إنصاف رئاسى لإرادة الشعب    انطلاق الملتقى الدولي للتعليم العالي في عصر الذكاء الاصطناعي 2 ديسمبر    أعلى معدلات الكفاءة والاستعداد القتالى على جميع الاتجاهات الاستراتيجية    الري: نجاح حاجز التوجيه في حماية قريه عرب صالح من أخطار السيول    تراجع سعر الدولار أمام الجنيه اليوم الأربعاء فى بداية التعاملات    غرفة السياحية: خطة لدعم المنشآت لحل مشكلات التراخيص والرقابة بالغردقة    وزيرة التخطيط والنائب العام يشهدان تسليم 17 مركزا تكنولوجيا متنقلا للنيابة العامة    الوزير: قاعدة بيانات شاملة لرصد إمكانيات المصانع المحلية وقدراتها الإنتاجية    أسعار الذهب في مصر اليوم الأربعاء 26 نوفمبر 2025    ارتفاع حصيلة ضحايا الفيضانات العارمة جنوب تايلاند إلى 33 قتيلا    وزير الخارجية: حريصون على دعم لبنان ومساندة مؤسساته    نظارات تريزيجيه وعاشور تخطف الأنظار في رحلة سفر الأهلي إلى المغرب.. صور    اللجنة العامة تعلن نتيجة الحصرى العددى بدائرة منيا القمح بمحافظة الشرقية    مصرع شخص وإصابة 3 آخرين في حادث تصادم على طريق «القصير – مرسى علم»    حكايات الغياب والمقاومة فى «القاهرة السينمائى»    محمد عبد المطلب.. 50 عامًا من تجديد البلاغة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 26-10-2025 في محافظة الأقصر    مدبولى يكرم عددا من رموز عمل الرعاية الصحية بالملتقى السنوى السادس للهيئة    فحص أكثر من 6 ملايين طالب ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأنيميا بالمدارس    تحسين مستوى المعيشة    وزير الصحة يزور مستشفى «أنقرة جازيلر» المتخصص في إعادة تأهيل إصابات الحبل الشوكي والتأهيل الروبوتي    اليوم.. الحكم على البلوجر «أم مكة» بتهمة نشر فيديوهات خادشة للحياء    عثور على غاز سام الفوسفين في غرفة عائلة ألمانية توفيت بإسطنبول    أسعار المأكولات البحرية والجمبري اليوم الاربعاء 26-11-2025 في محافظة قنا    اتحاد السلة يعتمد فوز الأهلي بدوري المرتبط بعد انسحاب الاتحاد ويعاقب الناديين    محمد صبحي: "طفلة ندهت علي في المستشفى وقالت جدو ونيس وبكيت بعد سماعها"    اليوم.. أرسنال يستضيف بايرن ميونخ.. والريال يواجه أولمبياكوس.. وليفربول أمام آيندهوفن    أسعار الأسماك اليوم 26 نوفمبر في سوق العبور.. والبلطي يبدأ من 58 جنيها    وزيرتا التنمية المحلية والتضامن تبحثان دعم جهود الهلال الأحمر المصري    طقس الأربعاء منخفض في درجات الحرارة والشبورة كثيفة صباحا    اليوم.. محاكمة 124 متهمًا في قضية الهيكل الإداري للإخوان بالتجمع    أسعار الأسماك والخضراوات والدواجن.. 26 نوفمبر    تدخل حيز التنفيذ في يناير، تفاصيل وثيقة وقعها بوتين لجعل 95 % من سكان أوكرانيا روسا    نتائج الحصر العددي لأصوات الناخبين بالدائرتين الأولى والثالثة في الإسماعيلية    إلهام شاهين: تكريم مهرجان شرم الشيخ تتويج لرحلتي الفنية.. مسيرتي كانت مليئة بالتحديات    مقتل مطلوبين اثنين من حملة الفكر التكفيري في عملية أمنية بالأردن    مهرجان شرم الشيخ يعلن اختيار رومانيا ضيف شرف دورته القادمة    بعد نجاح "دولة التلاوة".. دعوة لإطلاق جمهورية المؤذنين    دار الإفتاء تؤكد حرمة ضرب الزوجة وتحث على الرحمة والمودة    ترامب: «خطة ال28» للسلام في