عندما بدأت الحوار مع الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد ترددت في رأسي أصداء المقولة الفلسفية القديمة «إن المرء لا ينزل النهر مرتين» ،لكن القصيدة تصنع نهرها الذي لا نمل النزول إليه للسباحة في صورها وايقاعها ولو اختلف الزمن وتبدلت أقنعة التاريخ والأوطان . يصدق هذا على تجربة زين في إصدار ديوانه الشهير «وش مصر» الذي أصدره في العام 1970 ويعيد اليوم إصدار طبعته الخامسة. الزمن لا يتوقف عن الجريان، لكن وش مصر لا يتغير ولا يتبدل.. بل يبقى حلما دائما وتوقا لا ينتهي للحرية والديموقراطية وألما ووجعا على الشهداء الذين لا يزالون يمشون في جنازات من سبقهم .يتذكر زين العابدين فواد ، بعد أن يوقع نسخة الطبعة الجديدة من ديوانه «وش مصر»، لأحد زوار معرض القاهرة الدولي للكتاب، ظروف إصدار الطبعة الأولى .. «خضت معركة طويلة مع الرقابة استمرت سبع سنوات حتى أصدر هذا الديوان .. حيث جمعت 50 قصيدة مما كنت أكتبه وأنشره خلال تلك السنوات، وقدمتها إلى الرقابة في عام 1964 للحصول على تصريح بطبع الديوان باسم «وش مصر»، ولكن الرقابة رفضت التصريح لي بإصدار الديوان.. ورغم فوزي بالجائزة الأولى لمهرجان المؤتمر الأول للكتاب الشباب الذي تم تنظيمه في الزقازيق، مناصفة مع الشاعر نجيب شهاب الدين، رفضت الرقابة التصريح بطبع الديوان في عام 1970 أيضا».
ثم جاء الفرج... «قدمت الديوان مرة أخرى في مايو من عام 1971 بعد ما حصل نوع من «الخلخلة» داخل النظام الحاكم الذي كان يقول إنه مع الحريات والديمقراطية، وحصلت على التصريح أخيرا بعد جلسة طويلة مع «الرقيبة»..
هل تذكر ما دار بهذه الجلسة؟
أعطتني الرقيبة نسخة من الديوان وأمسكت بأخرى لنناقشه، وجدت في نسختي شطبا كثيرا لسطور من القصائد. على سبيل المثال.. قصيدة الخميس الدامي التي كتبتها في العام 1964 عن أحداث الحادي والعشرين من فبراير عام 1964، ظنت الرقيبة أني كتبتها عن الوقت الراهن أو عن أحداث عام 1964، فوضحت لها أن هذه القصيدة عن تاريخ قديم ، عن حركة الطلبة ضد الاحتلال الانجليزي والمذبحة التي سقط فيها آنذاك عبد الحكم الجراحي أحد قادة الطلبة. فطلبت الرقيبة مني أن أكتب مقدمة للقصيدة أوضح فيها هذا ..
كما اعترضت على جملة في قصيدة «صفحة من كتاب النيل» أقول فيها : «أنا جَمَل صلب .. لكن عِلّتي الجَمّال»، وقالت لي اكتب عن التاريخ كما تشاء ، ولكن هذه الجملة واضحة وهي تشير إلى الشعب والقائد، فناقشتها طويلا حتى اقتنعت بعدم شطب القصيدة شرط أن أجعل تاريخ كتابة القصيدة 1969 بدلا من 1970، لأن العام 1970 كان فيه رئيسان لمصر ، فوافقت على التعديل .
وعندما حصلت على موافقة الرقابة على إصدار الديوان لم يكن معي من المال ما يكفي لطبعه وإصداره، فأصدرنا أنا والأصدقاء «بونات» كل منها بخمسة عشر قرشا ، وقمنا ببيع البونات وتحصيل ثمنها لنطبع به الديوان ثم نوزعها على من اشتروا البونات. وبهذه الطريقة وزعنا 2800 بون ..
