يمكننا إذا أردنا أن نتعرف على إسبانيا.. أن نلجأ لابن خلدون مؤسس علم الاجتماع، فشخصيته وأسلوبه أفضل ما يجعلنا نتعرف على كيان إسبانيا الدولة التى تنجح عندما تسمح بقدر يسير من التحاور بين الحضارات والبشر، و أسبانيا الدولة التى يمكن فى الوقت نفسه أن تفقد الكثير إذا لم تفتح نوافذها فى كل الاتجاهات. أما سبب ارتباط ابن خلدون بإسبانيا واختيارى له، فلأنه ابن نجيب للحضارة الاسلامية، فهو عربى ينتمى إلى القبائل القحطانية الأصل التى هاجرت إلى أسبانيا قبل القرن الرابع عشر، وربيب التمدن الأشبيلى والغرناطى اللذان سكنهما أصحاب المقامات الرفيعة من الأسر الارستقراطية التى عاشت مناخا من التميز والابداع، كما عرفت أيضا مناخا من المنافسة الشرسة كما حدث بين بنى خلدون و بنى عيدة وبنى حجاج، وهى منافسة تبدو بسيطة ولا تذكر إذا ما قارناها بمنافسة أخرى أكبر على الزعامة بين ابن هود وابن الاحمر. مفارقة غريبة، فالأصل فى الاندلس التى قدمت أرقى صور الحضارة الاسلامية هى التعايش بين أصحاب الديانات والأعراق المختلفة فى منطقة الغرب الاسلامي، كما وصف المؤرخ الشهير بروفنسال فى كتابه «الحضارة العربية فى إسبانيا» وترجمه د. الطاهر أحمد مكى الأرض والناس فى الاندلس. فهذا الشعب والكلمة لبروفنسال بدأ عفويا يحس بأصالته وتميزه على نحو واضح فى أهم مظاهر حياته اليومية، ونماذج أزيائه، وفى مهارته الحرفية والزراعية، لكى يبدو أمام أنظار العالم الإسلامى ليس غريبا عنه، وإنما على الأقل كأقارب بعيدين، وكأشقاء باعد بينهم تراخى الروابط العائلية وإقامتهم النائية. فقد كان الأموى عبد الرحمن بن معاوية الداخل حفيد الخليفة الأموى هشام بن عبد الملك هو من ولى وجهه شطر أسبانيا واطاح بحكم الوالى العربى وأعاد بناء دولة أجداده فى دمشق، فأصبح سيد قرطبة وجعلها عاصمته. وقد أدى الاحتكاك بين الاسبان وبين العرب والبربر المتعربين إلى أن يتعلموا اللهجة الرومانثية اضطرارا، وهى متفرعة من اللغة اللاتينية الايبرية. ونسبة كبيرة بين المسلمين فى الاندلس كانت تتكلم لغتين، وتستخدم العربية والرومانثية فى سهولة، داخل بيوتهم وخارجها فى الشارع، مع مراعاة أن هيبة اللغة العربية المكتوبة ظلت فى عليائها لم يمسسها وهن أبدا. وبعيدا عما قال بروفنسال، فإنه من الصحيح أن اليهود عاشوا وسط الناس ولم يسكنوا فقط الجيتو اليهودى كما كان الحال فى أماكن أخرى بأوروبا، وكما يشير د. جمال عبد الكريم فى كتابه «الموريسكيون... تاريخهم وأدبهم» من الثابت أن المجلس البلدى بمدينة غرناطة حتى عام 1492 الذى سقطت فيه غرناطة أخر معاقل المسلمين، كان يضم المسلم والمسيحي، وبعدها بخمس سنوات بدأ يسود فيه القوى على الضعيف. حقيقة يبدو انتهاء هذه المرحلة التاريخية شيئا مدهشا، فلم يتوقع أحد ارتفاع موجات التنافس بشكل غير مسبوق لتنجح فى النهاية فى إنهاء وجود الحضارة الأندلسية، فلا تجد وارث لها سوى عصر من النهضة العقلية فى أوروبا التى نظرت بعناية خاصة إلى ما أصدرته الاندلس من فكر وإبداع. والغريب أن يحدث هذا فى الاندلس صاحبة الانفتاح العقلى الكبير الذى عرفته من البداية عندما جاء عبد الرحمن الداخل، وعندما تجنبت منافسة بين القبائل العربية القيسية القادمة من شمال الجزيرة والقبائل القادمة من الجنوب رصدها د. حسين مؤنس فى موسوعته «تاريخ الحضارة المصرية» وأعتبرها السبب الرئيسى وراء إضعاف الجانب العربى فى فارس وخراسان.