أوكرانيا «مجرد خريطة»    دار الإفتاء تكشف.. ما يجوز وما يحرم في ملابس المتوفى    مادورو: سندافع عن فنزويلا ضد أي تهديد والنصر سيكون حليفنا    وعكة صحية تُدخل والدة رضا البحراوى المستشفى    ريهام عبد الحكيم تتألق في «صدى الأهرامات» بأغنية «بتسأل يا حبيبي» لعمار الشريعي    محمود فتح الله: تصريحات حسام حسن الأخيرة تعتبر الأسوأ في تاريخ مدربي منتخب مصر    تقدم مرشح حزب النور ومستقبل وطن.. المؤشرات الأولية للدائرة الأولى بكفر الشيخ    مؤشرات أولية.. الإعادة بين 4 مرشحين بدائرة شبين الكوم في المنوفية    دعاء جوف الليل| اللهم يا شافي القلوب والأبدان أنزل شفاءك على كل مريض    خمسة لطفلك | كيف تكتشفين العدوى الفيروسية مبكرًا؟    ب8 سيارات إطفاء.. السيطرة على حريق مصنع تدوير القطن والأقمشة بالقليوبية| صور    ترتيب دوري أبطال أوروبا.. تشيلسي يقترب من المربع الذهبي وبرشلونة ال15    بروسيا دورتمنود يمطر شباك فياريال برباعية نظيفة    مصرع طفل 15 سنة في تصادم دراجة وسيارة نقل خلال حفل زفاف غرب الأقصر    بوروسيا دورتموند يفترس فياريال برباعية في دوري أبطال أوروبا    اتحاد الكرة يعلن حكام مباريات الخميس والسبت فى دور ال32 بكأس مصر    الفقي: نجاح البرلمان لن يتحقق إلا بوجود معارضة قوية ورجل الأعمال لا يصلح للسياسة    محمد صبحي عن مرضه: التشخيص كشف عن وجود فيروس في المخ    مواجهة نارية في دوري أبطال أوروبا.. برشلونة وتشيلسي لايف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعر الذى ملأ الدنيا وشغل الناس
نشر في الأهرام اليومي يوم 23 - 04 - 2015

عندما جاء الأبنودى من بلاده الجنوبية ،لم يقتنع بفكرة الشاعر الذى يجلس على المقهى ولا يدركه الناس ،ولكنه أراد أن يكون ملء السمع والبصر ،فاخترق الصفوف بقوة ،وشغل الدنيا وملأ الناس ،كما كان يطلق على المتنبى.
عبدالرحمن الأبنودى هو ثالث الشعراء الذين تجاوز تأثيرهم وحضورهم هذه المساحات الضيقة ،إلى الشوارع والغيطان والبيوت والأزقة ،الأول هو عمنا وجدنا بيرم التونسى ،الذى عاش حياة قاسية وصعبة ،وظل مطاردا معظم مراحل حياته، ودفع ثمن معارضته وتمرده نفيا وتشريدا وجوعا ومرضا عضّالا ،انتهى به إلى الرحيل وهو فى أشدّ عطائه الفنى ،وحتى بعد عودته إلى أرض الوطن ،ظل يعمل ويكدّ حتى يجد قوت يومه ،رغم أن أعظم الفنانين صدحوا بكلماته ،مثل أم كلثوم وغيرها ،وأهم الملحنين لحنّوا أغانيه مثل زكريا أحمد ورياض السنباطى ،ولكنه ظل أسيرا للفقر وللمرض ،ولكن كلماته استطاعت أن تنساب بيسر وسهولة وجمال فى كل بيوت مصر والعالم العربى.
أما الشاعر الثانى فهو العظيم صلاح جاهين ،الذى استكمل مسيرة بيرم وبديع خيرى، ولكنه جرّب عددا من الفنون، بداية من كتابة القصة القصيرة، والشعر الفصيح، ثم الشعر الشعبى، وبعدها انطلق لفنون السيناريو والأوبريت والصحافة والكاريكاتير والتمثيل والغناء، وكتب هو نفسه عن نفسه «بورتريه» رائعا وجميلا، ليتأمل حالته المتعددة الوجوه ،والتى تجمع بين كل هذه الفنون، وأجرى حوارا ممتعا بين كل هذه الوجوه للشخصية الواحدة ،ولذلك قفز برشاقة الفنان المتعدد من خانات النخبة الخانقة ،إلى هواء الشعب والجماهير الواسعة ،ولم يتنازل عن ارتقاء فنه، وأصبحت كلماته على طرف كل لسان، وفى قلب الناس جميعا.
