هذه قصة قد تبدو حزينة في بعض فصولها, إلا أنها واقعية بامتياز, فهي قصة الأمة الكورية التي جري تقسيمها في ظل صراع القطبين الكبيرين:الاتحاد السوفيتي والولاياتالمتحدة في لعبة القوة والنفوذ, , كما أنها قصة أمة صغيرة(75 مليون نسمة), لم تكن الجغرافيا رحيمة بها ولم يتعاطف التاريخ كثيرا معها, فهي دوما جارة للعملاق الصيني(1300 مليون نسمة), ومطمعا من الجار الياباني الذي يقف خلف الماء علي مرمي البصر مستعدا للغزو, إلا أن ذلك كله لم يجعلها تقف ساكنة. فكوريا الجنوبية نهضت من الاحتلال الياباني وركام الحرب الباردة ومن التقسيم لتبني معجزة اقتصادية, ولاتزال تتطلع بأمل إلي وحدة شبه الجزيرة الكورية قد يبدو الحلم مستحيلا, إلا أن الحلم صامد رغم أن وهجه ربما يخفت في بعض الصدور, وعلي مدي ثمانية أيام في العاصمة سول ومدينة بوسان كانت القصة تفرض نفسها برغم أننا جئنا لنبحث قضية الأمان النووي التي ستعقد قمتها هنا نهاية الشهر الحالي, إلا أن الملف النووي الكوري الشمالي لم يكن سوي عنوان أزمة الأمة الكورية المقسمة. وجاء التوقيت رائعا.. فنحن في مفترق طرق: وراثة في كوريا الشمالية تفتح المجال أمام أسئلة متعددة. وهنا نقدم أجوبة كما نقترب من القصة. 100 متر فقط هي الفارق في الحدود بين كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية.. إذن لا مفر من الوحدة السلمية.. لأن أي حرب ستكون مدمرة, ولن تتمكن حكومة سول من إعادة بناء اقتصادها مثلما كان.. هذا هو السر أو مفتاح الفهم لحقيقة الموقف في شبه الجزيرة الكورية مثلما شرحه لنا السيد نام سونج ووك, السكرتير العام للمجلس الاستشاري الوطني للوحدة, ومن هنا, فقد التزمت سول بضبط النفس برغم استفزازات حكومة بيونج يانج. إلا أن كوريا الجنوبية كان عليها أن تدرس تجارب إعادة التوحيد( ألمانيا فيتنام اليمن), وكانت الدروس مثلما شرحها السيد نام هي: الوحدة تخضع للتأثير الدولي.. فألمانيا لم تكن لتتوحد أبدا لو أن الزعيم السوفيتي ستالين موجود وليس جورباتشوف, ومن ثم فإن كوريا الجنوبية محاطة بدول قوية, لذا فإن التحدي الذي يواجهها هو التعاون مع قوتين عظميين( الصين والولاياتالمتحدة), كما أن هناك البعد الداخلي في القضية, فقد عانت كوريا الجنوبية في الحرب الكورية, ومن ثم كان لزاما عليها التغلب علي صعوبات الحرب, كما أن هناك أمورا كثيرة يجب ترتيبها في شبه الجزيرة قبل الوصول إلي الوحدة. وكان لابد من السؤال في إطار التجربة الألمانية عن الثمن الباهظ للوحدة, وهل كوريا الجنوبية مستعدة لدفع الثمن؟!.. ولأن نام درس الأمر جيدا, فقد اختار أن يشرح بأن الأمر يتعلق بنوع الوحدة, لأن هناك3 أنواع وهي: الوحدة الراديكالية.. مثل الحالة الألمانية التي تمت خلال عام فقط. وفي هذه الحالة, فإن كوريا الجنوبية عليها أن تدفع 700 تريليون وان( عملة كوريا الجنوبية). أما الوحدة المتدرجة, أي التي تحتاج إلي التدرج علي مدي 15 عاما, فهي سوف تتكلف نصف القيمة السابقة, وهناك نموذج الصين وهونج كونج, كما أن النموذج الثالث الوحدة طويلة الأمد التي تحتاج إلي 30 عاما, وتجري علي مراحل متعددة, فهي سوف تتكلف( عشر) القيمة الأولي(700 تريليون), وبعبارة موحية يخلص الرجل إلي أن