عمامة أبي بيضاء تستمد صفاءها من زهده وصوفيته, وغطاء رأس أمي, كان في صباها يظهر خصلة من شعرها الأسود, وصار في شيخوختها يخفي كل شعرها الأشيب. أبي عكف علي صلواته, وأمي علي أحلامها, لما قلدتهما وعكفت علي قراءة روايات غالب هلسا, فاجأتني إحدي بطلاته بأنها تعد أطروحة عن أعمال جراهام جرين, المأخوذ والمؤرق بأننا نعيش في عالم بلا إله, والبطلة تجارية, ثم تتجاوزه وتعتقد بالإضافة إلي ذلك, أن الإنسان في حاجة ملحة إلي إله يبحث عنه, عن إلهه, ويجده ويحبه لأنه بواسطته, سوف ينشئ منظومة القيم الخاصة به, الكاثوليكي الشكاك جراهام جرين يترك عمدا كلمة إله دون تعريف, وسوف نفطن إلي ما يضعه تحت لسانه, سوف نفطن إلي أن التعريف ينقلنا من طرف إلي طرف, من الفرد إلي الجماعة, ومن الخاص إلي العام, ومن الروح إلي الدين, ومن الفطرة إلي الطقوس, والتنكير يزعج المتدينين, كأنه طريق الضلالة, وكأن التعريف شرط الإيمان,شرط الشخص الصحيح, في طفولتي سمعت ما يغريني بالتفتيش عن ذلك الشخص الصحيح, وكمثال سألت فرج عن أبيه, لكنه أشاح عني,كأنه يخشاني, أبي هو الذي أخبرني أن أبا فرج رجل طيب اسمه الحاج بهجت, وهو واحد من أعضاء الجهاز السري للإخوان, بلغ مرتبة القيادة, حدث ذات مرة أن رأيت الحاج بهجت في حفل,كنا أوائل الستينيات, وكان وجهه مشبعا بالحمرة, الجميع حوله يتهامسون عنه, ويخشونه, ويرحبون به, وهو بفم طبيعي وأسنان بيضاء ورقبة صلبة يبتسم, راقبته, ثم اخترته ليكون رئيس أبطالي, ولم أره ثانية, انشغلت عنه بعالمنا المعاصر, ولابد لكي نظل شركاء في هذا العالم,أن يظل الدين قفصنا الصدري, عقب انتهاء دراستي بالجامعة, تعرفت علي الشيخ سيد,كان ربعة,جسده جسد شيخ محارب, هجر الطب ليتفرغ لتدريس الدين وعلوم اللغة للأطفال, غرفتي في بيت عائلتي كانت مليئة بالكتب, وهناك أمكنة لسرير ومكتب وبعض مقاعد وبلكونة تطل علي الشارع, وفي كل أوقات الليل والنهار كانت الغرفة صالحة للزيارة,الشيخ سيد يأتي آخر الليل غالبا, ليمكث حتي الفجر, يمكنك بعد الفجر أن تراه ومعه كوبونات التبرع لبناء مسجد في عربات مترو روكسي ومصر الجديدة, والشبان يأتون في كل وقت, كثيرا ما قابلهم الشيخ, واتسع صدره للاختلاف عنهم ومعهم,كانوا علي مشارف كل شيء, الماركسية والوجودية والضياع والفوضي, ذات ليلة بعد وفاة جدتي, قرأت عليهم قصيدة المتنبي في رثاء جدته, ألا لا أري الأحداث حمدا ولا ذما, فما بطشها جهلا ولا كفها حلما, وتهدج صوتي عندما وصلت إلي حجر الزاوية, ولو لم تكوني بنت أكرم والد, لكان أبوك الضخم كونك لي أما, عند ذاك قهقه أحد الحضور, نظرت إليه وقهقهت مثله, وأدركت أنني أقلد طريقة فاروق شوشة التي تعلمتها من افتتاني ببرنامجه لغتنا الجميلة, في اللية التالية قرأت بطريقتي مرثية الجواهري لزوجته أم فرات, في ذمة الله ما ألقي وما أجد, أهذه صخرة أم هذه كبد, وعقبت بأن العرب لم يعتادوا رثاء الزوجات, كان الشيخ سيد يرمقني بعينين لامعتين, وبيده أوقفني وقال,البارودي سبق صاحبك, ومن منفاه في سرنديب,رثي زوجته الثانية السيدة عديلة يكن, ومرثية البارودي تفوق مرثيتي صاحبيك, يا دهر فيم فجعتني بحليلة, كانت خلاصة عدتي وعتادي, إن كنت لم ترحم ضناي لبعدها, أفلا رحمت من الأسي أولادي, ولما انتهي الشيخ من القراءة, أحسست إحساسا عارما بأن كلامه صحيح, فتقليدية البارودي تناسب جلباب الشيخ, أما المتنبي والجواهري فإنهما عاريان بلا حياء, في آخر كل جلسة كان الشيخ سيد يطرح سؤاله ما العمل, وكانت الجلسات تنتهي, وسؤاله لاينتهي, منذ أول أيام السادات, أحسسنا أن التيارات الإسلامية الراديكالية تكنس بقوة تيارالإخوان, وتحوله إلي ذكري سيئة أحيانا, حكي لنا الشيخ سيد كيف بدأ إخوانيا, وكيف اكتشف أن الإخوان فئران,يشتدون وينتشرون في أيام الطاعون, في آخر