وإذا كان بيرم اسكندرانيا ومن حىّ عريق وشعبى هو حىّ السيّالة، فإن صلاح جاهين قاهرى محض وتربى فى بيت يحيطه تاريخ سياسى وثقافى من كل جانب، فجدّه الصحفى الثائر أحمد حلمى، ووالده المستشار القانونى الكبير، وكان الضلع الثالث هو الشاعر الشاب عبد الرحمن الأبنودى، الذى جاء من أقصى الصعيد، ومن أسرة دينية عريقة، ووالده كان مأذونا شرعيا، وإماما لمسجد القرية، وكان يعقد القران على العرسان بطريقة واحدة طوال حياته ،ويحسم الطلاق بين زوجين خصيمين بالكلمات نفسها، وكان _ كما يحكى الأبنودى فى أيامه الحلوة _ يقرأ الكلمات بأداء يكاد يكون واحدا، والإيقاع لا يتغير أبدا، ولا يداهمه اللحن أو التحريف ،ولا طارئ الكلمات،ويصف الأبنودى والده قائلا: «كان والدى الشيخ منضبطا كالسطر المعتدل، منفلتا من المتكرر، يحاول أن يجعل من يومه صورة مطابقة لأمسه، وأى اختلاف بينهما يدخل من وجهة نظره فى دائرة الشذوذ كفانا الله شرها».
ولا يملّ عبد الرحمن من سرد حياته الواقعية الطويلة، وذلك عبر كتاباته الفريدة، ذات النثر العربى البديع، رغم أنه الابن الوفى للشعر الشعبى والعامى، والمنفلت من أسر الفصحى، يسرد الأبنودى وقائع حياته شعرا ونثرا وحواديت إذاعية وتليفزيونية، ويستطيع أن يدخل فورا إلى قلب المتلقى القارئ والسامع والمشاهد أو الجالس فى حضرته، والمسافات تكاد تكون معدومة بين كل هذه المواضع ،فالقصيدة رغم فنيّتها العالية، وحيلها البنائية العديدة، إلا أنها قادرة على إيهام القارئ بأنها حديث من القلب ،ولا تنطوى على أى معضلات عويصة، مثل هذه القصائد التى لا بد أنها تستنزف جهدا مضنيا حتى يستطيع القارئ أو السامع لها أن يتابعها بدقة.
قصيدة الأبنودى وحكاياته ونثره فى كتبه العديدة «الأخطاء المقصودة، ثم الأحزان العادية، ثم أيامى الحلوة»، لا يكاد المرء يبدأ معه فيها، فلا يمل أو يكل من هذا التتبع المفعم بالتشويق ،الذى يشبه متابعة فيلم ممتع وآسر.
يقول فى «أنا والناس»
(قابلت ناس كتير
وعاشرت ناس كتير
قابلت ناس حبونى ..حبيتهم..
وقابلت ناس..
زعلت مع ناس
تلاتين سنة واكتر
ماشى وعينى ما بطلت بص ف عيون الناس
بسطتنى حاجات كتير
وغنّيت بحاجات كتير
وأذتنى حاجات كتير.
كنت أبقى فرحان ساعات
وأبقى زعلان ساعات
كله بسبب الناس)
الناس هم السلاح الذى خدم فيه الأبنودى ،الناس عند الأبنودى هم عالمه الأول والأسير والآسر ،ومن أجلهم قرر أن يكون مثل أسلافه العظام بيرم وجاهين ،وقرر أن يغنى لهم ،ويكتب لهم ،وينشد لهم ،وبذلك لا بد أن يصل بكلماته لهم.

