إغفري لي ما سببته في حياتك من إزعاج , وأغفر لك مساواتي بآخرين أدرك مدى معاونتهم لك في يوم من الأيام متسائلاً هل يا ترى أحدهم على استعداد أن يراجع مسودة ديوانين لك قبل تقديمهما للنشر و الانتشاء الصادق بهما , و هل سعدوا – كما سعدتُ – بكلمات الشكر الجميلة من شفتيك العذبتين . أحترم تراجعك , ويقلقني الآن الاتصال بك للاطمئنان أولا على صحتك أيتها الشاعرة المرهفة والتي تهمني بالرغم مني , وإنجاز مشروعاتك الإبداعية التي أحلم بانزلاقها من وضعها الجنيني, لتستوي كائناً إبداعيا متألقا مثل مبدعته , متوهما أنني الوالد الحاني لإنجازك المتفرد . و في لقائنا الأخير تسوينني بالآخرين متناسية كل كلماتك الحلوة السابقة التي لا و لن أنساها, و ما أزال على استعداد للمعاونة – إذا شئت – و أعدك أنني سأحاول التنازل درجات لأصبح على قدم المساواة (تعبير مستهلك نفيتِه من قاموسك) , مع من ذكرتهم , متجاهلا لحظات سعادتنا المشتركة مهما أنكرها اليوم لسانك و سّواني بمن أطلق عليهم “الآخرين” كم واحد من هؤلاء سعد بدراسات أعّدوها عن إبداعك , أو بنشوة تقبّلك منهم هدايا متواضعة متواصلة في مناسبات و غير مناسبات, أستنكر أن أمنّ بها عليك لأنها منك ولك, وبعد ذلك تساوينني بهم! أعذري أوهامي, وثقي أنني لا أحّملك أية مسئولية إلا مسئولية إزدهارك في حياتي الذي أنت مسئولة–وغير مسئولة – عنه. هل تراني كنت واهما أنها علاقة تزداد توهجا طالما نزودها بوقود جديد كان آخره: مراجعة لديوانيك الساحرين فلا ينطبق عليها قانون الحياة والموت, لكن يبدو أنها تراجعت بالنسبة لي فجأة رغم توهمي أنها في أوج لهيبها المقدس بمعانقة حزمة من إبداعاتك المتفردة . كنت أحلم بألا تسقط علاقتنا في المألوف والعادي , فلا تموت إلا برحيلي , بل لعلها من أنانيتي تواصل وتتواصل بعد ذلك (تكلفك أوهامي طاقة تتجاوز القدرة الإنسانية) لكنك أبيت أن تخلعي عليها هذا التفرد لتقع في المألوف والعادي. أود أن أطمئنك – وأطمئن نفسي قبلك – لماذا إما وإما أعدك أنني سأروض نفسي على التنازل – كما أزعم أنه يبدو أنك روضتِها قبلي - فلا أكون شرها. سيسعدني الاكتفاء بدور الأخ و الصديق بعد موافقتك, ما دام يطمئنك ويبدد أية معارك أزعمها في حياتك. ما مدى الوهم والحقيقة في هذه الكلمات المتبعثرة , هل هو ياترى تخطيط لإبداع قصصي أم مستمد من واقع ما !! عندما اختلس حفيدي قراءة بعض ما أكتب (و هو مهندس في السابعة والعشرين يتأهب للزواج) , قال لي شبه ضاحك : عندك مبادئ زهايمر يا جدو, نهرته قائلاً: إختش يا ولد مرض أسرتنا الوراثي القلب, لى خال وشقيق وابنه ماتوا فجأة في الأربعينيات من العمر . أما خالي فكان يتأهب للسفر صباح اليوم التالي في مهمة بالإسكندرية, لكنه عندما نام نومة القيلولة لم يستيقظ فكان العزاء أن الحمدلله أن موته لم يكن وحيداً في القطار أو في الإسكندرية بل في بيته و على سريره . أما أخي فكان في إحدى سيارات الأجرة حين شعر بوخز حاد في صدره فطلب من السائق الإسراع به إلى أقرب مستشفى , لكنه ما إن وصل حتى كان جثة هامدة , وبتفتيشه عثروا على رقم تليفون أحد إخوتي ليبلغنا ويسرع حيث وجد السائق الأمين ينتظرنا ليسلم الجثة الهامدة ومتعلقاتها . أما إبنه فإن زوجته اليابانية هي التي أبلغتنا نبأ وفاته الفجائية , بعدها غادرت مصر و طفلها إلى بلادها . ولوالدتي قصه مع شقيقها – خالي – حين تراءى لها في المنام من يخيّرها بينه وبين ابنها البكر , فضحت ببكرها الذي تتوقع تعويضه , أما شقيقها فهو وحيد والديه و قد تجاوزا عمر الخصوبة . ومالبث الإبن أن توفى بعد ذلك بأسابيع حين أصيب بداء الدفتريا الذي لم يكن له علاج وقتئذ . أما خالي فبعد رؤيا والدتي بأيام كان ممسكاً بالترام من ناحيته اليسرى وهو يقود دراجته في طريقه إلى كليته يسامر صديقاً يركب الترام في عربته المفتوح جانبيها وقتئذ, حين أقبل ترام من الجهة المواجهة ولولا تنبه السائق و فرملة ترامه في اللحظة الأخيرة لكانت نهايته وفجيعة والديه. فلوالدتي تاريخ في الاتصال بالعالم الغيبي, أذكر منه على سبيل المثال أن شقيقتي سوزان – باكورة أطفالها- والتي أطلقت اسمها تيمنا باسم الداية التي يسرت ولادتها الأولى المتعسرة في مستشفى للراهبات, كانت تصطحبها حين تحضر اجتماعا أسبوعيا نسائيا حاشدا في قاعة متسعة حتى لا تتركها وحيدة يوم أجازة حضانتها, عندما أصيبت -وكانت في الخامسة من عمرها- بالسعال الديكي– قُضي عليه حاليا ولم يكن له علاج وقتئذ – حتى تأثرت فيما يقال مرارتها فاصفر جلدها حتى قضى عليها . لكن أمي ما لبثت أن شاهدتها بعد الوفاة وهي تخطو داخل قاعة الاجتماعات الأسبوعية بضفيرتيها المنسابتين خلف ظهرها وفستانها الأبيض القصير ذي الكرانيش, لتجلس في الصفوف الأمامية, ثم خارجة قبل خروجها. شاهدتها مرتين, فقررت في المرة التالية أو الثالثة أن تنتظرها على باب الدخول والخروج فلا تفلت منها فكانت العقوبة هو اختفاؤها وحرمانها من متعة رؤيتها من غير تلامس. وأنا أجريت عملية القلب المفتوح منذ عشرين عاماً , وها أنا الآن– وقد أجريت مؤخراً فحصاً دوريا – ما يزال قلبي ينبض نبض شاب على حد قول الطبيب الفاحص. ثم أضفت فيما بيني وبين نفسي : يبدو أن قلبي الآن سليم معطوب, حالة لا يدركها الأطباء , لكن يعانيها المجانين العقلاء, من المبدعين قصاصين وشعراء. * * * صحيح أنني أُصبت منذ عشر سنوات بورم في الغدة النخامية بالمخ اكتشفه الفحص الطبي فجأة و هو يقصد عَرضَاً آخر لا علاقة له به, فقرر الأطباء إدخال إبرة من أنفي إلى المخ لأخذ عيّنه لمعرفة نوع الورم الذي كان مرجَّحا أنه ورم سرطاني, لكن إبني الدكتور شريف طبيب الأورام أسرع قادما من هولندا حيث يعمل محذراً المساس بي , وأسرع وقتئذ إلى وزير الثقافة طالبا منحة لمعالجتي في هولندا حيث التخصص أكثر تقدما, فاتصل الوزير برئيس الوزراء الذي كان قد تولى رئاسة الوزارة حديثا, فأصدر قراراً بصرف إثني عشر ألف يورو نفقات إجراء عملية لها خطورتها, بينما أسرع ابني إلى سفير هولندا بالقاهرة وأبلغه خطورة وضعي المَرَضي , وضرورة الاستغناء عن استخراج فيزا “شنجن” التي يستغرق إستخراجها أسبوعين للتصريح بدخول خمس عشرة دولة أوروبية, وأنه في حاجة إلى تأشيرة لدخول هولندا فقط لوضعي المَرَضي الخطير فاستجاب السفير و حصل إبني على التأشيرة في اليوم التالي . ولم ننتظر صرف تذكرة الطيران التي كان قد ووفق على صرفها أيضا . وكان إخوتي وأخواتي في وداعي الوداع الأخير بإعتبار أن الورم سرطاني وذلك دون أن يفصحوا عما أنا غافل عنه تماماً . وأقلعنا إبني و أنا بعد منتصف الليل لنصل إلى مطار سخيبول الهولندي فجراً حيث كانت تنتظرنا بسيارة الأسرة زوجة إبني الهولندية . وبعد ظهر اليوم نفسه كنت أمام الطبيب الهولندي المختص الذي أمر بإجراء الكشوف والتحاليل الطبية , ليتضح في النهاية أنه ورم حميد في الغدة النخامية يُعالج بنصف حبة شديدة الضّآلة أبتلعها