هل يؤدى نجاح اليسار اليونانى فى الانتخابات البرلمانية (25 يناير 2015) وانتشار أصداء ذلك النجاح فى انتخابات أوروبية قادمة إلى إعادة رسم خريطة أوروبا؟ يبدى رد الفعل اليسارى ضد سياسة التقشف التى طال فرضها علامات الانتشار، فإسبانيا من المقرر أن تجرى انتخابات هذا العام، وكذلك البرتغال، وتدل مؤشرات قياس الرأى العام على أن الحزب اليسارى الراديكالى سوف يحقق هناك انتصارًا حسنًأ. ويسير فى المسار نفسه حزب إيطالى يساري. فهل يمكن لليسار الأبعد يسارية مما سمى الديمقراطية الاشتراكية التى ظلت فى الحكم عقودًا أن يصل إلى السلطة؟ وصعود اليسار يمثل أكبر تهديد للوضع القائم، أى أن انتخابات اليونان لم تكن مجرد حدث كبير لليونان، بل كانت حدثًا أكبر لأوروبا التى كانت قد دخلت عهدًأ من التقشف أوصت به برلين أدى إلى ركود وانكماش وانعدام للنمو. وهنا يبرز سؤال لم يكن له سابقًأ محل على وجه الإطلاق: هل يصعد يسار أقصى طارقًأ باب السلطة؟ ومن العقبات أمام صعود اليسار أنه لا يوجد فى العالم أمام الجماهير ولا فى أذهانهم أى نموذج حى أو مرجع واقعى لنظام بديل. فالمنتجون المباشرون بطبيعة الحال لا يريدون بعث النظام الاشتراكى المنهار المتصف بسيطرة البيروقراطية المركزية والإدارة الأوامرية وقمعها وامتيازاتها. ولكن تتويج الحركة الاحتجاجية بصعود حركة يسارية ذات قوة انتخابية أمل يتوقعه كثيرون. وفى اليونان نشأت حركة سيريزا عام 2004 بعد خمس سنوات من النضالات والحوارات المشتركة بين قوى يسارية راديكالية كمحاولة للتغلب على التشرذم الايديولوجى والثقافى بينها ولتحقيق تكامل مطالب وأمانى حركات المقاومة الاجتماعية المتنوعة فى ساحة المعارك السياسية والانتخابية الأساسية. وقد أرغمت حركة ميدان الدستور فى أثينا جورج باباندريو زعيم ما يسمى الديمقراطية الاشتراكية على الاستقالة. ومن الملاحظ أن قيادة الحزب الشيوعى اليونانى الذى يمثل اليسار التقليدى أدانت حركة ميدان الدستور باعتبارها حركة يتلاعب بها النظام ومقصورة على مطالب البرجوازية الصغيرة. أما سيريزا فقادت لجان تلك الحركة، بل عملت على خلقها وتوجيه نشاطها. ونجح حزب سيريزا فى انتخابات اليونان وشكل زعيمه تسيبراس حكومة اعتبرت أول حكومة وحدة شعبية فى التاريخ السياسى الحديث فى اليونان. إن مواجهة ناجحة للأزمة الإنسانية ستعيد الإيمان والأمل وسط المراتب الشعبية حتى خارج اليونان، وذلك سيعيد تقوية الدعم الاجتماعى والتضامن الأممى مع نضال سيريزا من أجل اتفاق دولى حول إسقاط قسم كبير من الدين العام وإعادة المفاوضة بالكامل حول اتفاقيات بين اليونان ودائنيها. ويعى حزب سيريزا أن هناك مقاومة وتآمرًا وتخريبًأ تعترض طريقه، كما أن الخصوم ينسقون جهودهم لتأليب المواطنين ضده ويستهدفون خلق قطب ثالث يدعون أنه ليس يساريًأ وليس يمينيًا بل وسطى لكسب شعبية لسياسة التقشف، التى تحملت الجماهير عبئها دون المساس بمصالح المصرفيين المتسببين فى الأزمة فى المحل الأول، خلف واجهة تقدميتها ظاهرية. والإطاحة بالتقشف لا تعنى ببساطة زيادة الأجور بواسطة أوامر حكومية، بل تعنى زيادة قوة المساومة لدى العاملين وفى النهاية فوزهم بالسلطة. وتلك هى سياسة سيريزا المتخلية عن وهم الانسجام الاجتماعى الذى روجت له الأحزاب المسماة ديمقراطية اشتراكية ولم يؤد إلا إلى الهزائم والخراب. 2010 وكانت وسائل الإعلام الكبرى طليعة دعاة الليبرالية الجديدة وسياسة التقشف تزعم أن الأزمة الاقتصادية تصيب اليونان وحدها لأن اليونانيين أسرفوا فى الإنفاق بأسرع مما تسمح مواردهم، وأن الأزمة سببها تلك الخطيئة القومية الجماعية بالإضافة إلى تضخم القطاع العام وإنفاقه على مكاسب شعبية. وسرعان ما اتضح أن الأزمة عالمية وليست خصيصة وطنية ولا نتيجة فى الإسراف العام. وتدل الوثائق على أن القطاع العام اليونانى وإنفاقه منخفض عن المتوسط الأوروبي. وترى مجلة الإيكونوميست فى أحد أعدادها الأخيرة أن قائد الحزب اليسارى مصيب فى أن دين اليونان الذى ارتفع من 109% من الناتج الكلى إلى 175% المريعة خلال السنوات الست الماضية على الرغم من ارتفاع الضرائب وتخفيض الإنفاق غير القابل للسداد. وترى أن الحل ماثل فى أن يتوقف حزب سيريزا عما تسميه اشتراكيته المجنونة!! وأن يتمسك بإصلاحات هيكلية لا تحددها مقابل الحصول على سماح فى سداد الدين، فالناخبون اليونانيون فى رأيها يعيشون فى جنة البلهاء اليسارية. ومن الواضح أن للشعب اليونانى وعيًا معاكسًا اكتسبه من تجاربه الفعلية فى معاناته ونضاله ضد الاحتكارات المؤمنة بلاهوت السوق. لمزيد من مقالات ابراهيم فتحى