«سيرة»

حصل عبدالرحمن على شهادته المتوسطة فى مقتبل حياته، قبل أن يستأنفها فيما بعد ليحصل على ليسانس الآداب ،قسم اللغة العربية، والتحق موظفا وكاتبا بمحكمة قنا العمومية، وكان قد نهل من مكتبة والده عيون التراث الدينى والأدبى، وكان معه فى البلدة نفسها الشاعر الشاب محمد أمل دنقل، كذلك القاص المشاكس والغريب الأطوار يحيى الطاهر عبدالله، وتمرد الثلاثة على حياة الصعيد القاسية والرتيبة، والتى من الطبيعى أنها ستدفن مواهبهم العظيمة، وتشاء الأقدار أن يلعب المبدعون الثلاثة أهم الأدوار فى تطوير فنون القصة والشعر ،والشعر العامى ،ويصبح للمبدعين الثلاثة مكانات وقامات شامخة ،رغم الظروف المختلفة فى تصاريف الحياة فيما بعد.
عبد الرحمن الأبنودى، أصرّ _ كما يكتب الراحل سيد خميس _ أن يخرج إلى الشارع، ولابد للكلمة الثورية أن تخرج من هذا النطاق الضيق والخانق، والقاتل للفن والكلمات، فالفن لا يعرف المساحات الضيقة، ولا يعرف الغرف المغلقة، لذلك خرجت كلمات عبد الرحمن الأبنودى من عتمة الخنادق الثقافية، ومن مقاعد المقاهى القليلة التى كان يجلس عليها الكتّاب والمثقفون آنذاك مثل مقاهى ريش وأسترا وايزافيتش، إلى الراديو مباشرة حيث الآلاف بل الملايين من الناس الذين يعمل الأبنودى لهم ومن أجلهم، ويعبّر عن أشواقهم، فغنّى له محمد رشدى «تحت الشجر ياوهيبة.. ياما كلنا برتقان..كحلة عينك ياوهيبة جارحة قلوب الجدعان»..كلمات بسيطة ،ولكنها جاء كاكتشاف فنى كبير ،أين كانت هذه الكلمات ،كيف يكون البرتقال والكحل والأكل، مجالا للأغانى، بعدها صار الأبنودى نجما مباشرة، يغنى له عبد الحليم حافظ وشادية وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة.
ويكتب صديقه سيد خميس عن أيام التعارف الأولى بينه وبين الأبنودى فى مقال كتبه منذ أكثر من عشر سنوات فيقول عرفت عبدالرحمن الأبنودى _ لأول مرة _ فى بدايات الستينيات، فى ندوة الثلاثاء ،فى رابطة الأدب الحديث، التى كانت فى تلك الفترة بمثابة ورشة إبداعية وثقافية لكثيرين من جيل الستينيات، كان عبد الرحمن يؤدى الخدمة العسكرية، ويرتدى ملابس الجيش ويلقى بعض قصائده المبكرة التى تشى بشعر جديد ،ربما لم يكتمل بعد ،ولكنه يطرق الآذان لأول مرة :
«القبر المحشور بالأموات _ والليل أتانى لما فات _ ووقف بيبص ف خرم الباب أربع مرات ..الكلب بيعوى فوق الحيط.. وترد عليه من شرق السكة كلاب يتجن ..ويهد السقف ..يمطر فوق العيلة حطب القطن»..
..بعد الندوة تصعلكنا فى وسط القاهرة طويلا ،صرنا أصدقاء ،أدركت أن هذا الفتى الجنوبى يملك إلى جانب موهبته الشعرية المميزة ،موهبة انسانية لا تتبينها بسهولة، ولا تدركها إلا بعد الوقوع فى أسرها، إنها موهبة الاستيلاء على عواطف من يختارهم لصداقته ،مرة واحدة وإلى الأبد!).
هكذا كان الأبنودى فى بداياته، شاعرا موهوبا، يقطع شوارع القاهرة ومقاهيها ومراكزها الثقافية، يقرأ قصائده الحديثة على الأصدقاء ،ويكتب الأغانى اللافتة والجديدة ،والتى يغنيها له مطربون كبار ،وفى الوقت نفسه كان ينتمى إلى فريق اليسار الذى يكره الاستبداد والطغيان، ويغنى للحرية والحياة والجمال، ويقرأ لوركا وكارل ماركس ،وينادى: «ياعمال العالم اتحدوا».
