في الأيام القليلة المنصرمة، بدا واضحا أن هناك سباقا بين المسئولين عن الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA وبين الوقت، سباق يحاول فيه مدير الوكالة «جون برينان» غسل سمعتها التي تلوثت كثيرا في عيون الأمريكيين بنوع خاص، وبقية العالم بشكل عام، لاسيما بعد التقرير الأخير الذي صدر في ديسمبر المنصرم، والذي عرف ب تقرير فنشتاين حيث تمكنت «دايان فنشتاين» رئيسة لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأمريكي، وأثر معركة طويلة مع إدارة أوباما التي كانت تعارض وتبذل كل ما بوسعها لإخفاء الحقيقة، من نشر مقتطفات من تقريرها عن برنامج التعذيب السري لوكالة الاستخبارات المركزية. ولعل ما لم يشر إليه كثير من الذين تناولوا التقرير بالبحث والدرس، هو أن الهدف من ذلك البرنامج لم يكن الحصول علي معلومات حول تنظيم القاعدة، بل كان يرمي إلي إخضاع بشر لتطبيقات عملية كان البروفيسور «مارتن سيليجمان» قد أجراها علي بعض الحيوانات في مختبرات، بمعني أن الغرض الحقيقي من البرنامج كان تلقين، ما يمكن أن نطلق عليه حيوانات المختبرات البشرية، اعترافات علي أفعال لم يقوموا بها مطلقا... يتحدث البعض في واشنطن عن «إرث الرماد» الذي خلفته الاستخبارات المركزية الأمريكية حتي الساعة، ويبدو أنه إرث لا ينقطع من الفشل والجهل، وعدم الكفاءة المضحكة.. هل باتت الوكالة إذن عبئا علي الولاياتالمتحدةالأمريكية لاعونا لها في مواجهة عالم أكثر صعوبة واضطرابا؟ ربما جاءت حسابات حصاد السي أي أيه لتؤكد أسوأ مخاوف مؤسسها الرئيس الأمريكي «هنري ترومان» الذي اشمأز من فكرة أن هذه الوكالة قد تنحدر إلي مستوي «الجستابو الأمريكي». في هذه الأجواء يسعي «جون برينان» إلي أحداث إصلاحات جذرية في طريقة عمل الوكالة، غير أن بعض النافذين في واشنطن يتساءلون: هل هذه الإصلاحات من شأنها أن تكون أكثر ضررا علي مهمة الاستخبارات الإستراتيجية المنوطة بالوكالة؟ لعل السبب في طرح السؤال المتقدم هو أن برينان يسعي إلي تعزيز خطة لإعادة تنظيم وكالة الاستخبارات المركزية من شأنها أن تجعل تحليل المعلومات الاستخبارية يتم بطريقة مسيسة لدعم مصالح البيت الأبيض وصناع القرار... ماذا تعني تلك الخطة؟ بدون إغراق في الإجراءات السرية الاستخباراتية، فإن خطة برينان تتضمن إلغاء ما يسمي ب زمديريات الاستخبارات والعملياتس والتي تم تصميمها، من أجل الحفاظ علي الحدود البيروقراطية، بين تحليل المعلومات الاستخبارية، وتوظيفها في شكل إجراءات عملية سرية علي الأرض، والخطة بهذا المعني تضع المحللين والعملاء جنبا إلي جنب في مراكز إقليمية ووظيفية، الأمر الذي يسبب ضررا كبيرا للاستخبارات الاستراتيجية، مما يجعل أعمال الاستخبارات الأمريكية تنحو من دائرة الأعمال السرية الحيادية والتي هدفها الوحيد هو الحفاظ علي الأمن القومي الأمريكي، إلي أعمال مسيسة تقوم علي خدمة واضعي السياسات، والإجابة عن أسئلة محددة وإعداد إحاطات طلب، ولكنها لا تقوم باستكشاف أفكار جديدة أو تقديم تحليلات تنافسية.. هل يحاول برينان الهروب من استحقاقات الإصلاح الرئيسية للوكالة في الداخل عبر تحويل الأنظار إلي استحقاقات المواجهات التي تجابه الولاياتالمتحدة في الخارج؟ شيء ما من هذا القبيل يمكن للمرء استنتاجه، من إعلان «جون برينان» الأخير عن إجراء أكبر حركة تعديلات في تاريخ الوكالة تتضمن إعادة تنظيم وتحديث أنشطتها، بهدف تحقيق الاستخدام الأمثل لتكنولوجيا المعلومات في مواجهة التحديات الأمنية التي تواجهها الولاياتالمتحدة في الداخل والخارج. علي أنه إذا خلينا هذه التساؤلات ذات المسحة الإيديولوجية جانبا، فإن ملفات أكثر سخونة تحتاج لخطط سياسية واستخباراتية أمريكية عاجلة، منها الملف الروسي في صراعه مع أوكرانيا، ومنها البرنامج النووي الإيراني، عطفا علي التنافس القطبي الاستراتيجي مع الصين، فضلا عن اضطرابات الشرق الأوسط، وإرهاب داعش، وحالة التحالف مع أوروبا. هل برينان ووكالته علي جهوزية تامة لمواجهة متطلبات المرحلة الحالية، أم أن المشهد تجاوز الوكالة إلي غير رجعة رغم المحاولات العبثية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ كان واحدا من أهم العوامل في تراجع وكالة المخابرات المركزية علي مدي السنوات ال 30 الماضية، هو عدم قدرتها علي تقديم استخبارات إستراتيجية، وإعداد تقديرات استخباراتية في الوقت المناسب، فأجهزة المخابرات في مراكز الانصهار تركز علي الاستخبارات المتعلقة بالخطوات التكتيكية، ولكنها لا تقدم تحليلا استخباراتيا يشرح «لماذا» تحدث الأحداث الجيوسياسية. هل يعني ذلك أن إخفاقات أشد ضراوة في الطريق ما سيؤثر سلبا علي مكانة أمريكا المتراجعة بين الأمم فمن بين الأول بين متقدمين ، تكاد تضحي طرفا موازيا لبقية الأطراف الدولية اي بين متساوي القطبية عما قريب؟ لمزيد من مقالات إميل أمين