كلنا يعرف أننا نمر فى مصر الآن بأزمة اقتصادية قاسية، وأن هذه الأزمة استمرت معنا بلا انقطاع منذ ثورة يناير 2011، أى منذ أكثر من أربع سنوات، وعلى الرغم من أن أحوالنا الاقتصادية قبل 2011، لم تكن بدورها تدعو إلى الرضا أو التفاؤل، فإنها كانت أفضل مما نحن فيه الآن. ويزيد من شعورنا بالأزمة حدة، أننا مررنا عقب الثورة مباشرة بأيام ارتفعت فيها آمالنا إلى عنان السماء، سواء فيما يتعلق بالاقتصاد أو السياسة، فلما وجدنا هذه الآمال تتبدد، الواحد بعد الآخر، أضيف إلى شعورنا بالأزمة شعور بالإحباط. ملامح الأزمة الاقتصادية كثيرة، وتكاد تلمس كل جوانب الاقتصاد: معدل نمو الناتج القومى (والدخل) انخفض بشدة فى السنوات الأربع الماضية، حتى لم يعد أكبر بقدر ملموس من معدل نمو السكان، معنى هذا أن متوسط الدخل للفرد الواحد لم يتحسن كثيرا معناه أيضا أنه، فى ظل سوء توزيع الدخل، لابد أن تكون نسبة كبيرة من السكان قد انخفض دخلها ومستوى معيشتها. بل إن توزيع الدخل نفسه لابد أن يزداد سوءا خلال هذه السنوات الأربع، على الأقل بسبب ارتفاع معدل البطالة، وارتفاع أسعار السلع الضرورية بمعدلات أعلى مما كانت عليه قبل الثورة. ليس من الصعب أن نتبين أسباب كل ذلك. فتدهور حالة الأمن أدى إلى تدهور مستوى الانتاج والاستثمار والسياحة، واستمرار حالة عدم الاستقرار السياسى كانت له هذه الآثار نفسها. ومع تدهور الانتاج والاستثمار والسياحة كان لابد أن تزيد معدلات البطالة. الذى يزيد الطين بلة أن الكلام الذى نسمعه والتصريحات الرسمية التى تصدر بقصد الايحاء بأننا على وشك الخروج من الأزمة لا تشفى الغليل ولا حتى تبعث على الطمأنينة. فالكلام كثير عن أموال ضخمة سوف تتدفق علينا فى صورة قروض وودائع واستثمارات، وعن عاصمة جديدة ستبنى، وعن أموال كثيرة سوف تنفق على أفقر القرى، وأن الحكومة تضع مصلحة محدودى الدخل فى قمة أولوياتها، وأن التقارير الجديدة من الهيئات الدولية تعبر عن ثقة أكبر فى مستقبل الاقتصاد المصرى.. إلخ كل هذا لا يشفى الغليل ولا يطمئن. فالأموال التى يقال إنها ستتدفق لا يقال لنا بالضبط هل هى مجرد وعود أم اتفاقات ملزمة؟ وما نوع الاستثمارات بالضبط؟ وكم ستوجد من عمالة؟ وهل ستذهب إلى أكثر المناطق فى مصر حاجة إليها؟ وهل بناء عاصمة جديدة هو ما نحتاجه الآن؟ والكلام عن مراعاة مصلحة محدودى الدخل لا يتفق مع ما يصدر بالفعل من قرارات أو تصريحات، كالاصرار على تخفيض الدعم أو الغائه قبل اتخاذ اجراءات لاعادة توزيع الدخل والاتجاه نحو تخفيض الضرائب على الدخول العليا، ونحو مزيد من الخصخصة.. الخ. من متابعة ما يصدر من تصريحات لا يبدو أن أصحابها يفرقون بين النمو والتنمية. النمو قد لا يعنى أكثر من زيادة عارضة فى الدخل، قد تكون زيادة مؤقتة وليس من المضمون استمرارها، بينما التنمية، التى تتضمن زيادة فى قدرتنا الانتاجية، تنطوى على زيادة باقية فى الدخل، ووضع أسس صلبة لاستمرارها فى المستقبل. التنمية، لا النمو، هى التى حدثت فى الدول التى نسميها بالمتقدمة ولم تحدث فى بلادنا بعد.. والتنمية، لا النمو هى التى تقترن بأشياء جميلة أخرى، حتى فى خارج الميدان الاقتصادى فهى التى تؤسس نهضة ثقافية، وترسخ العقلانية فى الفكر (بما فى ذلك ما يسمى الآن تجديد الفكر الدينى) وهى، لا النمو، التى تسهم، عاجلا أو آجلا، فى حدوث تحسن فى توزيع الدخل، إذ أنها هى