سنة 1492م, سقطت غرناطة؛ آخر موطئ قدم للعرب في الأندلس؛ لتوضع -على يد القوات الإسبانية الكاثوليكية- نهاية ثمانية قرون من الحضارة العربية في أوروبا, ولتبدأ مرحلة مريرة من المحاربة العدوانية الهيستيرية لكل آثار تلك الحضارة؛ فقد قرر المنتصرون أن يمحوا من أرض الأندلس كل ما ترك العرب من حضارة راقية، مجِّندين لأجل ذلك كل ما لديهم من قوة غاشمة.. باختصار.. كانت القوة التي أعماها الحقد وسيّرها الجهل قد قررت أن عليها تدمير الحضارة التي علّمت أوروبا كيف يكون الإنسان إنسانًا! بعد سقوطها, تم تصنيف عرب غرناطة إلى نوعين: الموريسكيين, وهم المسلمون الذين تنصروا خضوعًا للأوامر الملكية الكاثوليكية, وأحيانًا كان اللقب يعم كل المسلمين سواء تنصروا أم لم يفعلوا، والنوع الآخر هو المارانوس, وهم اليهود المتنصرون؛ وكل من الاسمين يمثل إهانة لصاحبه, فكلمة "موريسيكي" كانت مشتقة من كلمة "مورو" وهي كلمة يستخدمها الإسبان للاستهزاء بعرب المغرب العربي, وكلمة "مارانو" كانت تعني في كثير من اللغات الأوروبية أوصافًا مثل"المنافق-الحقير-الدنيء" مما يعكس عنصرية الحكام الجدد للأندلس. الموريسكيون والمارانوس قاسوا معًا اضطهاد الإسبان لهم, على كل المستويات الدينية والثقافية والاقتصادية وغيرها. ورغم أن معاهدة استسلام غرناطة للحكم الإسباني نصّت على أن يحترم الحكام الجدد عقائد غير المسيحيين من أهل غرناطة، وأن يتركوا لهم حرياتهم الدينية والثقافية والحياتية بشكل عام؛ إلا أن كل ذلك كان كلامًا على الورق؛ فقد ظهرت الخطة -المعدة مسبقًا- لتدمير ما بناه العرب في الأندلس محوًا لحقيقة أنهم كانوا هناك لحوالي الثمانمائة عام. جاء الإسبان بوعود احترام العقيدة والثقافة، ثم سرعان ما أصدروا الأوامر بالتنصير الإجباري ومنع كل مظاهر الثقافة العربية من لغة وكتب وعادات؛ وحتى الأطعمة والحمامات العربية مُنِعَت. إذا عُرِفَ السبب الأسباب السياسية الأندلس تعتبر من منطاق التماسّ الجغرافي شبه الكامل بين أوروبا والأرض العربية. والإسبان كانوا يدركون أن هذا مما يترتب عليه وجود تهديد دائم لهم بالتعرض لهجمات بحرية من الممالك العربية في جنوب المتوسط, مدعومة من الدولة المملوكية التي كان سلطانها قايتباي الأول يعد بالفعل حملة حربية لدعم المسلمين الأندلسيين بالتعاون مع بايزيد الثاني سلطان العثمانيين. تلك الحملة لم تخرج بسبب انقلاب سليم الأول على أبيه بايزيد وتوجيهه جهوده الحربية ضد جيرانه المماليك والإيرانيين؛ إلا أن مجرد إعدادها كان بمثابة جرس إنذار للإسبان أن في الجنوب عدوًا قد يهاجم في أي وقت, وآخر ما يريدون وقوعه عندئذ أن يجدوا عرب غرناطة يحاربون من الداخل؛ مما يضع الجيش الإسباني بين المطرقة والسندان.. فكان لا بد من تضييق الخناق على العرب الخاضعين للحكم الكاثوليكي منعًا لأية مفاجآت غير مرغوب فيها. ثم إن العثمانيين -في مرحلة لاحقة- كانوا قد بدأوا دعم المقاومة الإسلامية المنطلقة من المغرب العربي ضد السفن الأوروبية الرامية للسيطرة على المتوسط؛ مما كان يعطي الغرناطيين أملاً في استعادة ملكهم المسلوب, وكان يشجعهم على القيام بالثورات والتمردات العنيفة من وقت لآخر ضد الاحتلال الإسباني؛ فكان رابطا خفيا من التعاطف العربي المشترك بين الغرناطيين والمقاومين العرب في البحر المتوسط, وكان رابطا مماثلا بين المسلمين وإخوانهم العثمانيين. ثم إن العرب "المُدَجَّنين" (من التدجين أي الاستئناس)كانوا متفرقين في مناطق عدة من مدن أسبانيا والبرتغال؛ مما يعني أن ثمة شبكة إنسانية داخلية بينهم يمكن في أي وقت أن تتّحد لتهب هبة واحدة وتستعيد ملكها البائد، فرأت القيادة السياسية الإسبانية ضرورة قطع تلك