ما الذي تغير بين الأمس واليوم .. لا أعتقد أن ديوان شعر اليوم يمكن أن يوزع 2800 نسخة .. وبالحجز مقدما. فماذا تغير؟
تغير الكثير.. الرقابة لم يعد لها وجود الآن ، ولا حاجة لتصاريح قبل طبع كتاب أو إصدار ديوان، وهي العملية التي كانت شديدة التعقيد والصعوبة في ذلك الزمن. لكن الناس الآن لم تعد تقرأ أو تهتم كثيرا بالشعر.
ويمكن هنا أن أذكر مشهدين مهمين ودالين ..
المشهد الأول في دار الأوبرا عندما زار الشاعر الروسي يفجيني يفتشنكو القاهرة بدعوة من دار الهلال، وألقى قصائده، كان هناك جمهور خارج دار الأوبرا يستمع للشاعر وهو يلقي قصائده ، وترجمتها بأصوات نجوم مثل محسنة توفيق وعبد الله غيث وأحمد عبد المعطي حجازي، عن طريق ميكروفونات تم تركيبها حول الأوبرا، لمواجهة الإقبال الحاشد من الجمهور على الحضور.
المشهد الثاني كان في المؤتمر الأول للأدباء الشبان ، الذي عقد خلال شهر رمضان في الشرقية، وشارك فيه شعراء كثيرون منهم أحمد عبد المعطي حجازي وملك عبد العزيز ومحمد عفيفي مطر وحسن توفيق ونجيب شهاب الدين ورضوى عاشور .. كنا ننزل القرى ونقرأ قصائدنا للفلاحين في الحقول . وذهبنا في تلك الجولة إلى ديرب نجم وقرأنا أشعارنا أمام 20 ألف فلاح افترشوا الأرض ليسمعونا.. وشارك معنا في تلك الأمسية التي امتدت من بعد صلاة العشاء وحتى السحور الشاعر العراقي المعروف مظفر النواب.
الآن لو حضر 50 شخصا أمسية شعرية نتكلم عن «حضور كبير»..
ولكن لا بد أن أعترف أن الحال في ميدان التحرير كان قريبا جدا من لحظة ديرب نجم الذهبية.. فقد قرأت قصائدي أمام مئات الآلاف في الميدان، واكتشفت أن الشباب يحفظون ما غناه الشيخ إمام من شعري كقصيدة الفلاحين و اتجمعوا العشاق.. وعندما تعود الحركة الوطنية والديمقراطية والحرية دائما يعود الناس للشعر والفن بشكل عام..
إذا كانت هذه ملابسات ديوان قديم متجدد مثل «وش مصر»، فماذا عن ديوان قهوة الصبحية الذي قدمته لشهداء الثورة وغيرهم من الشهداء..هل تعتقد أن البوصلة لا تزال موجهة للثورة وللشهداء، أم أن تغييرا حدث في معادلة المشهد السياسي المصري يجعل من الديوان مرثية فقط أو ربما تغريد خارج السرب؟
الشهدا بيشربوا الشاي
الشهدا بيخشوا البيوت
بيرجعوا م السفر
بيدخلوا في الصور
ويناموا في البرواز
ساعات بيمنعهم
تراب ع القزاز
أو دموع في العيون
تتمد صوابعهم
ع الرموش ، والجفون
تقطف حبوب المطر
وساعات
، يشاركوكم ، في شفطة شاي
.أو في حلم السكوت
في ديوان قهوة الصبحية أنا لا أكتب مرثية ولا أبكي من رحلوا أو أعبر عن النوستالجيا والحنين فقط.. فالشهداء عندي والثوار والأصدقاء لا يموتون ، فقط يغيرون العناوين، لذلك أصر على أن أشرب معهم الشاي، وأعيش معهم حياتهم، وأجعلهم أحياء في قصيدتي.. لا أريد أن نبكيهم أريد أن يبقوا معنا.