التى تقضى على مشكلة البطالة وترفع من مستوى معيشة العمال. الفرق بين التنمية والنمو يشبه الفرق بين التنفس الطبيعى والتنفس الصناعى، على الرغم مما قد يبدو بينهما لأول وهلة من شبه، الأول يمكن الاطمئنان إلى استمراره، بينما نتوقع توقف التنفس الصناعى فى أى لحظة. والأول أى التنفس الطبيعى، هو الذى يسمح للمرء بأن يمارس مختلف وظائفه الأخرى، غير مجرد التنفس. لابد من الاعتراف بأن التفرقة بين النمو والتنمية (أى بين زيادة الدخل وزيادة القدرة الانتاجية) ليس سهلا دائما، فالمقصود بزيادة القدرة الانتاجية الاضافة إلى ما لديك من موارد منتجة، كزيادة الأراضى الزراعية (باستصلاح أراض جديدة) أو زيادة خصوبة الأراضى القديمة باصلاح نظام الرى أو ترشيد الدورة الزراعية) أو بناء مصانع جديدة، أو اكتشاف واستخدام مصادر جديدة للموارد المعدنية، أو تحسين نوع الموارد البشرية بالتعليم، أو زيادة وتحسين وسائل المواصلات.. الخ. ولكن تثور مشكلات بصدد كل من هذه العناصر لها علاقة بالتفرقة بين النمو والتنمية. إن أبسط هذه المشكلات وأوضحها هى احتمال الخلط بين اضافة موارد جديدة، وبين بيع ما لديك من موارد موجودة بالفعل، أو ما يسمى أحيانا الخصخصة فالخصخصة قد تجلب لك دخلا ولكنها نادرا ما تزيد قدرتك الانتاجية، بل قد تنقصها. كما لو أدى بيع أحد البنوك المملوكة للدولة إلى تغيير سياسته الائتمانية فى اتجاه تمويل الاستهلاك بدلا من تمويل مشروعات انتاجية. ولكن فى داخل كل قطاع من القطاعات التى ذكرتها تثور بعض المشكلات بصدد التمييز بين النمو والتنمية ففى الصناعة لا يسهم مصنع يعتمد على استيراد مواده الأولية من الخارج، فى زيادة القدرة الانتاجية لمصر مثل مصنع آخر يستخدم مواد أولية محلية، حتى بفرض تساوى فرص العمالة الجديدة فى الحالتين وفى زيادة الموارد البشرية لا يسهم التوسع فى الكليات المسماة بالنظرية مثلما يسهم به التوسع فى التعليم الفنى والتدريب على مهارات صناعية جديدة. وفى وسائل المواصلات، لا يسهم إدخال قطار أسرع من الصوت مثل مساهمة اصلاح الطرق التى تصل مصدر المواد الأولية بالمصانع التى تستخدمها أو من هذه إلى ميناء التصدير.. إلخ. على الرغم مما يعطيه القطار الأسرع من الصوت من مظهر للحداثة. بل إنه حتى فيما يتعلق بالاستهلاك هناك فرق بين إنشاء ملعب للجولف أو مدينة للملاهى، بجوار مجموعة من الفيلات الفاخرة، وبين إقامة حديقة صغيرة فى حى شعبى تخفف من عناء ساكنيه من العمال وقد ترفع من انتاجيتهم، وقديما اعتبر الاقتصاديون التقليديون زيادة السلع الغذائية من قبيل الاضافة إلى رأس المال وزيادة القدرة الانتاجية، إذا صاحبها توظيف عمال جدد ينفقون أجورهم الجديدة على هذه الزيادة فى السلع الغذائية. إذا وضعنا أزمتنا الاقتصادية الحالية فى إطار تاريخى من الممكن القول بأنه خلال المائتى عام الماضية، شهدت مصر فترات كثيرة تحققت فيها زيادة فى الدخل، ليس فقط فى الدخل الاجمالى بل وحتى فى متوسط الدخل، وهذا هو تفسير ما نراه بوضوح من أن مستوى معيشة المصريين (بمن فى ذلك أقلهم دخلا) أعلى الآن بكثير مما كان عندما تولى محمد على حكم مصر فى بداية القرن التاسع عشر أما الأمر المؤسف فهو أننا بعد مرور كل هذه الفترة الطويلة لا نستطيع القول بإننا نجحنا فى حل مشكلة التنمية ولكن بيان هذا يحتاج إلى بعض التفصيل. (للحديث بقية) لمزيد من مقالات د. جلال أمين