ثلاث مرات أسبوعيا بعد العشاء تنخفض إلى مرتين بعد ستة أشهر و على مدى العمر. ولم ننفق إلا ألفْي يورو ورددنا الباقي. أما الزهايمر فقد عايشته من خلال أسرة كانت تقيم في شقة مقابلة لشقتنا . فعندما بلغ رب الأسرة الثمانين كنا نراه يحاول الخروج من شقته و هو يحمل بنطلونه على يديه بينما ساقاه عاريتان وإن وضع الشراب و الحذاء في ساقيه وقدميه , بينما زوجته و ابنه يجذبانه إلى داخل الشقة . وما لبثت زوجته – عقب وفاته – أن لحقت به وكان ابنها قد أشرف على الستين – وهو مدرس بمدرسة للبنات– يشكو لنا أنها دائمة الاتهام له أنه يحضر زميلاته إلى الشقة ليعبث معهن ويعبثن معه . فلما توفيت بلغنا أن الإبن بدأ يرسل شكاواه إلى مدير المنطقة التعليمية في ناظرة المدرسة التي يدرّس بها يتهمها بأنها مختلسة وغير منتظمة , فلما أحيل إلى المعاش إستفحل أمره حتى لقد وقع في يدي خطاب منه إليه, الظرف عليه بخط يده الأنيق الواضح إسمه وعنوانه, وبداخله : مسعود (و هذا هو إسمه) يحييك ويسأل عنك و لماذا لا ترد عليه. والتوقيع “مسعود” ثم التاريخ. وحين دخل أقرباؤه شقته التي كان يعيش فيها وحيدا – وذلك بدعوة من الجيران وأصحاب العمارة للتصرف - إكتشفوا أن أرضية جميع غرف شقته قد ازدحمت بزجاجات المياه الغازية الفارغة وأغطيتها وأوراق الصحف القديمة المتهالكة, ملقاة على الأرض بحيث تتعثر قدماك وأنت تجوس بينها مما استدعى التقدم لأصحاب العمارة بطلب مد الإيجار شهرا قبل هجرتها وذلك لإخلائها مما بها. بينما قرر أقرباؤه إيداعه أحد ملاجئ المسنين, حيث وجدوه بعد منتصف إحدى ليالي الخريف جالساً في مطعم الملجأ عاريا بلا حراك. إغفري لي هذه الثرثرة فلا أعرف ما الصلة بينكِ وبين هذا التاريخ الأسري الأسطوري الواقعي, هل تراه أسطوريتك الواقعية في حياتي. شكرا لتلاقي الجمالي بالعاطفي الذي أحال الأرضي إلى سماوي. * * * عثرت في أوراقي على هذه الكلمات : حين يلتقي أول حروف الهجاء بآخرها ترقص لغة التعبير بحروف ما بينهما, فإذا تباعد لقاؤهما تبعثرت لغة الفرح. كما تقافزت هذه الكلمات محتشدة أمامي بعد مراجعة مخطوطتيْ ديوانيْك: بعد فضّى مغارة هذين الكنزين إكتشفتّ أنك وُجدت في هذا العالم كي أنتشي بعطر إبداعك وشخصك وجمالك, ولقلبك – ولا أقول لعقلك – أن يتجاوب أو مجرد أن يجامل. شكراً على معجزتك الإلهية في حياتي سيان عفويا أم إراديا. أعدك أنني سأقاوم ولا أستجيب لما يُنطقني به جمالك الحسي والمعنوي من غزل. لا أدري أيهما يسعدك : الاستجابة أم تفضليني واقفا أمام باب موارب. ومثل ألة السسمجراف التي تسجل أضأل الهزات الأرضية أصبح قلبي – بفضل ما طورتِه وأنتِ تدرين أو لا تدرين – يسجل أضأل الهزات العاطفية . فأنا ما أبدعت ما تقرأين بل هي قراءة هزاتي المسجلة. أرجو أن تدركي أنه ما يزال عندي قبس يتوهج ببكارة الاكتشاف ومغامرة الحصول, وأزعم أن ثمة إضاءة متبادلة بين جيلين صهرهما الإبداع معا, فأنا أستضئ بشبابك وظرفك وثقافة القرن الواحد والعشرين, ويمدّ في سنوات عمري توهمي أنك تسَعدين بخبرتي المتواضعة وسنواتي غير الضائعة , لأنك تحتلين – شئنا أم أبينا - بؤرتها الخصبة المعطاءة . وقد عبّرت عما أطلق عليه “العلاقة المتأرجحة” في نصين: قصيدة سعيدة بعدوى موهبتك الشعرية مما أطلق عليه: “النثر الغنائي” وآخر أطلقت عليه “إطلالة”, أولهما بعنوان “شباب الشيخوخة” سأقتحم قصورك الملكية متمرغا في كنوزك الأنثوية ثملا بمباهجك السحرية