تحت عنوان التحديات التى تواجه الأمن القومى العربي، اختتمت القمة العربية، التى احتضنتها مصر فى مدينة شرم الشيخ، بنجاح فعالياتها للدورة السادسة والعشرين، أول أمس الأحد، بسلسلة من القرارات المهمة، التى من شأنها حال تطبيقها على أرض الواقع، بث قبلة الحياة من جديد فى الجسد العربى المنهك. الذى اعتقد الكثيرون أن الأمراض والأوجاع قد تمكنت منه، إلى درجة جعلته يشرف على الرحيل نهائيا، تاركا الساحة لللاعبين الآخرين فى منطقة الشرق الأوسط، لكى يرسموا خارطة جديدة للمنطقة تحقق مصالحهم على حساب المصالح العربية (مشروع تركى لاستعادة الإمبراطورية العثمانية من جانب ومشروع إيرانى توسعى من جانب آخر ومشروع إسرائيلى للهيمنة الاقتصادية والسياسية من جانب ثالث)، وهو ما يتطلب بلورة مجموعة من القرارات للتعامل مع التحديات القادمة من الخارج والتهديدات النابعة من الداخل. ولعل من أهم هذه القرارات هو ما يتعلق بالموافقة على دعوة الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسي، الذى شارك فى هذه القمة لأول مرة كرئيس لمصر، بإنشاء قوة عسكرية تشارك فيها الدول العربية بشكل اختياري، وتضطلع بمهام «التدخل العسكرى السريع وما تكلف به من مهام أخرى لمواجهة التحديات التى تهدد أمن وسلامة أى من الدول الأعضاء وسيادتها الوطنية وتشكل تهديدا مباشرا للأمن القومى العربى بما فيها تهديدات التنظيمات الإرهابية بناء على طلب من الدولة المعنية». الخطوة التالية وباستثناء هذا القرار الذى كشف عزم القمة العربية الأخيرة على استنفار كافة الامكانات العربية على الصعيدين السياسى والعسكري، من أجل مواجهة التحديات المختلفة للأمن القومى العربي، لم يجد عدد من المراقبين اهتماما كافيا من جانب قادة الدول العربية بحشد الامكانات الاقتصادية العربية بواسطة إجراءات عملية ملموسة بما يحقق فى النهاية طموحات الشعوب العربية فى حياة كريمة وفى المضى قدما فى مسيرة التطوير والتنوير، وترسيخ حقوق المواطنة وتحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية وجودة التعليم، رغم ما تمثله هذه المجالات من أدوات رئيسية وفاعلة تصون منظومة الأمن القومى العربي، وتعزز انتماء الانسان العربى وفخره بهويته.ومن هنا، قد يكون من المفيد أن يطرح الرئيس السيسى مبادرة أخرى مكملة لدعوته إلى إنشاء القوة العسكرية العربية المشتركة. وتقوم هذه المبادرة الجديدة على استعادة النهوض الاقتصادى فى الدول العربية التى مرت بأحداث ما يسمى ب«الربيع العربي»، وفى مقدمتها مصر وليبيا وتونس واليمن وسوريا وغيرها من الدول العربية الراغبة، وبالتالى تعزيز الهوية العربية لدى قطاعات واسعة من الشعوب العربية، مما يمكنهم من مواجهة التهديدات الإرهابية والطائفية التى تحاول بث الفتنة داخل المجتمعات العربية. مخاطر مزدوجة فكثير من الخبراء والمحللين يتفقون على أن الظروف الاقتصادية الصعبة، وعجز الإنسان العربى عن توفير الاحتياجات التى تكفل له الحد الأدنى من العيش الكريم الذى يحفظ كرامته، قد أدت إلى خلق بيئة حاضنة للاحتقان وعدم الرضا، ما أسهم فى تفجير الثورات فى بعض منها، أو دفع الناس فى أخرى إلى الشارع احتجاجا على ظروف حياتهم الصعبة. كما أن بعض الأطراف الخارجية تستغل هذه الظروف التى تمر بها هذه الدول للتدخل فى شئونها أو لاستقطاب قسم من مواطنيها بما يهدد أمننا القومي. وقد تفاعلت تلك التدخلات مع مؤثرات أخرى كالإرهاب والطائفية السياسية لتزيد من وطأة التحديات التى تضر بمصالح الأمة العربية وتحول دون تحقيق تقدمها. وبالتالي، ستكون «مبادرة الرئيس السيسي» المنتظرة ساعية إلى تشجيع الاستثمارات، ومكافحة الفقر والبطالة حاضنتى العنف والتطرّف، بإيجاد فرص عمل للشباب بدلا من الانخراط فى العنف