ويبدو أن هذه المعادلة المركبة ،كان وقعها ثقيلا على أمن البلاد، إذ أن عبد الرحمن الأبنودى الشاعر والمثقف الأشهر بين جيله ،والبذى جاء من الصعيد مغتربا، ولكنه أحدث حضورا أكثر من كل كتّاب المدينة القاهريين، ومن الذين جاءوا من قرى قريبة من القاهرة، رغم لهجته الغريبة عن أبناء المدينة ،وكان كل هذا مثيرا ولافتا ومقلقا للسلطات، فالشاعر الذى كتب فى أول ديوان له يقول فى مطلعه :
«الليل جدار..
إذا يدن الديك من عليه يطلع نهار..
وتنفلت من قبضة الشرق الحمامة أم الجناح
أم الجناح أبيض فى لون قلب الصغار..
آه ياحبيبتى يام خصلة مهفهفه..
قلبى اللى مرعوش بالأمان..
لسه بيحلم بالدفا..
والشمس كلمة طيبة وفيها الشفا..
قلبى اللى كان قرّب يموت ..
لسة بيحلم بالبيوت..
زى الخرز..).
هذا الديوان الذى غنى فيه للشمس وللقمر وللحرية وللنسيم ،وللشاعر الإسبانى المغتال لوركا، غنى عن الأولاد الحالمين بوطن أخضر حر، مع انتشار أغنيات الأبنودى انتشارا واسعا، مع صداقاته بكل أطياف اليسار مثل صلاح عيسى وابراهيم فتحى وصبرى حافظ وجمال الغيطانى وغالب هلسا، الذى كان رأس حربة ثقافية، رغم أنه لم يكن مصريا، ولكنه كان يلعب دورا تثقفيا وتسييسيا لرفاقه الشباب ،وفى منتصف العام 1966، كتب غالب سلسلة مقالات عن الديمقراطية وغيابها فى عالمنا العربى ،ونشرت هذه المقالات فى مجلة «الحرية» اللبنانية، وفى أعقابها بدأت المباحث تعدّ ملفا كبيرا لغالب ورفاقه، وفى أكتوبر من العام نفسه، قبضت السلطات على هؤلاء الشباب، بما فيهم الابنودى، وكان القبض على الأبنودى غريبا ومدهشا، رغم أن أغانيه كانت تملأ الدنيا كلها، كان الأبنودى _ حسب مارواه سيد خميس _ أشهر من فى الحبسة ،وكان الحرّاس فى السجن يعاملونه أحيانا معاملة خاصة، إلا الضابط الشاب، الذى انتابته سعادة غامرة، عندما تم إيداع الأبنودى فى الحبس الانفرادى، لماذا كانت سعادة الضابط الشاب؟، كانت سعادته منطلقة من غيرته من الشاعر الذى لا تكف خطيبته سيل الحكايات عن أغانيه التى يغنيها عبد الحليم حافظ، وكان الأبنودى يتعامل مع الجميع مسجونين وسجّانين بالمستوى الانسانى نفسه، وظل هؤلاء الشباب قيد الحبس ،تحت سلسلة من الإجراءات غير القضائية التى نالت من أجسادهم، ولكنها لم تنل من عزائمهم، وبعد ضغوط مختلفة على السلطات وإحراجها، أخرجتهم فى مارس عام 1967، ليصدر الأبنودى ديوانه الثانى «الزجمة» فى نوفمبر 1967، برسومات الفنان الراحل الكبير محيى اللباد، ويكتب تنويها فى نهاية الديوان يقول فيه :
«لإنه مافيش ناشر رضى يتولانى برحمته..
طبعت الديوان على حسابى..
ودى إمكانياتى..»
وبعد خروج الشباب من المعتقل ، ذهب الأبنودى ليقضى وقتا للراحة مع أسرته فى بلدته مع والده ووالدته وأهله وناسه ولكن بعد قليل وقعت كارثة 1967، وكانت بوادر المعركة بين مصر واسرائيل واضحة تماما ،فمنذ 14 مايو 1967 ، وتأزم الحالة السياسية ،واشتداد التحضير العسكرى، وإطلاق التصريحات العريضة فى القتال، وتهديد اسرائيل لسوريا ، ودخول الجيش المصرى لسيناء، ثم إعلان سحب قوات الطوارئ الدولية ،وبعدها إغلاق خليج العقبة أمام السفن والملاحة الاسرائلية قاطبة ،بعدها توالت الانباء الكثيرة للتعبئة العامة للقوات المسلحة..
