الحوار مع الأستاذ محمد حسنين هيكل يكتسب مضمونا مختلفا، ومذاقا خاصا حين يكون عن السياسة الدولية ومجلتها، وهيئة تحريرها، فهو ليس مجرد حوار إعلامي. إنه كذلك، وأكثر. فالرؤية فى هذا الحوار غالبة على الرأي، والنظر إلى المستقبل غالب على تحليل ما هو حاصل فى الواقع الراهن. قدم الأستاذ فى هذا الحوار رؤية جديدة لأوضاع العالم الآن، مقارنة بما كانت عليه قبل 50 عاما، حين رأى ضرورة إصدار مجلة «السياسة الدولية». وحظيت السياسة الخارجية المصرية، والتحديات التى تواجه عملية إعادة بنائها وتفعيلها، بعد أربعة عقود كاملة تقريبا من التخبط والركود، باهتمام خاص. كما شغلت أوضاع المنطقة المفتوحة على مزيد من الاضطراب والصراع مساحة كبير فى هذا الحوار، الذى كان طبيعيا أن يروى فيه الأستاذ قصة إصدار «السياسة الدولية» فى لحظة لم يعرف فيها العالم العربى كله هذا النوع من المطبوعات الدورية شبه الأكاديمية. وكان ضروريا أن نسأله فى هذا السياق عن مشروعه المعرفى والتنويرى الذى شرع فيه منذ أن تولى رئاسة تحرير جريدة «الأهرام»، وظروف انتقاله إليها ليجعلها أكبر مؤسسة صحفية فى العالم العربي. كانت «السياسة الدولية» هى المطبوعة الأولى من نوعها فى العالم العربى كله، كما كانت تلك هى المرة الأولى التى تصدر فيها مؤسسة صحفية عربية مجلة أكاديمية دورية .. فكيف فكرت فى إصدارها؟ هيكل: لم يكن فى العالم العربى عام 1965 مجلة دورية، ومراكز تفكير مهتمة بالعلاقات والقضايا الدولية. وكانت فكرة تأسيس مجلة «السياسة الدولية»، وكذلك مركز الدراسات، جديدة فى ذلك الوقت. وكان نموذج «فورين أفيرز» ماثلا أمامي، ورأيت وقتها أن هناك ضرورة لاستشراف ما هو أبعد عن المرئى على الساحة الدولية. ولذلك، وبعد أن ذهبت إلي «الأهرام» مع السيد بشارة تقلا «الحفيد» ، وكان لديه مشروع بإصدار مجلة الأهرام الاقتصادي، بإشراف الدكتور بطرس غالي، وكانت فكرة مجلة ل «السياسة الدولية» فى الوقت نفسه تلح علي، واقترحت على بشارة تقلا أن يتولى د. بطرس غالى رئاسة تحريرها. وكنت أثق به وأقدره، رغم اختلافنا فى أمور كثيرة. وكنت حريصا على أن يقوم الأهرام بدور معرفى وتنويري، وأن تكون له مطبوعاته ومنابره التى تسهم إلى جانب الصحيفة اليومية فى هذا المجال، وأن تكون هذه المطبوعات متنوعة. ولذلك، أصدرنا مجلة «الطليعة» أيضا فى ذلك الوقت. وجاء إنشاء مركز الدراسات فى هذا الإطار، حيث بدأ بوحدة للدراسات الفلسطينية والصهيونية. وبعدها، أنشأنا وحدة التاريخ المصرى المعاصر من قسمين، الأول بدأ يؤرخ الفترة من عام 1919 بافتراض أنه كان بداية مرحلة جديدة، وكلفت حسن يوسف باشا بإدارة هذا القسم، لأنه كان ملما بالعصر الملكي. أما القسم الأخير من وحدة التاريخ المصرى بالمركز، فبدأ بعام 1945، وتولى مسئوليته الدكتور محمد أنيس. وتتالت بعد ذلك الوحدات، فتم افتتاح وحدة خاصة للشئون العسكرية حتى تطور المركز، وأخذ شكله الحالي. كيف رأيت الأعداد الأولى من «السياسة الدولية» من حيث المحتوي، خاصة أنك متابع جيد لمجلة «فورين أفيرز»؟ هيكل: كانت هناك مرحلتان، الأولى كانت بمنزلة مرحلة «تجريب». فالفكرة كانت حديثة وقتها، والكتاب والباحثون الأكاديميون كانوا يكتبون دراسات طويلة، بينما المجلة كانت فى حاجة إلى موضوعات متوسطة الحجم، وتصلح لدورية تباع للقارئ. أما المرحلة الأخيرة التى يمكن أن نسميها مرحلة «الانتشار»، فقد بدأت ضعيفة فى ظل الاهتمامات العامة فى البلد فى هذا الوقت. فتجربتى في « الأهرام « علمتنى أن هناك ثلاثة أهداف رئيسية فى المهنة (الصحافة) وهي: الإخبار، والتعليم، والترفيه، والجزء الأصعب جدا من هذه الأهداف هو التعليم الذى كانت تقوم به «السياسة الدولية» أكثر من أى مطبوعة أخري. وأتذكر أننا منذ عام 71، كنا نفكر فى التحضير للاحتفال بالعيد المئوى للأهرام فى عام 1975، ونفكر أيضا فيما بعد الحرب، فأسسنا لجنة يرأسها الدكتور محمود فوزي (نائب رئيس الجمهورية، وزير الخارجية الأشهر)، ومن أعضائها بطرس غالي، وتوفيق الحكيم، وأحمد بهاء الدين، وعبدالملك عودة، وسماها فوزي «مهمة التعمير الحضاري». وبدأنا نفكر فى كتابة تاريخ مصر الذى لم يكتب بعد، على الرغم من أن العديد من ظواهره يجرى بحثه فى الخارج. وكان من أحلامى آنذاك أن نقوم بإرسال بعثات من دارسى الدكتوراه إلى الأماكن التى لنا بها صلة فى التاريخ الحضارى لعصر النهضة. وبالفعل، رتبنا لإرسال بعثات إلى جنوة، وفينيسيا، وفلورنسا. ففى هذا المناخ الذى كنا نفكر فيه بإعداد دراسات جادة عن التعمير والتنوير، صدرت مجلة «السياسة الدولية». هل ترى أن «السياسة الدولية» كانت تخدم «أجندة» النظام السياسي، أم أنها كانت تتجاوز ذلك لتعكس «أجندة» المجتمع ككل؟ هيكل: لا، لم تكن «السياسة الدولية» ولا مؤسسة «الأهرام» عامة تتبع «أجندة» النظام السياسى بخلاف ما كان شائعا فى هذا الوقت، ولكن ربما ظهرت هذه الفكرة بالضرورة فى فترة ما بعد حرب سنة 1967 فى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، حيث كانت هناك وحدة صغيرة جدا تقوم بعمل تقرير يومى عن الأولويات فى ظروف الحرب، وإرسال نسخة منه كل يوم إلى الرئيس جمال عبد الناصر، يحملها إليه الأستاذ حاتم صادق، وهو زوج هدى عبدالناصر، وكان هو بدوره يناقشنى فيه. لكن عندما تولى السادات رئاسة الدولة، توقفت هذه التقارير، لأنه لم يكن يحب القراءة، وكان يرى أن عبدالناصر مات تحت ثقل الورق الذى كان يطلع عليه. وأتذكر أننى كنت فى القناطر ذات مرة مع الرئيس السادات على ظهر الذهبية «ستار» الراسية إلى جوار استراحة الرئيس، وجاء سكرتيره فوزى عبد الحافظ يحمل بعض الملفات. وعندما رآه السادات، قال له: «ارجع، دول عاوزين يموتونى تحت الورق اللى مات تحته جمال»، فأوقفنا هذه التقارير. بمناسبة الإشارة للرئيس جمال عبدالناصر، هل هو من طالبكم بإنشاء مجلة « السياسة الدولية»؟ هيكل: هذا لم يحدث حقيقة، ولكن عبد الناصر كان مهتما ب «الأهرام»، وكان حلمه بعد أن يترك رئاسة الجمهورية -كان يتصور ذلك- أن يعمل كرئيس تحرير «الأهرام». وهناك ثلاث صور موجودة فى مكتبي، الأولى وأنا أجلس على مكتبى في «الأهرام»، وصورة أخرى لعبدالناصر وهو يجلس مكانى على الكرسي، والثالثة والأخيرة للسادات على كرسى رئيس تحرير «الأهرام». وكان عبدالناصر يهوى الكتابة، ومهتما بالصحافة. وأود أن أشير إلى أنه لم يفتتح مبني «الأهرام» الذى أقمناه عام 1968، وإنما زاره مدعوا من هيئة تحريره، بعد أن سمع عنه من زوار له، حدثوه عما رأوا، وهكذا كان هو الذى تفضل وطلب زيارة «الأهرام»، وسعدنا بزيارته. ولعلى أضيف هنا أن مشروع «الأهرام» الجديد لم يأخذ مليما من الدولة، وقد حقق ما حقق بموارده. وحتى العملة الصعبة التى احتاج إليها فى ذلك الوقت، وفرتها مبيعات مطبوعاته فى العالم العربى والعالم الخارجي. وكانت «الأهرام» من كبار دافعى الضرائب، لأنها كانت تحقق أرباحا ضخمة فى تلك الفترة. معظم الشباب، بل أغلب المصريين لا يتذكرون ظروف انتقالك إلي «الأهرام»، والذى كان بداية تحوله من صحيفة إلى مؤسسة كبرى حملت مشروعا معرفيا تنويريا؟ هيكل: بدأت مشوارى المهنى فى جريدة ال «إيجيبشيان جازيت»، ثم شاركت مع مراسل الجريدة مساعدا له فى تغطية معركة العلمين، ومعركة تحرير فرنسا، وعملت لفترة فى مجلة «آخر ساعة»، ثم انتقلت بعدها ل «أخبار اليوم»، وكنت سعيدا بتجربتى فيها، وفيها قمت بتغطية أحداث الحرب الأهلية فى إيران وكوريا، حيث كان على أمين مديرا متميزا. وعندما ذهبت إلي «الأهرام»، مكثت فى مكتبى شهرا لدراسة الوضع، وكانت المفاجأة أنه لا أحد من أصحابها يقرأ العربية، فقد كتبت تقريرى الأول باللغة الإنجليزية. ووقتها، كانت «الأهرام» توزع 68 ألف نسخة، وتخسر منذ عشر سنوات سابقة على رئاستى لتحريرها. وقالت لى مدام تقلا -حين قابلتها فى أول مرة- إن الأسرة ضاقت ذرعا بخسائر الأهرام، وإنها فكرت جديا فى الهجرة إلى لبنان، وهى ستسافر، لأنها ورثت حصة عائلتها فى بنك تجارى فى بيروت، ولديها ثلاثة طلبات: الأول أنها لا تريد أن تخسر أموالها، فوافقت. والثانى أن تقوم «الأهرام» بدفع قيمة زياراتها للأوبرا، فقلت لها لا أستطيع، لأن هذا فيه خلط للخاص بالعام. والطلب الأخير أن زوجها كانت له شقة فى باريس باسم «الأهرام» كمراسل، وهى تريد تسجيل هذه الشقة باسمها، فوافقت، وانتهى الأمر. نريد أن نلقى نظرة مقارنة على وضع العالم عند صدور مجلة «السياسة الدولية» عام 1965، مقارنة بالوضع الحالي، وكيف ترى التغير بين هاتين الفترتين، بعد مرور نصف قرن؟