والقتال. كما ستعمل هذه المبادرة، حال إطلاقها، على خلق فئات وطبقات منتجة وسطي، وتساعد على رسم الأمل للملايين الفقيرة، بأنها قادرة على مواصلة الحياة بعيدا عن شبح الفقر والجهل والمرض. وهذا الطرح من جانب الرئيس المصري، فى هذا التوقيت بالذات، سيكون فرصة تاريخية لجذب الاهتمام الخليجى والدولي، لما يحظى به من مكانة عالية واحترام دولى مرموق اجمعت عليه جميع دول العالم، ولما تتمتع به مصر من سمعة دبلوماسية طيبة باعتبارها دولة محايدة ومسالمة، وتحظى باحترام وتقدير دوليين. خطى مارشال ولتنفيذها على أرض الواقع، من الممكن، بل ومن المفيد، ان تقوم «مبادرة الرئيس السيسي» على أفكار ومبادئ «مشروع مارشال»، مع إدخال التعديلات الملائمة عليه، لتحقيق التقدم الاقتصادى والاجتماعى فى الدول العربية خصوصا التى مرت وتعرضت لتوابع زالزال 2011، وبالتالى تعزيز الأمن والاستقرار ليس فقط فى هذه الدول، وإنما أيضا فى منطقة الشرق الأوسط كلها. ويرجع اختيار مشروع مارشال تحديدا، ليكون مرتكزا للمبادرة المقترحة من جانب الرئيس السيسي، باعتباره خبرة تاريخية ناجحة فى هذا السياق. فقد استطاع هذا المشروع، الذى أعلنه الجنرال «جورج مارشال»، رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكى أثناء الحرب العالمية الثانية ووزير خارجيتها بعد ذلك، فى إخراج أوروبا من دمار ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى نهضة اقتصادية جبارة، وفائض ضخم فى الإنتاج، ورخاء نعمت به هى والعالم الغربى لعقود طويلة امتدت لأكثر من ستين عاما حتى الآن. وكان من أهم الأفكار الرئيسية فى «مشروع مارشال» ما يلي: إزالة الحدود والموانع الاقتصادية والتجارية والاستثمارية،ودعم الشفافية والإفصاح عن الانشطة الاقتصادية المختلفة. والتنسيق بين الدول الأوروبية تجاه إنتاج واستهلاك سلع وخدمات أساسية كالصلب والفحم والنقل والكهرباء، وتشجيع الاندماج الاقتصادى مع العالم الخارجي، خاصة الولاياتالمتحدة واليابان، لتحقيق نهضة مشتركة للجميع، ومواجهة واحتواء القوى الثورية الأوروبية والتيارات الشيوعية، وإنشاء منظمة التعاون الاقتصادى الأوروبى OEEC لإدارة المشروع وتحديد الأولويات الأكثر إلحاحا وللفصل بين صنع القرار الاقتصادى التنموى والقرار السياسي. أهداف المبادرة وفى هذا السياق، يمكن أن تركز «مبادرة الرئيس السيسي» لاستعادة النهوض الاقتصادى فى الدول العربية على تحقيق الأهداف التالية: أولا: خلق اقتصادات عربية سليمة ومستقلة عن المساعدات الخارجية «بحلول عام 2020». على أن يكون شعار التعامل مع هذه الاقتصادات «العلاج الحاسم بدلا من المسكنات». وفى هذا الإطار، يجب التركيز على الأهداف الفرعية الأربعة التالية: (1) تحقيق زيادة كبيرة فى قوى الإنتاج، كالزراعة والصناعة، (2) توسيع التجارة الخارجية، خاصة مع الدول المجاورة، (3) تحقيق وصيانة الاستقرار المالى الداخلي، (4) تطوير التكامل الاقتصادى العربي. ثانيا، تعبئة الجهود الخليجية والدولية لمساعدة تنفيذ «مبادرة الرئيس السيسي»، سواء من الناحية المالية أو الفنية أو التجارية أو التعليمية أو الصناعية وغيرها. ثالثا، تحقيق النهضة العربية الشاملة، عن طريق التكامل العربى المدروس والمخطط. فعلى سبيل المثال، لو اجتمع القطن المصرى والخبرة السورية فى صناعة النسيج ومال الخليجيين وخبراتهم الإدارية وصلاتهم العالمية لكان الأمر خيرا للجميع. وبالمثل فى المغرب العربي، لو اجتمعت الأرض الخصبة المهملة فى الجزائر مع الخبرات التونسية فى التجارة والعمالة فى المغرب مع المال الخليجى والليبى فسيكون الأمر أيضا خيرا للجميع. ولست أقدم هنا دراسة جدوى اقتصادية مفصلة وإنما أشير فقط إلى التنوع الإيجابى فى اقتصاديات العرب. مسارات التدشين