تكتشفينها باقتحاماتي الجنونية فائزا بأسرارك الأرضية السماوية ومحلقا في سماواتك الأثيرية محتضنين بيننا حروفنا العربية لنفرخ معا معجزاتنا الإبداعية * * * رجاء لاتطفئي هذه الجذوة القدسية فبدوننا معا لن تغمرنا هذه النعمة الإلهية * * * أما النص الثاني فعنوانه الاتصال والانفصال يفتتح الفقيه الأندلسي ابن حزم (994 – 1063م) رسالته “طوق الحمامة” بقوله : “الحب – أعزك الله – أوله هزل وآخره جد، وهو لا يوصف بل لابد من معاناته حتى تعرفه”. ويرى أن “الحب ليس اختياراً بل اضطراراً ، ولو أمكن ألا تبذله نفسك لما بذلتها” ، وأن عاقبة كل حب أحد أمرين : إما الموت وإما السلو. والسلو في التجربة الجميلة ينقسم قسمين : النسيان ، والثاني السلو المسمَّى بالتصبر ، فيرُى المرء يظهر التجلد ، ويَرى أن بعض الشر أهون من بعض ، وهو ليس بناسٍ لكنه ذاكر . وفي مقابل هذا المفكر العربي نجد المفكر الغربي الدانماركي “سورين كيركجارد” (1813 – 1855) يقول في كتابه “رعب ورعدة Fear and trembling إن الأم حين تريد أن تفطم طفلها فإنها تضع في حلمة ثديها مادة مُرة (الطريقة الشعبية في مصر هي البن) ، فهي تذيقه المرارة من أجل صالحه : أن ينفصل عنها ويصبح له وجوده المستقل . هذان الرأيان يوضحان أن كل من يعتقد أن علاقته بالآخر مستقرة أو دائمة واهم لأن الحياة معناها أن يصبح الطفل شاباً ، والشاب شيخاً ، والشيخ مغادراً . هكذا علاقاتنا الإنسانية ، لا ندرك أحياناً أنها تخضع لما نخضع له نحن : طفل يحبو، فشباب يخطو ثم يعدو، فشيخوخة تخبو، وفي كل مرة ننسى أو نتناسى، فلا نتأهب للمصير الذي يخضع له كل حيّ ، ونتوهم – ونحن في ذروة الفتوة والنشوة – أن موداتنا أبدية ، بينما ينخر فيها الزمن ، كأي كائن حيّ ، لنُصدم أنها تخضع لقانون التطور. ففي أفضل حالاتها تصبح صداقة، وفي أسوئها تصبح عداوة ، وفي معظمها تصبح ألفة أو مجرد ذكرى . أكتب هذه الكلمات من وحي علاقات نبتت وازدهرت ثم أُحبطت ، متوهما أن بعضها أصيب بالسكتة ، متجاهلاً أنها تخضع لقانون الحياة ، كما أخضع له أنا ، وتخضع له أنت. تذكَّر علاقاتك التي خبت ، وتوقع المصير نفسه لعلاقاتك الحاضرة والمقبلة، وانزعج أولا تنزعج ، فهذا قانون الحياة سواء على الإنسان نفسه أو على علاقاته .
* * * غادرتني اليوم سنتي الأمامية الفوقية وذلك بعد ثلاثه وثمانين عاما من رفقتي منضمة إلى أخريات سبقنها. * * * شاهدت في باريس معرضا لفنان يصنع - ولا أقول ينحت - تماثيله الإنسانية من ثلج بطئ الذوبان, في الصباح يكون التمثال مكتمل البنيان , وفي الظهيرة يكون قد ذاب بعضه فيصبح أكثر نحافة, حتى إذا حلّ المساء يكون قد تلاشى. وكان المثّال الفرنسي جياكومتي تماثيله الإنسانية أيضاً رفيعة القوام عكس التماثيل الشائعة قديما وحديثا الضخمة كاملة البنيان, معلنا أن تماثيله الهشة هي الأقرب إلى مصير الإنسان سريعة الزوال, فرجائي ان تمزقي أيضا هذه الوريقات, وإذا فضلت الاحتفاظ بها فرجائي أن تكون في الصدور لا السطور. * * * عندما سمعت صوتك يغرد في التليفون امس (حالتي العاطفية هي التي تستنطق ألفاظ اللغة) إنصهر الصحو والمحو, وانقشعت غيوم كانت قد تراكمت, بينما تسابقت ألفاظ اللغة لتختارني لأختارها متبلورة حولكِ تبلور السكر المذاب حول خيطه, متمتما : اللهم احمها من وحوش البشر والمرض, وابقها كنزا للإنسانية إنك السميع المجيب. ثم في ابتهال لا ينقطع : أحبك أحبك, وإلى أبد الآبدين أحبك.