أما عن «البوصلة» فالشعراء عموما – أو هكذا أتخيل دور الفن – لا يتبعون البوصلة والاتجاه السائد، وإنما يقومون هم بتوجيه البوصلة وضبط إيقاعها .. وأنا لن أمشي وراء «الرايجة».. مهمتي كشاعر أن أخوض الصعب لآخذ بيد القراء إلى ما أراه صوابا، لا أن أستسلم لبوصلة الشارع ..
هل تتوقع أن يقبل الناس الآن كلاما عن الشهداء؟
الناس تريد من يأخذ بيدها بصدق ويرشدها بصدق ، ومن صدقنى عندما كتبت «شهدا ماشيين في جنازة بعض، شهدا من فوق الاكتاف شايلينهم شهدا فوق الأرض» ، سيصدقني وأنا أكتب اليوم «الشهدا بيشربوا الشاي» .
لكن كثير من المصريين لم يعودوا مع فكرة الثورة ربما يأسا أو مللا .. وكثيرون «كرهوا» الثورة؟
الإعلام الرديء هو الذي يروج لهذا الكلام المغلوط.. الإعلام الذي كان يكذب ويقول في الخامس والعشرين من يناير 2011 ان الشرطة والشعب كانوا يتبادلون الورود والشوكولاته، هو نفسه الإعلام الذي حاول تشويه ثوار التحرير، ولما انتصرت الثورة في 11 فبراير مجدها، ولكنه عاد لتشويه الثوار من جديد..
وليس من واجبي كشاعر أن أتبع خطى الإعلام، فالشاعر والفنان عموما لا يحصل على رؤيته السياسية من فتات الموائد السياسية والإعلامية وسأضرب لك مثلا..
قصيدة الفلاحين أو التي يعرفها الناس بالحرب لسه في أول السكة.. كتبت هذه القصيدة في الثامن من أكتوبر عام 1973، وكنت وقتها جنديا في الجيش المصري العظيم الذي كان يحارب إسرائيل، ولكني كشاعر رأيت الحرب أخرى عبرت عنها في القصيدة .. السادات أوقف الحرب وتغنى آخرون بعبقريته في الحرب قبل أن يجدوا أنه يسير إلى التصالح مع إسرائيل ويجدوا هم أنفسهم في مأزق ..
وأذكر أني حصلت من قائد الكتيبة على تصريح بالنزول من الجبهة إلى القاهرة ليومين للمشاركة في أمسية شعرية بعدما أرسلت القصيدة إلى جريدة الجمهورية ونشرت وقتها . وعندما شاركت في الأمسية وقرأت قصيدة الفلاحين وكنت أقول فيها :
إتفجري يا مصر
إتفجري بالحرب ينفلق النهار
إتفجري بالحرب ضد الجوع والقهر
ضد التتار
وإتسلحي بالحرب للحرية
وإتفتحي وردة بدم ونار
إتجمعي من ألف صرخة وضحكة
والحرب لسة في أول السكة
فهبت جيهان السادات التي كانت تحضر الاحتفال من مكانها وصرخت «مفيش جوع في مصر ، وانصرفت غاضبة.. ومعروف أني دفعت ثمن قصيدتي التي لم تغن لعبقرية القائد وقتها رغم أن البوصلة العامة كانت تشير إلى هذا الاتجاه .. لكني شعرت أن علي أن أقدم رؤيتي التي عاينتها بنفسي ليعرف الناس حقيقة الأوضاع.. وقد طلب مني الجمهور في تلك الأمسية إعادة القصيدة وأعدتها يومها 10 مرات ، لأن الجمهور تجاوب مع صدقي كشاعر يرى أن للحرب شرطا أساسيا هو الحرية.
لو اتبعت خطي الإعلام وقتها لما كتبت ولما عاشت القصيدة ..