إذن الحالة كانت جيم كما يقولون ،والشعب كله متوتر ،ومن الواضح طبعا أن اسرائيل كانت تجر مصر إلى هذا الفخ الحربى، وبالفعل انجرّت مصر حتى وقعت الواقعة ،وكان أحمد سعيد يهتف فى الإذاعة بالانتصار، وبعدها أعلن جمال عبد الناصر التنحى فى 9 و19 يونيو ،وتخرج الجماهير فى مظاهرات حاشدة ،مطالبة بهدفين، الأول هو عودة جمال عبد الناصر إلى السلطة فورا لتحمله مسئولية ماحدث ،أما الهدف الثانى كان العودة مرة أخرى إلى ساحات القتال مع اسرائيل ، لمحو آثار العار الذى لحق بالبلاد .
وعلى هذا الإيقاع بدأت السلطة تنشد أملا جديدا فى تجاوز ماحدث، والتحضير بالفعل وقدما نحو ترتيبات أخرى لإحراز نصر على اسرائيل، وبناء عليه تم استدعاء كافة الطاقات القتالية والشعبية، وبالتالى الفنية والثقافية.
وفى ذلك الوقت اتصل المؤرخ الفنى بعبد الرحمن الأبنودى فى البلد، وذلك عبر الكابينة العمومية هناك، وعلى إثرها جاء الأبنودى إلى القاهرة ملبيا نداء الوطن، وكتب أكثر الأغانى حماسة :«اضرب ..لجل الولاد اضرب..لجل الربيع اضرب.. لجل الجميع اضرب»، وكان يخاطب الجيش والشعب والرئيس فى وقت واحد، ويخاطب الضمير المعذب، والذى آلمته هزيمة لم تكن فى الحسبان على هذا النحو..
ثم كتب يخاطب الرئيس مباشرة: «ولا يهمك ياريس م الأمريكان ياريس ..»، ثم كانت أغنية «بالدم حناخد تارنا ..بالدم نعود لديارنا ..»، وجاء الأغنية العظيمة التى مازال كل مصرى ينشدها فى كل الأزمات:«أحلف بسماها وبترابها.. أحلف بدروبها وأبوابها.. ماتغيب الشمس العربية طول مانا عايش فوق الدنيا..»، وكان عبد الحليم متماهيا فى الأغنية ،ومتفوقا على نفسه وعلى تاريخه الفنى كله ،فشدا وصدح وصال وجال ،للدرجة التى كانت الأغنية فى كل بيت، وعلى كل لسان، ثم جاءت أغنية «إنذار يااستعمار ..بترول مافيش ..قنال مافيش..» ثم «يابرككان الغضب.. ياموحد العرب».. ثم «ابنك يقولك يابطل هات لى انتصار»..
وهكذا استطاع الأبنودى أن يشعل الناس والجماهير المحبطة حماسا، ولعبت أغنيات عبد الرحمن الأبنودى دورا يشبه دور البطولة المطلقة فى مدّ الوجدان المصرى الذى كاد أن ينهار، بقبلة حياة مرة أخرى، وكانت هذه الأغنيات تذاع بكثرة على خطوط الجبهة المصرية ،مما زاد أبطالنا البواسل فى حرب الاستنزاف حماسا وإنجازا، حتى حرب 1973 التى انتصر فيها المصريون الفقراء والغلابة، من أبناء الفلاحين والعمال والموظفين المصريين على الأسطورة الغبية المسلحة بكل أدوات الشر.
وفى ظل كل هذه الكتابات الفنية والشعرية والنثرية، لاينسى الأبنودى الحرب الاجتماعية الضروس، الدائرة بين طبقات ناهبة لعرق الفقراء، وهؤلاء الفقراء الذين تستنزف دماؤهم يوميا ،ويتحول عرقهم إلى حسابات بنكية دائما ،الأبنودى أنشد للفلاح وللعمال وللسد العالى وللحب وللجمال ،وكتب ضد الاستبداد والطغيان والديكتاتورية ..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.