الروابط من خلال القضاء على الهويتين العربية والإسلامية حفاظًا على الأمن القومي لدولتهم. وأخيرًا تبقى مسألة "قرار طرد اليهود جميعًا خارج الأندلس"؛ فأولاً كان هؤلاء اليهود ينتمون -نفسيًا وثقافيًا- للعرب أكثر مما ينتمون للأوروبيين؛ مما كان يعني صعوبة فصلهم عن ذلك الانتماء, وثانيًا فإن ثمة شعورا متبادلا بالعرفان كان موجودًا بين المسلمين ويهود الأندلس؛ فالمسلمون لا ينسون لهؤلاء اليهود دعمهم لجيش طارق بن زياد عند فتح الأندلس, وتقديمهم الحماية والمعاونة للعرب في توغلهم في أرض أوروبا, واليهود لا ينكرون أنهم -في ظل الحكم العرب- قد تمتعوا بالحرية الدينية والثقافية والحماية والقدرة على الترقي والصعود المادي والاجتماعي؛ فكان قرار الطرد بمثابة محاولة لكسر أية فرصة لقيام تحالف ثوري يهودي إسلامي ضد السلطة الكاثوليكية الجديدة. اقتصاديًا عملية اضطهاد عرب الأندلس كانت من مصادر دخل كل من رجال الكنيسة والقصر الملكي والطبقة الحاكمة بشكل عام؛ فالأوامر التعسفية وما ينتج عنها من مصادرات للمخالفين, كانت تغذي جيوب المذكورين بالأموال الطائلة؛ إذ كانت العقوبة الأساسية لمخالفة الأوامر الكنسية أو الملكية هي "المصالحة"، وتقضي بأن يتم العفو عن المذنب لقاء مصادرة كل ممتلكاته المادية والعينية، ثم إن ذلك الاضطهاد كان يوفر على الدولة التزامها بمعاملة الموريسكيون والمارانوس باعتبارهم مواطنين, وما يترتب على ذلك من نفقات لتقديم الخدمات لهم أسوة بغيرهم من الرعايا. أما سبب سعي السلطات للحفاظ على وجود فئة "الموريسكيين" فكان ناتجًا عن الرغبة في "تدجينهم" فعليًا وتحويلهم لطبقة "وظيفية" كان يحرص حكام أوروبا -آنذاك- على وجودها تحت أيديهم لتكليفها بأية مهام تستفز كراهية الشعب, كجباية الضرائب أو تنفيذ الأوامر التعسفية, وذلك لتوجيه السخط الشعبي لتلك الفئة بدلاً من أن يوجه للملك ورجاله؛ ولكن لم تنجح تلك المحاولة للتدجين لأسباب كثيرة أهمها عدم وجود لغة متماسكة للحوار بين الموريسكيين وحكام إسبانيا. ثقافيًا واجتماعيًا السلطة الجديدة كانت تدرك أنها لا تتعامل مع مجرد جماعة بشرية استوطنت أرض الأندلس لفترة وكفى.. بل إنها تتعامل مع أهل حضارة قوية لم يمنع انهيارها سياسيًا وعسكريًا استمراريتها ثقافيًا وعلميًا واجتماعيًا وحفاظها على هويتها, كان ذلك يعني أن الأندلس بمثابة "لقمة صعب ابتلاعها" إذا لم يتم تفتيت عناصر تلك الهوية العربية الراسخة في الأرض منذ ثمانية قرون. هنا بدأت المحاربة المنظمة لمظاهر تلك الهوية, من دين ولغة وعلوم؛ فكان التنصير القسري موجهًا للشِق الديني من الهوية, والمنع التام لاستخدام العربية كتابة وحديثًا، وحرق كتب الفقه والأدب، والتضييق على حيازة كتب العلوم والطب؛ سلاحًا ضد الشِق الثقافي. وحتى العادات العربية من مظاهر احتفالية بالأعياد والمناسبات من أعراس وميلاد وغيرها, والمظاهر المرتبطة بالحياة اليومية من مأكل وملبس وزينة, كل هذا تم منعه تحت طائلة عقوبات قاسية تصل إلى الإعدام والنفي والمصادرة. ونلاحظ هنا أن الإسبان قد تطرقوا لبعض ما قد يستخف به البعض من مظاهر الحياة, أعني الطعام والشراب والملابس؛ ولكن المدقق في ذلك يلاحظ أن توغل المحتلين إلى هذا الحد من التضييق على العرب يعني عمق رغبتهم في القضاء حتى على أبسط الروابط بين ما كان عليه العربي وما يرغبون هم أن يصبح عليه. أما من الناحية الاجتماعية, فقد سعت السلطات من حين لآخر للقيام بعمليات تهجير ونفي لبعض السكان العرب؛ بحيث يتفرقون بين المدن الإسبانية أو حتى خارج أوروبا كلها, وسعت كذلك إلى تذويب بعضهم في النسيج السكاني الإسباني؛ وذلك لكسر كتلتهم البشرية التي كانت -على الرغم من الاضطهاد- تتكاثر؛ فخصوبة المرأة العربية الأندلسية كانت مثار دهشة وقلق السلطات التي كانت تخشى تكاثر العرب على أراضيها بشكل يقلب الأوضاع ويجعلهم أغلبية مسيطرة -بطبيعة الحال- على مقدرات الأمور. فتطرفت السلطة في إصدار أوامر النفي الجماعي من وقت لآخر, وخرجت كتابات وتوصيات بعض المتطرفين من رجال الدين والدولة الكاثوليك بمطالبات بالتضييق على الموريسكيين في الزواج, أو منعهم من الزواج من بعضهم البعض وإجبارهم على الزواج من مسيحيين أصليين, أو حتى اقتراحات بإبادتهم جماعيًا! الأسباب النفسية يقول بعض المفكرين: إن تحليل ما يجري في الحروب من جرائم يرتكبها المنتصر؛ إنما يحتاج لمحلل نفسي لا لمؤرخ. ينطبق هذا بشدة على ما جرى بحق عرب الأندلس بعد سقوط دولتهم؛ فمن أهم محركات القهر الإسباني للموريسكيين والمارانوس مخزون الكراهية العميق بحق هؤلاء جميعًا؛ ففيما يخص المارانوس كان الإسبان يحملون تراثًا من البغض لهؤلاء الذين ساعدوا العرب على فتح الأندلس, وشاركوهم بناء الحضارة فيها؛ فضلا عن الكراهية الكاثوليكية الطبيعية لليهود لإنكار هؤلاء الآخرين رسالة المسيح وفضل السيدة مريم العذراء -عليهما الصلاة والسلام. أما فيما يتعلق بالموريسكيين فقد كانت أوروبا ما تزال تبتغي ثأرًا كبيرًا من هزائمها المتكررة في الشرق خلال فترة الحروب الصليبية, وما تلاها من حروب التحرير التي قادها كل من المماليك ضد الجيوب الصليبية في الشام وشرق المتوسط, وكذلك كل من المرابطين والموحدين في شمال إفريقيا. ثم إن الدعايات البابوية المتكررة ضد المسلمين والعرب كانت تغذي مشاعر الكاثوليك المتعصبين -جنودًا وملوكًا- ضد كل ما هو مسلم وتصور الإسلام وما يرتبط به على أنه وباء يهدد بلاد المسيحيين بالخراب والدمار؛ فكان من الطبيعي أن يتسم تعامل الإسبان مع العرب بالهيستيرية والعنف المتطرف وغياب الحوار البناء. ثم إنهم -أي الإسبان- كانوا يعتبرون أنهم في حرب "استرداد" لا "فتح"؛ فكانوا يرون أن تدمير الحضارة العربية في ما اعتبروه "بلادهم" هو بمثابة "محو آثار العدوان"! تلك كانت الأسباب المحركة لعملية الهدم الإسبانية لمظاهر لحضارة العربية في الأندلس.. أما عن أشكال ذلك الهدم وتبعاته.. فذلك حديثٌ قادم إن شاء الله.. (يتبع) مصادر المعلومات: 1- شمس الله تشرق على أرض العرب: د. زيجريد هونكه. 2- الموريسكيون - حياة ومأساة أقلية: أنطونيو دومينيكير هورتيز وبرنارد بنثنت. 3- تاريخ الشعوب الإسلامية: كارل بروكلمان. 4- تاريخنا المفترى عليه: د. يوسف القرضاوي. 5- موسوعة تاريخ العرب: عبد عون الروضان. 6- الإسلام بين افتراء الجهلاء وإنصاف العلماء: د. محمد عمارة. 7- دفاعًا عن مقولة الحضارة الإسلامية المسيحية: ريتشارد بوليت. 8- الله ليس كذلك: د. زيجريد هونكه. 9- تاريخ ضائع: مايكل مورجان هاميلتون. 10- اليد الخفية: د. عبد الوهاب المسيري. 11- موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: د. عبد الوهاب المسيري. 12- المسلمون وأوروبا: د. قاسم عبده قاسم. 13- تاريخ المسلمين في الأندلس: د. محمد سهيل طقوش. 14- أسرار اليهود المتنصرين في الأندلس: د. هدى درويش. 15- دراسات في تاريخ الحروب الصليبية في الأندلس: د. محمد محمود النشار. 16- مسلمو مملكة غرناطة بعد1492م: خوليو كارو باروخا. 17- دراسات في تاريخ إسبانيا والبرتغال في العصور الوسطى: د. محمد محمود النشار. 18- صور من المجتمع الأندلسي: د. سامية مصطفى مسعد. 19- معالم تاريخ المغرب والأندلس: د. حسين مؤنس. 20- محاكم التفتيش الإسبانية: د. بشرى محمود الزوبعي. 21- محاكم التفتيش والموريسكيون: مرثيديس جارثيا أرينال. 22- تاريخ أوكسفورد للحروب الصليبية: جوناثان رايلي سميث.