وفى ضوء هذه الاهداف، يشير الخبراء إلى ضرورة القيام بما يلي: أولا: إنشاء مؤسسة جديدة، على غرار منظمة التعاون الاقتصادى الأوروبى OEEC، على أن يرأسها شخصية قديرة تحظى بقبول بين الدول الرئيسية الراعية للخطة، ويكون عمل هذه الشخصية تحت إشراف الرئيس السيسى شخصيا. ثانيا: التوقيع على معاهدات ثنائية تحدد واجبات الحكومات العربية تجاه رعاة «مبادرة الرئيس السيسي». ومن بين هذه الواجبات، الاعتراف بسلطة المؤسسة الجديدة المذكورة أعلاه، والتى سيتم تشكيل فرع منها فى كل عاصمة عربية راغبة فى الانضمام إلى الخطة، من اجل الإشراف على تنفيذ الخطة على ارض الواقع. ثالثا: إنشاء صندوق مالى فى كل بنك مركزى فى الدول العربية الراغبة فى الانضمام إلى الخطة، من أجل الإدارة المالية الفعالة. ومن هذا الصندوق، تؤخذ الأموال لتسديد تكاليف الجهود القومية للتنمية والتحديث، حسب ما يتم إقراره بين بعثة المؤسسة الجديدة المذكورة أعلاه والحكومة فى كل عاصمة مشاركة. رابعا، الترويج للخطة وبيعها للمستفيدين منها، وذلك من اجل التغلب على العقبات السياسية التى من المحتمل ان تواجهها. حيث يتوجب الحديث المباشر والصريح مع المواطنين العرب حول أهمية هذه الخطة فى تحسين أحوالهم المعيشية وخلق فرص عمل جديدة وتحقيق السلام والاستقرار فى المنطقة. ومن هنا، من الضرورى التفكير فى إطلاق عملية دعائية ضخمة يشارك فيها فرق الصحفيين ومنتجى الأفلام والوسائل الإعلانية المختلفة تحت شعار «انقلوا رسالة مبادرة الرئيس السيسى إلى الناس بأسلوب سهل وشيق، واشرحوها لهم كى يتمكنوا من فهمها والاستفادة منها». وأخيرا وليس آخرا، يجب أن تتوافر القيادات السياسية المتميزة والرجال التاريخيون الذين أنعم الله على أوروبا بمثلهم بعد الحرب العالمية الثانية. وهؤلاء القادة يجب أن يقودوا الشعوب بالمشاركة، والاحتكام إلى القانون والعدالة، والبعد عن تحريك مشاعر الناس من الفضائيات ومنابر المساجد وأعمدة الصحف نحو التشظى وتصفية الحسابات. مزايا المبادرة وفى النهاية، ينبغى التأكيد على إن «مبادرة السيسي» المنتظرة حال نجاح تطبيقها سوف تؤدى إلى العديد من المزايا الأمنية للدول العربية المشاركة فيها، وفى مقدمتها منع استقطاب دول ما يعرف بالربيع العربى لأجندات ومطامع القوى الإقليمية فى المنطقة. فهذه المبادرة سوف تسعى إلى مساعدة حكومات وشعوب هذه الدول لعدم الانضمام إلى مثل هذه المشروعات، عن طريق دعمها فى مواجهة التحديات الاقتصادية الصعبة التى تواجهها، وخاصة تضاعف معدلات البطالة، و«جفاف» الاستثمار الأجنبى المباشر، وتراجع عائدات السياحة، وتفاقم العجز المالي. ومما يزيد من أهمية هذه المبادرة عزوف الاتحاد الأوروبى والولاياتالمتحدة نسبيا عن تقديم يد العون والمساندة إلى الدول العربية التى مرت بثورات واحتجاجات، وهو ما يشكل تهديدا خطيرا للأمن والاستقرار فى المنطقة. فمن جهة، لا تزال العديد من الدول الأوروبية تتعافى تدريجيا من الأزمة المالية العالمية التى وقعت فى عام 2008، ومن ثم فهى غير متحمسة للدخول فى هذا المجال. ومن جهة أخري، تنتهج إدارة الرئيس الأمريكى باراك أوباما إستراتيجية «لننتظر ونري» فيما يتعلق بالدول العربية التى مرت بأحداث ما يسمى بالربيع العربي، وخاصة مصر، مفضلة التركيز على السياستين المتلازمتين المتعلقتين بإيران وعملية السلام فى الشرق الأوسط بدلا من الانخراط فى أى خطط اقتصادية تنموية كبرى فى المنطقة. وتتزايد إمكانية استمرار هذا النهج فى الأيام المقبلة مع دخول إدارة أوباما فى النصف الثانى من فترتها الرئاسية الثانية، ومع استعادة الجمهوريين السيطرة على مجلس الشيوخ الأمريكي، الأمر الذى يبدد الأمل فى إجراء أى تغيير فى السياسة الأمريكية الحالية تجاه الدول العربية.