الوحدة سوف تقع دون توقع منا.. بل ستقع علينا, ويشير إلي أن الرئيس الكوري تحدث منذ عامين عن ضرورة الاستعداد للوحدة, لأنه رغم التكلفة العالية, فإن ذلك لن يمنعنا من الوحدة.. لماذا؟.. لأنه مثلما يقول تحديات وفرص, فإذا ما حدثت الوحدة, فإن الموارد كلها ستذهب إلي التنمية, كما أن سكان البلدين ال75 مليون نسمة(50 مليونا في الجنوب,25 في الشمال), سيوجد سوقا داخلية واسعة, ولن يكون لزاما الخدمة العسكرية علي مواطني كوريا عند سن ال20, وفي المقابل نحن مستعدون لإطعام مواطني كوريا الشمالية.. وبجملة تختصر الأمر كله يقول نام: تكلفة الوحدة.. قدر علينا قبوله! حملنا بعضا من الأسئلة الحائرة أبرزها متي ستحدث هذه الوحدة.. بصورة واقعية؟.. { والمثير للدهشة والإعجاب أن السيد كيم شون سيج, نائب وزير الوحدة بحكومة كوريا الجنوبية أجاب بشفافية مطلقة: الله وحده يعلم متي تتحقق الوحدة, وكأن الرجل فوجئ بهذه الكلمات تتسرب منه, فإنه سرعان ما عاد ليؤكد أن لديه يقينا بأن الوحدة ستحدث في نهاية المطاف, وأن الأمر لا يتوقف علي شخص رئيس!.. وردا علي سؤال: هل صغر الرئيس الجديد في كوريا الشمالية سيجعل المهمة صعبة؟.. { قال: الوحدة قدر, ولا أحد يمكنه أن يمنع ذلك. وهذه المرة كان يمكن للمرء أن يجد غصة في حلق المسئول الكروي الرفيع.. فوفقا لروايته هناك5000 عام من التاريخ المشترك ما بين الكوريين, و1300 عام من التوحد السياسي, إلا أن كوريا تحررت من اليابان عام1945 , لكنها سرعان ما انقسمت ما بين أيديولوجيتين, وفي نهاية الحرب الباردة دفعت حكومة سول من أجل وحدة سلمية وتوحيد المؤسسات. إلا أن الشمال كان دائما له رأي مخالف, حيث حاول دوما غزو الجنوب, وفرض الوحدة بالقوة.. وفي السنوات الأخيرة مثلما يقول السيد كيم: حاولنا, وقدمنا وعودا بمساعدة اقتصادية للشمال من أجل التخلي عن السلاح النووي.. ويضيف: الشمال لم يستجب لدعوة التخلي عن سلاحه النووي, وفي النهاية اعتدي علي إحدي السفن الكورية الجنوبية, وطالبنا باعتذار. وتطرق الحوار إلي الشمال, وكان المسئول الكوري حريصا علي أن يختار كلماته بدقة شديدة ليرسم الصورة التالية: حكومة سول تراقب سلوك القيادة الجديدة بالشمال, ولا نرغب في أي تدهور بالشمال أو انهيار مفاجئ هناك.. نحن نريد تطوير العلاقات تدريجيا وصولا للوحدة بصورة سلمية.. وتغيير القيادة في بيونج يانج لن يغير من سياستنا. وفيما يتعلق بسؤالكم: لماذا تطور كوريا الشمالية أسلحة نووية؟.. وذلك لمواجهة التهديد الخارجي, خاصة من الولاياتالمتحدة.. وهنا أنا لا أتفق مع وجهة نظر الشمال.. فما لم تتم الإثارة من الشمال أولا فلا تهديد يواجههم, إلا أننا نلاحظ في هذه النقطة أنه إذا استمر الشمال في التمسك بالتطوير النووي وسياسة الاستفزاز, فإن الدائرة المفرغة سوف تستمر. عندما سألت عما يتردد بشأن أسلحة نووية في الجنوب والمناورات الأمريكية الكورية الجنوبية؟.. { أجاب بهدوء: المناورات المشتركة دفاعية وذلك لمواجهة احتمال غزو كوريا الشمالية لبلادنا, وليس صحيحا أننا نجهز لحرب نووية, ولا توجد أي قوة نووية علي أراضينا. وأشار إلي أن المحادثات السداسية حول الملف النووي الكوري الشمالي سبق أن أكدت هذه الحقيقة, وبعدما وقعت