فى الأروقة، مستلباً فى ثنايا معادلاته العسيرة التطبيق، وهو ما يعنى الفشل فى إدراك الواقع المحلى وفق معطيات المنهج الجدلى الماركسى الذى يساعد على وضع الحلول المناسبة لإشكاليات الواقع بدلاً من محاولة تطويع هذا الواقع وتفصيله على الأسس الماركسية. وسقط البدائلى هو الآخر تحت وطأة اتهامات التخوين والانحراف عن مبادئ الماركسية، وظلّ الإشكالى منكفئاً فى صومعته، بعيداً عن أرض الواقع، فتخلى عنه الجميع، ومنهم أولئك المهمّشون الذين تمركز حولهم مشروعه بعدما أصبح عبئاً عليهم. لم يدرك هؤلاء أنّ الماركسية هى عملية تفاعل أساسها المنطق الجدلى بين الإنسان وبيئته المادية، وهو ما التفت إليه «أوسكار لانجه» فى شرح الماديّة الجدليّة، فأيّ انفصال عن تلك البيئة يجعل الماركسية عائقاً أمام التقدّم الاجتماعي، فلا يمكن معالجة التفسير المادى للتاريخ بمعزل عن العالم الذى تولدت فيه المادة، وعليه يكون الحراك الإنسانى على كافة المستويات انعكاساً للعالم الموضوعى وسعياً لتكييفه وفقاً لمعطياته واحتياجات الانسان. وبينما اليسار فى عزلته، يعانى حصارا شعبيا أجبره على التخندق فى عوالمه المعزولة، مارس اليمينيون سياساتهم الانتهازية، ليصبح الدين طرفاً رئيساً فى معادلة السلطة، ولم يبذل الماركسيون جهداً فى إبراز عدم عدائهم للدين، وكأنهم تجاوزوا بتعالٍ تلك المنطقة، وكانت محنة السبعينيات أشد وطأة حين دخل النظام السياسى فى تحالف صريح مع التيار الديني، وغضّ الطرف متعمداً عن تجاوزات الإسلاميين؛ رغبة فى حصار اليسار والقضاء عليه، ومع تنامى المدّ الدينى تباعدت المسافات ليستيقظ اليسار (ككل) على كابوس العزلة، وهو كابوس لم يفلح زلزال الربيع العربى فى إيقاظه منه. وهكذا، وقع الماركسيون العرب فى فخ الإحالة على الجانب النظري، ومحاولة تطبيقه حرفياً على الواقع العربى المغاير، فانطلقوا من الفكر إلى الواقع وليس العكس، ذلك التوصيف الواهم فيما يشبه الدوجما التى تعطى لنفسها حقّ التوصيف والإثبات إلى الحدّ الذى جعلها تفشل فى تقبّل خطئها (استحالة اللاإمكانية فى وقوع الخطأ)، وابتعدوا عن الاستقراء والاستدلال القائمين على التجريب العلمى لواقع المجتمع. لقد كان المشهد السياسى عشية انطلاق ثورات الربيع العربى شديد التعقيد فى ظل وجود أنظمة كلاسيكية باتت مستهلكة، مع هيمنة رأسمالية ريعية نشأت بالتزامن مع سياسات الانفتاح، وحافظت على مصالحها بالتعاقد الضمنى مع النظام، وحالة ليبرالية مهترئة أجهز عليها الجميع، ممّا فتح الباب على مصراعيه لخطاب ثورى تمركز حول الحالة الاجتماعية الاقتصادية ومواجهة الاستبداد السياسى بكل أشكاله، لكن اليسار ككل فقط بوصلته، وسقط فى غياهب جب التنظير والتعالى عل قراءة الواقع الجديد، وباتت اللحظة مربكة عسيرة على الاستيعاب، وبات الخطاب السياسى أشبه بالسعى إلى استيلاد أجنّة يافعة من أرحام عقيمة فارقت أجسادها الحياة. لمزيد من مقالات د. سامح محمد إسماعيل