أيام السادات, عندما هاجت أجهزة أمنه, واعتقلت كل صاحب لحية,استغربنا, لأن لحية الشيخ وحريته لم يمسسهما أذي, الشبان استرابوا, مما اضطرني إلي أن أسأل الشيخ أمامهم, لماذا يا شيخ, بهدوئه نظر إليهم, وأدرك أنه سؤالهم,قال لهم, لي أخ وأختان يصغرونني, إحدي الأختين معيدة بدار العلوم, وأخي خصم لي, خصومة لدد وعداوة, حتي أنه شكاني إلي الجهات كلها, بما فيها جهات الأمن, وأبلغ عن نشاطي منذ سنتين, ولأنهم راقبوني خلالهما, أهملوني بعدهما, ثم توقف, وعاد مرة أخري إلي سؤاله, ما العمل, وقبل أن يذهب قال, الإخوان إما طلاب سلطة, إما عبيد سلطان, ولا مانع لديهم أن يساوموا علي الدين في سبيل الدنيا, أخي الذي أبلغ عني واحد منهم, وانصرف, بعد أيام زارني في وقت مبكر, أدرك أنه وقتي, وأطلعني علي أمر يشغله, سأتزوج, كنت أيامها مثاليا بلا جناحين, ولا أعرف الطيران, قلت: وزوجتك, أجابني: إنها عليلة وغير قادرة علي منحي ما أريده, وقال عندما مرضت منذ فترة زارتني أختي مع زميلتها الإيرانية, زميلتها تقيم في بيت أهلي, وسكت, كانت الإيرانية تستلقي في عينيه, بعد أيام زارني ثانية في وقتي, رأيته حزينا,قال لي, طلبت يدها واعتذرت, وكل عائلتي خاصمتني, ارتبكت لأني فرحت, ولسعادتي نسيت الإيرانية ونهديها اللذين رأيتهما في عيون الشيخ, لولا أنني وفي أثناء عودتي من عملي, حيث يجبرني الطريق علي المرور بمنزل أهل الشيخ, المنزل في زقاق مسدود, ليس فيه سوي منزلين من جهة, وظهر مسجد وميضأته من الجهة الأخري, أقول لولا أنني رأيت سيارة الشرطة يلتف حولها ناس كثيرون, والسيارة والناس يسدون مدخل الزقاق, سألت أحدهم, قال, أخذوا الإيرانية وسوف ترحل عن مصر, في الأسبوع ذاته زرته لأول مرة في بيته, شقته حجرتان وصالة في الطابق الأرضي, استقبلني في الحجرة الداخلية التي تهبط عن الأرض بمقدار نصف المتر تقريبا, قلت له إنها دار الأرقم, ضحك في وهن, أحسست بوهنه أكثر عندما أنشدني أبيات محيي الدين بن عربي, لقد صار قلبي قابلا كل صورة, فمرعي لغزلان ودير لرهبان, وبيت لأوثان وكعبة طائف, وألواح توراة ومصحف قرآن, أدين بدين الحب أني توجهت, ركائبه فالدين ديني وإيماني, ثم حكي بعدها أنه قرأ هذه الأبيات ذات مرة في مجلس إخواني, فأحس وكأن يدا مشعرة تفرق الحروف, وتشتتها, فتصبح الكلمات أصواتا بلا معان, تصبح هباء صرفا, وقال لنفسه هذه اليد ليست يد الله الأكيدة, إنها يد الإخوان, هل تذكر لقد قلت لرفاقك ذات مرة, إن الإخوان فئران, لم أكن أقصد الزراية والسخرية, ولكنني قصدت التوصيف, فالفئران كائنات لا تعرف التاريخ, الفأر المعاصر يصاد بالطريقة ذاتها التي كان يصاد بها الفأر الفرعوني, والفأر الهيليني, والفأر الفاطمي, والفأر المملوكي, وفأر محمد علي باشا, والإخواني المعاصر سوف يظل يصاد بالطريقة التي كان يصاد بها أسلافه, إخوان الملك فؤاد, وإخوان الملك فاروق, وإخوان عبد الناصر, وإخوان السادات, الطعم أولا ثم القفص الأسمنتي, اثنان أصبحت أخاف من طغيانهما المطلق, الإخوان والعسكر, وهما حتي الآن عدوان, الهلاك التام سيكون إذا تحالفا, اللهم ارحمنا,تركت الشيخ سيد, لكنه غاب عني, فزرته ثانية, كان مريضا بالاستسقاء, وجدت إلي جواره شيخا آخر يؤانسه ويواسيه, قال الشيخ سيد لصاحبه, ارقني يا شيخ محمود,الشيخ محمود يتمتم, ثرت عليهما وصرخت, لماذا تجلسان هكذا, هيا بنا إلي المستشفي, نظر الاثنان في وجهي نظرات متسامحة, واكتفيا بالصمت, بعد أيام مات الشيخ, اليوم أيضا, تذكرته, وتذكرت كاسندرا الكاهنة الرائية, ابنة ملك طروادة, والتي تبصر ما لا يراه الآخرون, لكن الإله أبولون, إله الشمس والهدوء,عاقبها علي عدم استجابتها لحبه بألا يصدقها أحد, وداعا كاسندرا, وداعا شيخ سيد,الهلاك الهلاك, أو نهاية الأسطورة. المزيد من مقالات عبدالمنعم رمضان