بيونج يانج علي اتفاقية إجلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية عام1990 , فقد حافظنا نحن علي وعودنا, ولكن الشمال لم يفعل! وكان لابد من مواجهته بما تقوله المعارضة بشأن تصلب السياسة الكورية الجنوبية للحكومة الحالية تجاه الشمال؟. { سرعان ما رد بقوة بتأكيده أنا لا أتفق مع هذه الادعاءات.. فمنذ مارس 2008 أعلنت الحكومة سياسة التعايش المشترك الازدهار المشترك, كما أعلن الرئيس التزامه بالبيان الذي دشن التعاون مع بيونج يانج.. ولكن ماذا حدث؟ في ذات الليلة تم قتل سائح كوري جنوبي, كما أغلق أحد المنتجعات السياحية, ونددت كوريا الشمالية بدعوة إخلاء المنطقة من الأسلحة النووية, وبإغلاق المنتجع السياحي( كان مشروعا مشتركا), وفي العام نفسه أجرت تجربة نووية, ويكمل السيد كيم وبعدها في عام 2010اعتدت عسكريا وقتلت بعض قواتنا, وفي ضوء ما سبق لم نتخذ أي إجراءات متصلبة, بل بالعكس التزمنا بضبط النفس, اذن السياسات المتصلبة من الشمال هي المسئولة عن التدهور. وليس نحن. الحرب بالصدفة.. والانهيار المفاجئ! وبينما تشعب الحوار, فإن سؤالا جوهريا فرض نفسه: ماذا عن الحرب بالصدفة, وانهيار النظام بالصدفة دون توقع.. فقد انهار الاتحاد السوفيتي علي غير توقع, كما أن ربيع الثورات العربية جاء دون توقع من أحد.. تري هل لديكم خطط لمواجهة ذلك؟ { بلهجة صريحة يؤكد المسئول الكوري الجنوبي الرفيع أن هناك دائما احتمال وقوع الحرب, نظرا لأن الشمال يرغب في فرض الوحدة بالقوة. ولهذا نحن مستعدون لمواجهة التهديد هذا, وذلك بالتحالف مع الولاياتالمتحدة, وهو ما يمثل عاملا رادعا, يجعل من الحرب خيارا غير واقعي. أما فيما يتعلق بانهيار النظام, فنحن لا نرغب في انهياره, ولا نتوقع انهياره, ولا نناقش هذه الاحتمالات علنا.. وفي نهاية المطاف فإن مواطني كوريا الشمالية هم من سيحددون ماذا سوف يفعلون. وسيقررون مصيرهم! وفي خضم أسبوع الزيارة, خرج علينا النبأ المفاجئ بالتوصل لاتفاق ما بين واشنطن وكوريا الشمالية بشأن تجميد البرنامج النووي مقابل240 مليون طن من المواد الغذائية.. وكان احتفاء الصحافة كبيرا, نظرا لأنه جاء مفاجئا, ولذا لم يكن من الصعب مقاومة إغواء السؤال لأبرز مسئول في المفاوضات السداسية. السفير سونج نام ليم, الممثل الخاص لشئون الأمن والسلام في شبه الجزيرة الكورية عما إذا كان الاتفاق مفاجأة لسول؟ { بلهجة من كان يتوقع السؤال, قال بثقة: لقد جري التفاوض معنا قبل وبعد وأثناء التفاوض الأمريكي الكوري الشمالي, والعلاقات بين سول وواشنطن جيدة بنسبة100%. وبلهجة ذكية أدرك أننا نلمح إلي ما إذا ما كان الأمريكيون قد أبقوهم في الظلام؟!.. واستكمل الدبلوماسي شديد الذكاء بتأكيده انني أتفق مع الأمريكيين في أن هذه الخطوة كانت فرصة للتعرف علي طريقة تفكير الزعيم الجديد في كوريا الشمالية, وذلك بالرغم من أن المفاوضات لم تكن طويلة بل يومين فقط.. والمفاوضات كانت فرصة للمعرفة, إلا أنني أري أن الطريقة القديمة في التفكير لاتزال قائمة, والمهم هو الأفعال! وإزاء هذا الخيط, كان لابد من التساؤل عما إذا كانوا في الشمال يريدون الانفتاح علي الأمريكيين, وماذا يعني الاتفاق في العلاقات بين بيونج يانج وبكين, فضلا