الفن ميدان كان امتدادا لهذا الدور، وقد شاهدت بنفسي تجاوب الجمهور معه، لكنه توقف لاعتراضات أمنية، والآن هناك حديث حول عودته، فهل ستكون العودة بشروط الوزارة أم باستقلالية الفن؟
لا يوجد شيء اسمه شروط الأمن أو الوزارة. الفن ميدان مبادرة أطلقها عدد من الناشطين والمثقفين وصارت ملكا للجمهور، الذي ينزل إلي ميادين مصر. وقد قدمنا له خدمة، فلا يملك أحد منا أن يقبل أن يضع له أحد أية شروط. لم يكن هناك شروط لوزارات الثقافة السابقة أو الحالية للفن ميدان .
حصلنا على دعم مالي من وزارة الثقافة أيام الوزير عماد أبو غازي لمدة 6 أشهر، وسهل لنا الحصول على ترخيص محافظة القاهرة. وعندما ترك الوزارة، استمر الفن ميدان. حتى أيام حكم محمد مرسي .. فقط طلب منا الأمن تأجيله مرة واحدة من السبت إلى الاثنين بسبب زيارة لقصر عابدين، وظللنا نتفاوض لخمس ساعات وأصررنا على إقامته في مكانه وموعده حتى لا تكون سابقة تتكرر وأقمناه في موعده .. ولم نحصل من وزارات الثقافة بعدها على شيء، إلا مرة واحدة من وزارة د جابر عصفور. ثم طلبنا تدخله لدى وزارة الداخلية عندما حدثت أزمة في سبتمبر 2014، والتي نظمنا فيها الفعالية في التاسع من الشهر بدلا من الثاني منه بسبب اعتراض الأمن.
وأين وصلت مفاوضات إقامة الفن ميدان الآن؟
المشكلة أنه صار مطلوبا منا أن نحصل على ترخيص من الداخلية، بدلا من محافظة القاهرة التي يتبعها ميدان عابدين والتي كانت تتولى الحصول على ترخيص من الحرس الجمهوري.
ومؤخرا كانت هناك مؤشرات للعودة بعد صدور تصريحات من وزارة الثقافة بقرب عودة الفن ميدان. كان ذلك قبل استشهاد الناشطة شيماء الصباغ.
من جهتنا سنظل نضغط بكل الطرق الممكنة لإعادة هذا النشاط، وعلى الإعلام – إذا كان جادا في الاهتمام بهذه الظاهرة - أن يدعمنا …
تجديد الخطاب الديني يبدأ بحصة الرسم..
شاركت بكثافة وربما بشكل يومي في معرض الكتاب الأخير، كيف ترى الشعار الذي رفعه حول تجديد الخطاب الديني؟
تجديد الخطاب الديني ضرورة حتمية لكنه لا بد أن يبدأ من المدرسة أو من البيت في التربية من سن الطفولة. الطفل في مصر يتعرض للتمييز على أساس ديني لأول مرة عندما يدخل المدرسة ويتم إخراج المسيحي من حصة الدين فنعلم الأطفال أن هناك فرقا بينهم بسبب الدين. ومن هنا تكون بداية انغلاق كل طرف على نفسه، إلى جانب الخرافات التي تقال في حصة الدين لكل طرف عن الآخر.
ثم يكون الاهتمام بحصة الرسم.. كيف نريد جيلا بلا تطرف ونحن نحرمه من التربية الفنية، التي سقطت من جدول الحصص تماما في مصر.
إنها الحصة الوحيدة التي يتعلم فيها الطالب أن يعبر عن نفسه بحريه ويقول رأيه، بعيدا عن مناهج التلقين في كل الحصص والمواد الأخرى..
ثم دعيني أتساءل: كيف نجدد الخطاب الديني ونحن نسمح بأحزاب سياسية على أساس ديني للآن رغم مخالفة هذا للدستور؟