لم تكن إشكاليات تجديد الخطاب الدينى ومواجهة الفكر المتشدد والمتطرف وليدة اليوم، فقد تصدى لها أعلام الدعاة والمفكرون وعلماء الدين بالأزهر الراحلون، وكانت شاشة التليفزيون الفضية أحد السبل المهمة التى نشروا من خلالها علمهم الذى أضحى الآن تراثا ورمزا للوسطية والاعتدال والتدين الصحيح، وتنوع هذا التراث ما بين أحاديث وندوات وحوارات لكبار المفكرين من علماء المسلمين الراحلين، وعلى رأس هؤلاء العلماء الشيخ محمد متولى الشعراوى والإمام عبد الحليم محمود والإمام جاد الحق على جاد الحق ود. عبد المنعم النمر ود. محمد حسين الذهبى والشيخ محمد الغزالى ود. أحمد حسن الباقورى، وغيرهم كثير. والسؤال الآن: كيف يمكن الاستفادة من التراث الدينى بالتليفزيون فى تجديد الخطاب الدينى ومواجهة التطرف، باعتبار ذلك التراث منبرا دعويا غائبا، خاصة انه يحوى بين طياته أحاديث لرموز الدعوة المعتدلين؟ وما هى المعوقات التى تحول دون الاستعانة بهذا التراث؟. يقول مجدى درويش كبير مخرجى البرامج الدينية بالتليفزيون: بدأنا بالفعل الاستعانة بالتراث الدينى فى التليفزيون منذ فترة، وذلك من خلال برنامج «تراثنا الإسلامي»، الذى يقوم بإخراجه الزميل عبد العزيز عمران، ويذاع يوميا فى الساعة الرابعة إلا خمس دقائق عصرا، ويتناول البرنامج الأحاديث الدينية النادرة لكبار علماء المسلمين الراحلين، الذين نشروا الفكر الوسطى المعتدل خلال القرن الماضى وبداية هذا القرن. والاستفادة الحقيقية والعملية من التراث الديني، ليست فقط فى إعادة بث الأحاديث القديمة، ولكن تكمن فى ضرورة اتباع العلماء والدعاة والمعاصرين الذين يتعاملون مع القضايا الفكرية، نهج أعلام المفكرين والعلماء والدعاة الراحلين. معوقات ويواجه التراث الدينى بالتليفزيون صعوبات بالغة يكشفها عبد العزيز عمران مدير عام الإذاعات الخارجية والتراث بالإدارة المركزية للبرامج الدينية بالتليفزيون، قائلا: إن التراث المرئى بالتليفزيون يواجه صعوبات كبيرة فى نقله والحفاظ عليه، ويوجد اهتمام من القيادات الحالية وعلى رأسهم رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون ورئيس التليفزيون، لنقل والحفاظ على هذا التراث ولكن الأمر يحتاج إمكانات أكبر من إمكانات الاتحاد، ويأتى على رأس هذه الصعوبات وجود أكثر من 350 ألف ساعة متنوعة ما بين تراث دينى وفنى وثقافى وسياسى ورياضى تحتاج للنقل مع قلة عدد ماكينات النقل لشرائط 1 و2 بوصة وشرائط «السوبر بيتاكام» وإذا سار النقل بهذا البطء والنهج الذى يسير عليه الآن فسوف يحتاج هذا النقل لأكثر من 50 سنة هذا مع اعتبار أن هناك شرائط تلفت من طريقة التخزين ومازال التلف يزحف على شرائط أخري، بالإضافة إلى الندرة الشديدة وقلة عدد الفنيين المدربين على نقل هذا التراث حتى فى العمال الذين يقومون بنقل الشرائط، فهل يعقل أن قطاع الهندسة الضخم الذى يتمتع بكل هذه الإمكانات يعجز عن إصلاح ماكينة تنظيف الشرائط 2بوصة قبل النقل منذ ما يقارب 3 سنوات؟!. كما أن أجهزة التصحيح للشرائط بعد نقلها قليلة، وللأسف يوجد جهاز حديث منذ ما يقرب من سنة مهدى إلى الاتحاد، يحتجزه قطاع الهندسة دون عمل بحجة انه يحتاج لبعض البرامج، وهناك من عرض ان يشترى هذه البرامج لحسابه إن كان الأمر كذلك، ولكن لم يتحرك احد من الهندسة الإذاعية. حلول مقترحة ولمواجهة تلك الصعوبات، يقترح عبد العزيز عمران عدة حلول، منها تبنى مشروع نقل التراث كمشروع قومى مثل بعض الدول العربية كالكويت والسعودية والسودان وبعض الدول الإفريقية الأخرى بالرغم من أن الموجود لديهم لا يمثل واحدا فى الألف مما يوجد بالاتحاد لدينا، وأيضا سرعة إطلاق قناة للتراث بالتليفزيون، وتتولى إدارتها والإشراف عليها الإدارة المركزية للمكتبات التى تبذل جهدا كبيرا فى محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه لهذا التراث ولكن الأمر أكبر من إمكاناتها بكثير، ومن الممكن تخصيص عدد من الساعات فى القنوات المتخصصة لعرض برامج خاصة بالتراث الى حين إنشاء قناة للتراث، كما يجب التفكير فى كيفية حماية هذه المادة التراثية بعد إذاعتها حتى لا تتم سرقتها عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي. قناة للتراث وتعقيبا على ذلك، يقول مجدى لاشين رئيس التليفزيون، إنه يتم بالفعل حاليا التجهيز لقناة فضائية بالتليفزيون، تحت مسمى «كنوز» لبث جميع التراث الخاص بالتليفزيون سواء كان هذا التراث فى شكل فنى أو رياضى أو دينى او ثقافى او سياسي، ويأتى التراث الدينى فى مقدمة اهتمامنا، باعتبار ذلك التراث عاملا أساسيا لنشر الفكر الدينى الوسطى المعتدل، خاصة فى ظل ما تشهده الساحة حاليا من تيارات متطرفة ومتشددة تريد تحقيق أهدافها الخاصة عن طريق استغلال الدين، وهذه القناة ستتبع القنوات المتخصصة، ويتم حاليا توفير التمويل والدعم الفنى والكوادر اللازمة لها، ونحاول جاهدين حتى يبدأ بث هذه القناة مع بداية شهر رمضان المقبل، موضحا أنه يتم فى الوقت الحالى تجهيز كامل للأرشفة الالكترونية لحفظ وصيانة التراث بالتليفزيون، وذلك خدمة للأجيال المقبلة فى جميع المجالات، هذا بالإضافة إلى ما يتم إعداده من برامج دينية بأفكار متجددة على قنوات التليفزيون المختلفة، من خلال علماء الدين المشهود لهم بالوسطية والاعتدال فى الفكر والمنهج، لنشر مباديء الإسلام السمح وإعادة منظومة القيم والأخلاق فى المجتمع، وفى الوقت ذاته الرد على الأفكار المتطرفة والمتشددة المنتشرة حاليا خاصة بين فئة الشباب. التنقية ضرورة من جانبه، أوضح عبد الخالق يوسف عطية الأمين العام المساعد باتحاد الإذاعة والتليفزيون، ان الاستعانة بالتراث الدينى فى تجديد الخطاب الديني-سواء من خلال قناة متخصصة للتراث او برامج موسعة على القنوات الموجودة حاليا- تعتبر فكرة جيدة، ولكن بشرط تنقية هذا التراث، واختيار وانتقاء ما يصلح عرضه وما يتماشى مع الواقع المعيش، ليكون إضافة حقيقية لقضية التجديد، وليس مجرد مشاهدة أو استماع ما هو قديم، مع الوضع فى الاعتبار ضرورة وضع خريطة لبث تلك البرامج على القنوات المختلفة فى أوقات مناسبة للمشاهدين، لتحقيق استفادة حقيقية منها. كنز ثمين وحول رؤية علماء الدين لأهمية هذا التراث التليفزيونى فى مواجهة الفكر المتطرف وتجديد الخطاب الدينى يؤكد الدكتور أحمد عمر هاشم عضو هيئة كبار العلماء، ضرورة الحفاظ وصيانة التراث الدينى سواء فى الإذاعة أو فى التليفزيون، لما يمثله من كنز ثمين قدمه أصحابه من أعلام الفكر الإسلامى الذين ملأوا الدنيا علوما تمثلت فى اجتهادات فقهية وأحاديث نادرة حول قضايا تتجدد بين الحين والآخر، موضحا ان هؤلاء العلماء قلما يجود الزمان بمثلهم فهم يظهرون للناس على فترات متباعدة، لذا يجب على المسئولين عن هذا التراث أن يحافظوا عليه كما يتم الحفاظ على التراث المكتوب والمخطوط والمطبوع ، وذلك لأن من حق الأجيال القادمة علينا أن يعرفوا أن لهم آباء كانوا قمة ومنارة فى العلم والفكر، أمثال الشيخ شلتوت والشيخ عبد الحليم محمود والشيخ الشعراوي. وفى سياق متصل أشاد الدكتور علوى خليل أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، بفكرة إنشاء قناة لحفظ هذا التراث، مطالبا بمعاقبة كل من يعبث بهذا التراث باعتباره ملكية فكرية لها حقوقها فى القانون، مشيرا إلى أننا حاليا فى أمس الحاجة إلى سماع أعلام الفكر الإسلامى السابقين، والاستعانة به فى تجديد الخطاب الديني، فهؤلاء الأعلام من المفكرين الراحلين قد ناقشوا قضايا نعيشها حاليا، مشددا على ضرورة الاستعانة بأحاديثهم التراثية فى مواجهة مشكلاتنا خاصة أن هؤلاء المفكرين قد كتب الله لهم القبول عند جميع الناس.