كثر الحديث عن تجديد الخطاب الديني، ولا يكاد يخلو لقاء رسمي أو منتدى أو ندوة أو صالون عن الحديث في هذا الأمر الذي تكرر إلى حد الملل دون حدوث أي تقدم على أرض الواقع. دعاة يعتلون المنابر ويلقون بخطاب ديني بعيد عن الواقع الذي يعيشه الناس، وآخرون لا يمتلكون مهارات التواصل مع الجمهور وكثير منهم غير مؤهلين لتلك المهمة الجليلة التي هي خط الدفاع الأول في مواجهة التطرف والإرهاب . الواقع يؤكد أننا بحاجة الى داعية عصري قادر على اقناع الناس وتوضيح صحيح الدين والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة . ولأن المؤسسات الدينية أصابها ما أصاب الكثير من مؤسسات الدولة الأخرى من وهن وضعف وسوء إدارة فإننا في هذا التحقيق نضع لبنة فى طريق «صناعة الداعية» علها تجد آذانا مصغية وقلوبا واعية؛ حتى لا نكرر أخطاءنا بعدما توارى رجالات الأزهر من الساحة الدعوية زمنا غير يسير تاركين المنابر يعلوها الغلو والتطرف, والجمود والتخلف, وتوظيف الدين لأغراض سياسية, مما انعكس بدوره على المجتمع فانتشرت ظواهر الإلحاد, والتشيع, والإرهاب, والعنف, والإباحية, وسوء الخلق.. ولكي نسعى في هذا التحقيق الى تقديم رؤية للمسئولين في المؤسسات الدينية وقادة الدعوة والقائمين عليها ودعوة لأن يستفيدوا من التجارب السابقة, فلا يكرروا الأخطاء السابقة عينها, وألا يعتمدوا على فكر أسلافهم فيجتروه فى زمانهم؛ لأن أسلافهم قد فكروا فى مشاكل أزمانهم ووضعوا لها الحلول. ولذا ينبغي على القائمين على أمر الدعوة أن يصنعوا داعية عصريا ملما بأدوات عصره, مدربا على وسائل الإقناع والحوار وفن الإلقاء, قادرا على جذب الانتباه, مخاطبا فيهم القلوب والعقول معا.. على أن يقود الناس بخلقه قبل علمه وسلوكه قبل وعظه. الإعداد العلمى الدينى يقول الدكتور عبدالله كامل المفكر الإسلامى وإمام مسجد السحار بالهرم: حينما نتحدث عن صناعة الداعية فلابد أن نتكلم عن ثلاثة محاور أساسية, وهى: الإعداد العلمى الدينى أولا, والإعداد التربوى والخلقى ثانيا, والإعداد العصرى ثالثا. فبالنسبة للإعداد العلمى الدينى لابد أن تكون هناك وسائل تعليمية حديثة بديلة للكتاب والإعداد الأزهري لكى تكون الحصيلة فى النهاية حفظ القرآن الكريم ومعرفة تفسيره والإحاطة بالسنة وشروحها والمعرفة الكاملة بالسيرة النبوية مع كتب الخصائص والشمائل, ثم التعمق الفقهى الذى يمكن الداعية من حل المشكلات العصرية وبخاصة لدى الشباب, ومتطلبات العصر مثل المعاملات الحديثة فى البنوك, والعمليات الحديثة فى الطب, والتطور الهائل فى أساليب المحاسبة والتجارة, والتطور التكنولوجى والتقنى؛ مما يجعل الداعية مطلوبا بشدة خاصة عند المرأة والشباب, وأقصد بذلك أن يكون الملجأ الأول للشاب الحائر والمرأة الباحثة عن مكان لائق بها فى المجتمع بما لا يخالف ثوابت الدين الأساسية من عقيدة وشريعة وعبادات ومعاملات. ولكى نحقق هذا لا بد من لقاء فكرى يجمع بين رجالات الأزهر والثقافة ورجال الدين عموما وأساتذة الجامعات فى شتى الفروع والمجالس القومية للمناقشة فى هذه الصناعة التى هى أهم صناعة ألا وهى صناعة الداعية؛ لأن الداعية يجب أن يكون مركز الدفاع الأول ضد التطرف والعنف فضلا عن الإلحاد والإباحية, حيث يركز أكثر الدعاة على محاربة الإباحية والإلحاد ويقل تركيزهم على العنف والتطرف وأمراض العصر من الإحباط والاكتئاب والتخلف العلمى والصناعى والتقنى, فلو برزت فى المجتمع قضية إباحية تجد الجميع يصرخون ومعهم حق, ولكن لا يحركون بالا لقمامة