عن علاقات الكوريتين؟.. { بنبرة هادئة قال: إن القيادة الكورية الشمالية حاولت دوما لعبة التوازن في العلاقات ما بين الصين والاتحاد السوفيتي خلال سنوات الحرب الباردة, ولربما يحاولون الآن لعب هذه اللعبة ما بين واشنطن وبكين, لا أستطيع تأكيد ذلك, وعلينا الانتظار لنعرف إلي أي مدي سوف يمضون قدما, وأعتقد أن واشنطن تنتظر الأفعال. أما بالنسبة لتأثير ذلك علي العلاقات الثنائية.. فإن الاتفاق في واقع الأمر هو أيضا ما بين سول وبيونج يانج.. فلقد كنا شركاء منذ البداية, وكانت هناك مفاوضات بين الطرفين.. وعند هذه النقطة كان لابد من السؤال: تبدو من لهجتكم أن هذه خطوة متواضعة متوقعة لم تفاجئكم.. فلم كل هذه الضجة؟ { بسرعة أدرك مغزي السؤال ليقول: إنني لا أقول إنها بلا معني, ولكنها متواضعة.. وذات معني, لأن المفاوضات السداسية كانت متجمدة.. وكوريا الشمالية أجرت تجارب, واستمرت في القيام بعمليات استفزازية ضدنا. والآن لدينا اتفاقية إذا طبقت, فإننا سوف نستأنف المفاوضات السداسية, وهذا سوف يسهم بدوره في الاستقرار في شبه الجزيرة الكورية. وتوقف الرجل ليقول بصراحة: لا أريد أن أكون متفائلا جدا أو متشائما جدا, وأطالب الصحافة في بلادي ب الهدوء! ماذا عن محاولات الوقيعة بين واشنطن وسول؟. { هذا التصور دائما موجود, ولقد اتبعت بيونج يانج هذا التكتيك من قبل لإحداث فجوة بين واشنطن وسول, إلا أن البلدين في الصفقة ذاتها من أجل السلام والاستقرار. ودعونا نسأل من الذي سيقدم المساعدة والاستثمار لكوريا الشمالية؟ إنها كوريا الجنوبية, وأعتقد أن بيونج يانج تعرف ذلك؟. ونحن مستعدون للتفاوض والتعاون معهم برغم كل ما قيل ضد رئيسنا, ونحن ننتظر ولا أستطيع التحدث بتفاصيل, إلا أن واشنطن أخبرت الكوريين الشماليين أن التحسن في العلاقات مع أمريكا سوف يعتمد علي التحسن في العلاقات مع سول. ولم يتبق سوي سؤال: هل هناك تغيير, وهل هم يائسون في كوريا الشمالية للإقدام علي هذه الخطوة؟.. { بلهجة متزنة قال السفير ليم: أعتقد أنهم في الحد الأدني غير مستريحين, والاستقرار الداخلي هو الهم الأول.. وربما رأوا أنهم بحاجة لعلاقات جيدة مع الولاياتالمتحدة, وربما شعروا بأنهم بحاجة إلي اتفاق قبل15 أبريل المقبل, وذلك في الذكري ال100 للزعيم المؤسس لكوريا الشمالية كيم إيل سونج.. أما عن التغير فيمكن القول إن الأمور لم تسؤ, واستطعنا إعادة الأمور إلي ما كانت عليه, وسلوكهم علي الأرض هو ما سيحدد.. وتفاصيل تطبيق الاتفاقية سوف يتحدد بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ويبقي أن هذه مجرد محاولة للاقتراب من إحدي أهم الدول الصاعدة, وهي كوريا الجنوبية في منطقة باتت الآن أكثر من أي وقت مضي محل اهتمام العالم.. ولن يكون غريبا أن ما سيحدث في جنوب شرقي آسيا سيكون له انعكاسات مهمة علي منطقة الشرق الأوسط, ليس فقط في الملف النووي الكوري الشمالي وإمكانية تطبيق الوصفة الكورية علي الملف الإيراني.. بل في تجربة إخلاء شبه الجزيرة الكورية من أسلحة الدمار النووية, والتعاون معا لإخلاء الشرق الأوسط أيضا, إلا أن الملحوظة الأهم أن سول تهتم بما يجري هنا, وترغب في علاقات أعمق وأرفع مع المنطقة من خلال البوابة المصرية.