، ونود أن نذكرك ببعض العناوين التى تصدرت أغلفة المجلة فى عدديها الأول والثاني، والتى تعبر عن الاتجاهات السائدة فى المجتمع الدولى آنذاك: فقد تناولت المجلة فى عددها الأول مثلا أزمة فيتنام والسلام العالمي، ومؤتمر الأممالمتحدة للتجارة والتنمية وعلاقته بعدم الانحياز، والقنبلة الذرية الصينية وآثارها الدولية، ورياح الثورة فى البحر الكاريبي. وفى عددها الثاني، تناولت السياسة السوفيتية والدول الأفرو-آسيوية، والحزب الشيوعى فى الصين الشعبية، والجامعة العربية، والطيران المدني، والصحراء، والاشتراكية الإفريقية. هيكل: لابد أن نعرف أن الصحافة جزء من العالم السياسي، أو، بمعنى آخر، هى مرآة للاهتمامات السياسية لبلد ما فى فترة زمنية من تاريخها، لذا كانت مجلة « السياسة الدولية « سابقة فى مجال اهتمامها فى هذا الوقت، ومتماشية فى هذا مع السياسة المصرية. لكن ما حدث الآن ل «السياسة الدولية» و»الأهرام» هو أنه بمقدار ما انكمشت السياسة، انكمشت الصحافة. فى أحيان كثيرة، يتصور الناس أن المؤسسات مستقلة عن السياسة، لكن الحقيقة أننا فى هذه المهنة (الصحافة) أقرب مما يمكن تصوره إلى سياسة البلد، والحكم، والاتجاهات السائدة فيه. فنحن أثرنا بشكل أو بآخر. ولكن ما إن تنكمش السياسة، ينكمش كل شئ آخر. وكانت «السياسة الدولية» فى بدايتها مهتمة بالعالم الإفريقى والآسيوي، ومواكبة لعصرها، وفاعلة فيه، لأن مصر كانت فاعلة وقتها فى قلب حركات التحرر، والعالم الثالث، ومنظمة الأممالمتحدة. ولا أبالغ حين أقول إن مجموعة الدول الآسيوية والإفريقية سيطرت فى ذلك الوقت على منظومة الأممالمتحدة حتى انصرفت الدول الكبرى عنها لتدبير أمورها فى مكان آخر. ومجلة « السياسة الدولية « هنا كانت تعبيرا ومرآة عكست ذلك التحرك. كيف تري، إذن، العلاقة بين تطور الوضع السياسى فى مصر وما حدث فى الصحافة عموما، و»الأهرام» بصفة خاصة؟ هيكل: لم تشهد «الأهرام» منذ تأسيسها وحتى تركتها (نحو مئة عام) سوى أربعة رؤساء تحرير، وتوالى عليها بعد ذلك أكثر من عشرة رؤساء تحرير في 40 عاما. وبالتالي، فالمؤسسة تعرضت لظروف صعبة. وقد كنت أقول دائما إن «أخبار اليوم»، بعد «آل أمين»، تعاقبت عليها الدول مثل أوروبا الشرقية. وفى مرحلة من المراحل، أصبحت «الأهرام» مثلها، مما أدى إلى تراكم مشاكلها. فعندما تركت «الأهرام» عام 1979، كانت بها احتياطيات بالملايين من النقد الأجنبى والمصري. وبسبب اكتساحنا السوق فى بيروت، طلبت نقابة الصحفيين هناك عدم توزيع «الأهرام» فيها قبل الساعة الخامسة صباحا، لكن المشاكل تراكمت بعد ذلك. فى الوقت الذى صدرت فيه «السياسة الدولية»، كان هناك هيكل للنظام العالمي، ومصر كان لديها اتجاه واضح فى التعامل مع القوى الدولية الرئيسية، والآن هناك هيكل آخر ينطوى على تغير فى القوى الموجودة على قمة النظام العالمي، ومصر خارج هذا كله منذ ثلاثين عاما، واليوم تحاول أن تجد مكانا لها .. كيف ترى حركة مصر الخارجية لإيجاد موقع جديد لها؟ هيكل: أرى أن ما نحن فيه الآن ما هو إلا محاولة من النظام الجديد لتقديم نفسه للعالم الخارجي. وحتى نكون واضحين، لا يستطيع طرف أن يجازف ويخرج للعالم الخارجي، ويكون طرفا فيه، إن لم تكن قاعدته الوطنية الداخلية مستقرة.
[نص الحوار الكامل فى العدد الجديد من مجلة السياسة الدولية]