الشوارع ومخالفات المرور والغش العلمى وسرقة الأفكار, مع أن هذه الأمور أشد ضررا وفتكا بالمجتمع والإسلام. الإعداد العصرى وأضاف : إنه لا يمكن أن يعيش العالم والواعظ والإمام والخطيب خارج العصر بل يجب أن يكون أكثر الناس اطلاعا ومتابعة للتقنية العلمية والوسائل العصرية والتكنولوجيا الحديثة والتقدم الهائل فى وسائل الاتصال والبحث العلمى من الاقتصاد إلى الذرة إلى صناعات التسليح والطائرات والصواريخ والسيارات وأجهزة المحمول والإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعى, بحيث يوظف هذه المعارف لخدمة المفاهيم الدينية الصحيحة والارتقاء بالفضائل ونمو المجتمع وزيادة الإنتاج والوقاية من أمراض العصر. ولنعلم أنه مهما أعددنا الداعية علميا دون أن يكون نموذجا للخلق الحسن والسلوك الطيب والحلم والصفح والبشاشة والبسمة الجميلة والشفقة حتى على العصاة وتقبل الرأى والرأى الآخر. ويجب علينا أن نبحث عن الأشياخ الصالحين الربانيين وعن أهل التقى والصلاح فى السلوك الواقعى الذين يجلهم الناس ويحترمونهم, وهذا يتحقق بالتوجه الإعلامى المرئى والمسموع والمقروء فى احترام العلماء والصالحين, فلا نجد من يهزأ ويسخر من أهل الفضل بل نوقر ونعزز القيم ونعيد إظهار قيمة العيب فى المجتمع. الخطأ فى المنهج ويرى الدكتور يحيى أبوالمعاطى العباسى، أستاذ التاريخ والفكر الإسلامي بكلية دار العلوم، أن الخطأ فى موضوع صناعة الداعية هو خطأ فى المنهج والطريقة التى يتناول بها الموضوع, فألبرت أينشتاين يقول: «الجنون هو أن تفعل نفس الشيء مرة بعد أخرى وتتوقع نتائج مختلفة!» فلا يمكننا حل المشاكل المستعصية إذا ظللنا نفكر بنفس العقلية التي أوجدت تلك المشاكل, إذ إن الداعية عليه أن يبدأ من الواقع لا من العلوم والمعارف الإسلامية, فمشاكل الواقع هى التى تحدد كيفية وأساليب تناول المعارف الدينية, وهذه المسألة هى المنطلق الأساسى, أما أن يجلس الداعية ويتناول معلومات دينية فى مجال محدد أو فى مجال الترغيب والترهيب, فهذا أمر بعيد عن التأثير فى الواقع, والدليل على ذلك أن الموضوعات التى يتناولها أغلب الدعاة تقريبا تتمحور حول قصص الأنبياء, وقصص الصحابة, ويوم القيامة, والجنة والنار, فأكثر الدعاة يتناولون ذلك باختلاف الأسلوب, لكن الأوضاع فى التدين كما نرى تسوء, فينتشر الإلحاد ويقل التدين الصحيح وتزداد مشكلة النظافة وتسوء أخلاقيات الناس وتزداد نسب الطلاق, وتستطيع أن تعدد عشرات المشكلات التى تزداد يوما بعد يوم ولا أثر للدعاة فى ذلك, والمنهج هو أن يتم معرفة مشاكل الواقع والاقتراب من حلها. ولكي لا نتهم بأننا نضع المشكلات نصب أعيننا ولا نضع بدائل لحل هذه المشكلات, فإن بدايات الحل تبدأ بوضع كتب إسلامية فى التفسير والحديث والفقه والسيرة والتاريخ الإسلامى والأخلاق الإسلامية يكون الملمح العام لهذه الكتب التبسيط والإيجاز وتحقيق الألفة والبعد عن الاختلافات, بحيث تحدث هذه الكتب حصانة فكرية ودينية, ولا مانع من أن يستعان فى إعداد هذه الكتب بخلاف لجنة علمية لجنة من المعدين الجيدين فى الإعلام لإخراج هذه الكتب بأشكال توضيحية مبسطة, ويمكن أن يعمل معها سيديهات لبعض الأفلام التسجيلية التى تؤكد هذه الأفكار, وهذه الأشياء قد تم عملها قبل ذلك فى بعض الشركات الإلكترونية الإسلامية لكنها قلت وربما أفلس كثير منها. ومن المواد التى يجب التركيز عليها فى الفقه مثلا أن هناك اختلافات أخذها علينا العالم والتبست على كثير من المسلمين مثل الجهاد هل هو يعنى الاعتداء المطلق على الآخرين وأننا أمة تجاهد طيلة الوقت؟ ومفهوم اختلاف الدارين الذى قال به بعض الفقهاء, وشروط العقود التى تغيرت مع التغير المعاصر, فلا معنى لأن أدرس الفقه بمنظوره القديم؛ لأن هؤلاء العلماء فكروا لعصورهم, فعند عرض مثل هذه الأبواب يراعى هذه الشبهات, كما أن المطلوب فى كتب التفسير أن تكون سهلة تدل على الهدف العام من السورة وتوضح بعض المفردات الصعبة وربط الآيات ببعضها والموضوعات الكبرى فى السورة, بحيث يبعد القارئ عن التشتت والإبهام, كما يتناول فى مجال الأخلاق الأخلاق الفردية كالحب والسماحة والعطف والألفة, وهى أخلاق لا غنى لأى مجتمع عنها, كما لا يقلل من الأخلاق الاجتماعية كالانضباط والمسئولية.. إلخ ويمكن أن نطرح ذلك المنهج فى التأكيد على أهمية أن يستمع الداعية أولا قبل أن يطرح دعوته، ووان يستيقن امن أن هناك جسورا مقطوعة بينه وبين الناس. كما أنه ينبغي علينا أن نرصد مشاكل الواقع والاستعانة بالمتخصصين فى علم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ والاقتصاد والسياسة والتنمية البشرية والإعلام والفكر المعاصر لمعرفة أهم مشاكل المجتمع. وإعداد كتب سهلة ومبسطة ودقيقة ومحيطة للعلوم الإسلامية دون الدخول فى الإبهامات والاختلافات. وعرض هذه المعلومات بالاستعانة بالصور والخرائط والرسومات التوضيحية. وعمل سيديهات وأفلام تسجيلية واستخدام الميديا الحديثة. وان يعي الدعاة أن لكل شريحة من هذه الشرائح مشاكلها التى يمكن أن يتدخل فيها الدعاة بشكل يقلل من مخاطر المجتمع, فكلنا يدرك أن المشاكل والمخاطر الحالية لو استمرت لمدة عشر سنوات فالنتائج على المستوى الاجتماعي والفكرى والتديني ستكون كارثية, وسيكون هنا قد تحقق ما يرمى إليه الأعداء من ضرب الميزة الرئيسية عندنا وهى الأسرة والأخلاق. القدرة على التوصيل أما الدكتور محمود يوسف أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة, فيقول إن القرآن الكريم قد وضع الإطار العام والمنهج المنظم للدعوة والدعاة فى قوله تعالى (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) سورة يوسف:108فقد حدد القرآن منهاج الدعوة فى شبه الجملة »على بصيرة« والبصيرة التى حدثنا عنها القرآن الكريم بالمعايير العصرية تتناول حفظ الداعية للقرآن الكريم والإلمام بالسنة النبوية ومعرفته بالتاريخ الإسلامى وسير الصحابة والتابعين, وكذلك معرفته باللسان العربى المبين وما يتعلق به من نحو وصرف ومعان وبديع, وأيضا معرفته بالمذاهب الفقهية. ويخاطبنا القرآن الكريم فى سورة القصص ليعلمنا أهمية القدرة على توصيل المعلومات التى لدى الداعية إلى المتلقين, فيقول رب العزة (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) سورة القصص:51 ومعنى الآية أن التذكرة مترتبة على جودة التوصيل؛ ولذا ينبغى على الداعية أن يلم بقدر من مفاهيم الإعلام وعلومه من جذب الانتباه, ومراعاة مصالح المتلقى, واحترام عقلية المخاطب, ومراعاة الحاجات الإنسانية, والتجاوب مع مصالح الناس, ومخاطبة العقل والعاطفة معا, واستخدام استمالات التخويف إن دعت الضرورة, وأن يوضع التخويف فى موضعه من الرسالة الإعلامية. ويحدد القرآن الكريم كذلك ما ينبغي أن تكون عليه شخصية الداعية, فيقول رب العزة (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) سورة يونس:16 , فلابد أن تعكس شخصية الداعية كثيرا من الملامح الإيمانية التي تخدم دعوته, وكذلك أن يكون ماضيه مشرفا لا تشوبه شائبة, وأن يقترن قوله بفعله.