هل أعاد التاريخ نفسه، حتى وجدنا أنفسنا بإزاء صورة معاصرة لتلك النزعة السوفسطاتية التى سبق أن ظهرت فى أثينا إبان القرن الخامس والسادس قبل الميلاد، ثم انبعثت الآن من مرقدها بعد طول فناء؟ نلك السوفسطانية التى عبر عنها أحد فلاسفتها قائلا: إن الإنسان الفرد مقياس الأشياء جميعا.. ما وجد منها وما لم «يوجد»، وأن الحقيقة عندى هى كما تبدو لي، وعندك كما تبدو لك، فالكل فى تحول مستمر، والفرد كفرد هو مقياس الخير والشر، والنفع والضر، ولا يوجد كما يردف فيلسوف آخر من فلاسفتها: شيء ثابت فى ذاته ولذاته، فالأشياء والقيم فى تغير متصل دائب التقلب، بل إنك لا تنزل النهر نفسه مرتين، لأن مياها أخري، ونهرا آخر قد جرى بعده بلا ثوان؟!. فهل زجت بنا ألاعيب السياسة المعاصرة وأمواجها العاتيات، وبراجماتيتها الغلابة: فى دوامة ملتاثة من «السيولة» الفكرية والأخلاقية التى توشك أن تجتث من أعماقها: أعمدة اليقين، وجذور المطلقات، سواء فى الوجود أو «القيم» أو «السلوك» أو فى مناهجنا المعرفية والذهنية، لكى تلقى بنا تلك الدوامة بعدئذ فى غيابات الشك والارتياب، ومن ثم فى غياهب «النسبية» تارة و«اللايقين» تارة أخري، بعواصفهما وأعاصيرهما الهوجاء، دون الأخذ فى الاعتبار: التفرقة الجوهرية بين العلم الفيزيقى التى ربما تتسع رقعته لبعض الاحتمالات بنظرياتها المعروفة، وبين «الانسانيات» بعامة، حيث تؤول «النسبية» و«اللايقين» فيها القيم الضابطة، والمعايير الحاكمة، وفى ذلك البلاء المبين؟!. ثم ويا للمفارقة عميقة المغزى ها هى «النسبية» و.. ًاللايقين وقد انقلبتا لدى أنصارهما، إلى «مطلقات» أخرى و«يقينات» بديلة فأمسى من جحد «المطلقات» يطوف حول «النسبية» وكأنها: المطلق، بينما انقلب «اللايقين» لدى قريق آخر، فأمسى بدوره «يقينا» وكأن التاريخ ينطق بغير لسان: أن لا غنى للكائن البشرى عن «المطلقات» و «اليقينيات» حتى لو أنكرهما إنكارا وانسلخ منهما انسلاخا!!. ألا تكون الإنسانية حينئذ بل الوجود كله الخاسر الأكبر حين نجد أنفسنا وقد انهارت لدينا «المطلقات» واندثرت.. «اليقينيات»: الوجودية، والكونية، والقيمية، والأخلاقية، التى تضبط مسيرة الإنسانية، وترسخ «يقين» البشرية بحتمية انتصار، مطلقات الحق والعدل، والخير والسلام وكفالة الحياة المستقرة الآمنة، والأمل فى مستقبل أكثر اشراقا، وأعمق معني، وأبعد رؤية؟. أفلا يبعث الشعور بانعدام «المطلقات» وانتشار «اليقينيات» فى دخائلنا: يأسا من مصير الإنسانية المجهول، الذى لا ندرى حينئذ كيف يكون؟ والام يسير؟ وقلقا هائلا بشأن البؤساء والمرضى والمعوزين الذين ستفتقد دنياهم حينئذ المعانى الرفيعة والأمانى النبيلة، حيث لا «مطلقات» ولا «يقينيات»؟!. ألم يرتفع «أفلاطون» بتلك «المطلقات» إلى عالم مفارق، متعال على المادة، هو عالم «المثل» صونا لها من «النسبية» ونائيا بها عن «اللا يقين» بل ألم يذهب فيلسوف النقدية الأكبر (إيمانويل كانط) فى كتابه «تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق» إلى أن الأخلاق العملية لا يمكن أن تقوم لها قائمة إلا حين تعانق الميتافيزيقا بمطلقاتها ويقينياتها عناقيا فلسفيا لكى تؤسس لها وترشح قواعدها، وبدون ذلك، تفقد الأخلاق أساسها المكين، وتأسيسها الرصين، بل بدون ذلك تصبح أعنى تلك الأخلاق ذرات متناثرة وشظايا متباعدة؟. ثم.. ألا تكون «الصمدية الإلهية» بالمفهوم الاسلامى الضمان الميتافيزيقى الكونى الذى يحمى الوجود من أن تبعثره «النسبية»، تارة ويبدده «اللايقين» تارة أخري، وتضمن له: الثبات والكينونة، وتصونه من تلك «النسبية» التى تلغى ثباته واطراده، وتحميه أيضا من موجات «اللايقين» التى تعيده القهقرى إلى تلك «الارتيابية» التى يمكن أن تذهب بكل ثوابته الوجودية والأخلاقية والعملية أدراج الرياح!. ألم يكن لفلاسفة المسلمين الحق كل الحق فى أن يضعوا لتلك «الصمدية الإلهية» مفهوما فرعيا مبتكرا حافلا بالدلالات، وهو ما يسمونه »تعلق القبضة فى اشارة بالغة الثراء إلى أن الكون كله مادياته ومعقولاته وقيمه حين تتخلله «النسبية» و «اللايقين» يصبح عرضة فى كل لمحة للتحلل والتفتت لو لم تمسكه قوة أعلى تصونه من كل هاتيك المخاطر التى يمكن أن تطيح بقوامه المادى والمعنوى والقيمي؟. ألم يكن لهؤلاء الفلاسفة الحق كل الحق فى أن يؤسسوا لعلومهم بعبارة موجزة مكثفة بالغة الثراء وهى أن حقائق الاشياء ثابتة، والعلم متحقق فى اشارة لماحة إلى أن «الحقائق» حين تتطرق اليها «النسبية» و الارتيابية فإنها تتحول بالضرورة إلى لا حقائق، ومن ثم فإن لكل من شاء أن يدعى ما شاء زاعما أنها «حقيقته» الخاصة به، وبذلك تتعدد «الحقائق» بتعدد الذوات البشرية المتكثرة فإذا أضيف «اللايقين» إلى «النسبية» أصبح الكل هشيما تذروه الرياح!!. ثم أقول أخيرا: لا يحق لنا أن نقول: إن الإسهام الاعظم الذى يمكن أن نسهم به فى الحضارة الكونية المعاصرة يتمثل فى أن تثبت فى بنيتها «المطلقات» و«اليقينيات» الراسخة سياجا يحميها من ذاتية الأهواء، ونفعية الأغراض وينأى بها عن أن تنقلب إلى أنانية مفرطة يتقاتل فى ساحاتها بنو البشر فيمسى الكون حينئذ كالغابة التى تكون الغلبة فيها لذوى الأنياب الحادة والأظافر الدامية؟. أفليس ذلك هو الاسهام الحضارى السديد الذى يصلح مسيرة الكون، وحركة التاريخ، ومصير الوجود؟!. عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف لمزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى