وزيرة البيئة تواصل مشاركاتها فى فعاليات مؤتمر ' كوبنهاجن لتغير المناخ    الكاف يفرض اشتراطات صارمة على المدربين في بطولاته القارية.. قرارات إلزامية تدخل حيّز التنفيذ    سقوط شبكة دولية لغسل 50 مليون جنيه من تجارة المخدرات بمدينة نصر    سنن النبي وقت صلاة الجمعة.. 5 آداب يكشف عنها الأزهر للفتوى    محافظ القليوبية يستقبل وفد لجنة الإدارة المحلية لتفقد مستشفى الناس    5 حالات اختناق بمنزل وحادث اعتداء على سوداني بالجيزة    بوتين: روسيا ستبقى قوة عالمية غير قابلة للهزيمة    لأول مرة.. بابا الفاتيكان أمريكيا| وترامب يعلق    خلافات عميقة وتهميش متبادل.. العلاقة بين ترامب ونتنياهو إلى أين؟    القوات المصرية تشارك في عروض احتفالات الذكرى ال80 لعيد النصر بموسكو    الجيش الأوكراني: تصدينا خلال ال24 ساعة الماضية لهجمات روسية بمسيرات وصواريخ    سعر الخضار والفواكه اليوم الجمعة 9 مايو 2025 فى المنوفية.. الطماطم 7جنيهات    ماركا: تشابي ألونسو سيكون المدرب الجديد لريال مدريد    فاركو يواجه بتروجت لتحسين الوضع في الدوري    إنفانتينو يستعد لزيارة السعودية خلال جولة ترامب    وزير المالية: الاقتصاد المصري يتحرك بخطى جيدة ويوفر فرصًا استثمارية كبيرة    مصلحة الضرائب: 1.5 مليار وثيقة إلكترونية على منظومة الفاتورة الإلكترونية حتى الآن    طقس اليوم الجمعة 9-5-2025.. موجة شديدة الحرارة    بسبب الأقراص المنشطة.. أولى جلسات محاكمة عاطلين أمام محكمة القاهرة| غدا    انطلاق امتحانات الفصل الدراسي الثاني للطلبة المصريين في الخارج غدا    وزير الري: سرعة اتخاذ قرارات طلبات تراخيص الشواطئ تيسيرا ودعما للمستثمرين    فيفى عبده عن محمود عبد العزيز وبوسى شلبى: سافروا معايا الحج وهما متجوزين    مروان موسى ل«أجمد 7» ألبومى الجديد 23 أغنية..ويعبر عن حياتي بعد فقدان والدتي    حفيدة الشيخ محمد رفعت: جدى كان شخص زاهد يميل للبسطاء ومحب للقرآن الكريم    جدول امتحانات خامسة ابتدائي الترم الثاني 2025 بالقليوبية «المواد المضافة للمجموع»    تنمية المشروعات ضخ 920 مليون جنيه لتمويل مشروعات شباب دمياط في 10 سنوات    اقتحام مستشفى حُميّات أسوان بسلاح أبيض يكشف انهيار المنظومة الصحية في زمن السيسي    الهيئة العامة للرعاية الصحية تُقرر فتح باب التقدم للقيد بسجل الموردين والمقاولين والاستشاريين    طريقة عمل العجة المقلية، أكلة شعبية لذيذة وسريعة التحضير    «دمياط للصحة النفسية» تطلق مرحلة تطوير استثنائية    افتتاح وحدة عناية مركزة متطورة بمستشفى دمياط العام    أسعار الدولار أمام الجنيه المصري.. اليوم الجمعة 9 مايو 2025    جوميز: مواجهة الوحدة هي مباراة الموسم    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 9- 5- 2025 والقنوات الناقلة    التنمر والتحرش والازدراء لغة العصر الحديث    أحمد داش: الجيل الجديد بياخد فرص حقيقية.. وده تطور طبيعي في الفن    زعيم كوريا الشمالية يشرف على تجارب لأنظمة صواريخ باليستية قصيرة المدى    الخارجية الأمريكية: لا علاقة لصفقة المعادن بمفاوضات التسوية الأوكرانية    أسرة «بوابة أخبار اليوم» تقدم العزاء في وفاة زوج الزميلة شيرين الكردي    الهباش ينفي ما نشرته «صفحات صفراء» عن خلافات فلسطينية مع الأزهر الشريف    في أجواء من الفرح والسعادة.. مستقبل وطن يحتفي بالأيتام في نجع حمادي    موهوبون في قلب الأمور لمصلحتهم.. 5 أبراج تفوز في أي معركة حتى لو كانوا مخطئين    منح الدكتوراه الفخرية للنائب العام من جامعة المنصورة تقديرًا لإسهاماته في دعم العدالة    سالم: تأجيل قرار لجنة الاستئناف بالفصل في أزمة القمة غير مُبرر    تفاصيل لقاء الفنان العالمي مينا مسعود ورئيس مدينة الإنتاج الإعلامي    «ملحقش يتفرج عليه».. ريهام عبدالغفور تكشف عن آخر أعمال والدها الراحل    الجثمان مفقود.. غرق شاب في ترعة بالإسكندرية    في المقابر وصوروها.. ضبط 3 طلاب بالإعدادية هتكوا عرض زميلتهم بالقليوبية    طلب مدرب ساوثهامبتون قبل نهاية الموسم الإنجليزي    البابا تواضروس يعود إلى أرض الوطن بعد زيارة رعوية استمرت أسبوعين    وسائل إعلام إسرائيلية: ترامب يقترب من إعلان "صفقة شاملة" لإنهاء الحرب في غزة    رئيس الطائفة الإنجيلية مهنئا بابا الفاتيكان: نشكر الله على استمرار الكنيسة في أداء دورها العظيم    «إسكان النواب»: المستأجر سيتعرض لزيادة كبيرة في الإيجار حال اللجوء للمحاكم    حكم إخفاء الذهب عن الزوج والكذب؟ أمين الفتوى يوضح    عيسى إسكندر يمثل مصر في مؤتمر عالمي بروما لتعزيز التقارب بين الثقافات    محافظة الجيزة: غلق جزئى بكوبري 26 يوليو    علي جمعة: السيرة النبوية تطبيق عملي معصوم للقرآن    "10 دقائق من الصمت الواعي".. نصائح عمرو الورداني لاستعادة الاتزان الروحي والتخلص من العصبية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قبل أن تندثر
قبعة «بوب مارلى» تهدد تراث النوبة بالضياع

وجوه سمراء جميلة ذات أسنان ناصعة البياض، قباب من طمى النيل ، رمال ذهبية ناعمة ونظيفة على مدد البصر ، لوحات ملونة لحكايات إنسانية على جدران بيوت بسيطة مبنية بحب على مدرجات صخرية صلبة ، نخيل وجِمال ، مثلثات و أهلّة وأطباق من الخزف ، تماسيح حية ومُحنطة ، وفى خلفية المشهد ينساب نهر النيل فى هدوء ورقة ووداعة وعلى صفحته المراكب ذات الأشرعة الكبيرة وكأنه يزغزغ القلوب البيضاء التى تسكن على شاطئه فيملآها سماحة ومودة وطيبة ويمنحها فى نفس الوقت شجاعة وقوة وصلابة ..
كل هذه المفردات شكلت عجينة النوبة الجميلة التى لا نعرف عنها سوى بعض اللقطات المشوهة التى ظهرت فى الأفلام القديمة الأبيض والأسود والتى قدمت النوبى على أنه السائق أو السفرجى أو الخادم المطيع .. أو ما نسمعه هذه الأيام عن رغبة بعض أهالى النوبة فى الإنفصال وتكوين دولة لهم فى إطار محاولة تفكيك الدولة المصرية - وهو عشم إبليس فى الجنة - أو التهديد بذلك أو التلويح بالتذمر لعدم حصولهم على جميع حقوقهم التى وُعدوا بها منذ أيام التهجير ..
ولكنى أؤكد لكم يا سادة أن هذه ليست النوبة ، فالنوبة التى رأيتها بعينى خلال هذا الأسبوع بسيطة، جميلة وطازجة ، متجددة كل صباح عند شروق الشمس ، ورائعة عند الغروب ، والشمس تتوارى خلف النخيل حتى تسقط فى مياه نهر النيل على وعد بلقاء فى اليوم التالى عند حواف المعابد الفرعونية لتلقى بأشعتها على الكتابات الهيروغليفية فتميط اللثام عن بعض الأسرار وتترك البعض الآخر مؤجلاً ليوم جديد.
ورغم جمال المشهد النوبى وسحر مفرداته الطبيعية وتباين الوانه ما بين سمار لون البشرة وخضرة النخيل وصفرة الرمال الذهبية وزرقة مياه النيل الصافية ورمادية أحجار المعابد الضخمة وبياض أشرعة المراكب الا أن المشهد يحتاج الى تدخل سريع حتى لا تفسد اللوحة الجميلة وتفقد سحرها وطبيعتها وذلك للحفاظ على ما بقى من تراث وتقاليد وعادات وجمال النوبة ..

النوبة من البداية

والكلام عن النوبة لابد أن يبدأ بمعنى الكلمة فكلمة «نوب» فى اللغة المصرية القديمة تعنى الذهب فالنوبة باختصار هى بلاد الذهب لانتشار مناجم هذا المعدن النفيس فى أراضيها ، ومن المعروف أن النوبيين كانوا يقيمون فى 45 قرية حول بحيرة ناصر قبل بناء السد العالى وكانوا ينقسمون الى قسمين هما (الكنوز والفاديجا) أو سكان الشمال والجنوب .
ويقول الحاج أنور بودا من سكان منطقة غرب سهيل إن أهالى النوبة القديمة تعرضوا للتهجير مرتين فى العصر الحديث ، الأولى عند بناء خزان أسوان عام 1902 وما تبعه من تعليتين عام 1912 و1933، والثانية وقت بناء السد العالى عام 1963 .
أما الهجرة الأولى فقد قام بعض الأهالى من عشرة قرى نوبية بالرحيل طواعية من قراهم خوفاً من الغرق عند ارتفاع منسوب نهر النيل وهؤلاء اختاروا مناطق قريبة من أسوان ومشابهة لبيئتهم الأصلية من حيث القرب من نهر النيل مثل مناطق غرب أسوان و غرب سهيل التى تقع على بعد 15كم من أسوان بالقرب من الخزان وبنوا فيها مساكنهم بناء على مرسوم ملكى صدر وقتها يسمح للمهاجرين من النوبيين ببناء مساكنهم على أى أرض يختارونها وهى الأرض التى لم يتملكوها حتى الآن ، وبالفعل نزح الكثيرون الى هذه الأرض البكر من قرى نوبية أخرى وبنوا مساكنهم على الطراز النوبى من حيث المساحات الكبيرة والأفنية الواسعة والقباب المبنية من طمى النيل والمبانى من الطوب اللبن أو النئ أو باختصار بإستخدام مواد من الطبيعة - صديقة للبيئة - ولكن هذه المواد الطبيعية قد انقرضت فى العصر الحديث خاصة بعد بناء السد وقلة فرص الحصول على الطمى لعدم حدوث الفيضان مما دفع النوبى هذه الأيام الى بناء بيته بالمواد الحديثة ولكن مع الاحتفاظ بالشكل القديم المميز مما جعل المنازل الحديثة أقل قوة وصلابة من بيوت الأجداد التى يتعدى عمر بعضها المائة عام ومازالت بنفس القوة ، والمنازل النوبية تُعد منازل صحية من حيث التهوية واتجاه الرياح ودخول الشمس مما ينعكس على صحة النوبى الذى غالباً ما يكون جسده صلب وسليم بسبب تعرضه للشمس بالإضافة لنوعية الطعام الذى يتناوله والمكون أغلبه من الأسماك التى يتم صيدها من النيل مما يمنحة الفوسفور اللازم لقوة العظام بالإضافة للخضروات وعلى رأسها الملوخية (الجاكوده) التى يعشقها النوبيون .
ويضيف أنور بودا أن النوبى كان يعتمد فى معيشته فى الماضى على الصيد والزراعة الشاطئية وزراعة النخيل ولكن مع تغير الأحوال خرج النوبيون للعمل فى المصالح الحكومية وهجروا الصيد وبعض المهن التى كان يمتهنها الأجداد مما يعرضها للإنقراض مثل صناعة الكراسى والأسرة والموائد من الخوص والغزل على الأنوال وصناعة القبعات من الخوص الملون و(الطواقي) من الصوف وغيرها ، ولكن الطريف أنه فى الوقت الذى هجر فيه النوبيون هذه الحرف أقبل عليها الكثير من أبناء الصعيد وخاصة قنا وسوهاج ونزحوا للإقامة فى غرب سهيل التى تعد النموذج الأقرب للنوبة من حيث ُطرز المبانى والقرب من النيل والبيوت البسيطة المبنية على مدرجات وتزينها رسومات ملونة وزخارف هندسية جميلة مما جعلها منطقة جذب للسائحين من كل أنحاء العالم وخاصة من أسبانيا وفرنسا وإيطاليا الذين يقومون بزيارة القرية ويصلون اليها من خلال المراكب الشراعية فى النيل ثم يقومون بجولة فيها بواسطة الجمال بعدها يقومون بزيارة أحد البيوت النوبية التى تحول جزء منها الى «مضيفة» لاستقبال السياح لتعريفهم بالحياة على الطريقة النوبية وليتذوقوا بعض الأكلات النوبية ومنها الجاكودة والعيش الشمسى أو الملتوت و(الكاروم مديد) وهى حلوى مكونة من الدقيق والحلبة والمربة والعسل ثم يختم السائح جولته فى القرية بشراء بعض المنتجات النوبية ورسم الحناء بواسطة بعض النوبيات ومشاهدة التماسيح الموجودة داخل البيوت فى أحواض أسمنتية وهى التى يتم صيدها من بحيرة ناصر وبيعها خلسة لإنها تعتبر رمزاً للنوبة لإرتباطها بنهر النيل وبحيرة ناصر ولمنع الحسد والعين الشريرة فى نفس الوقت .

النوبة ... أسلوب حياة

ويؤكد بودا أن اللغة النوبية تحتاج الى إهتمام من خلال تبنى مشروع كبير لتسجيلها لإنها لم تُكتب بعد وبدأت تندثر على الرغم من أن الأسر النوبية فى غرب سهيل تهتم بتعليم أطفالها اللغة القديمة الا أن الأطفال يفضلون اللغة العربية التى يتعلمونها فى المدارس مما يهدد اللغة النوبية بالإندثار بلا شك مع الأجيال القادمة .
وعن العادات والتقاليد القديمة يقول إن عادات الزواج قد تغيرت فلم يعد ممنوعاً الزواج من الغرباء وأصبح مسموحاً للعروس أن تلتقى بعريسها وليس كالماضى حيث لم يكن مسموحاً لها أن تراه الا مرة واحدة ثم يُمنع اللقاء بينهما حتى ليلة الزفاف ، وكانت حفلات الزفاف تتكلف ما يقرب من ثلاثين الف جنيه تقلصت الآن حتى وصلت الى ما يقرب من خمسة آلاف جنيه.. ويضيف أنه على الرغم من التطور الذى طال النوبة الا أنها مازالت محتفظة بعلاقات البشر الطازجة والجميلة فمازالوا يشاركون الأفراح والأحزان والمواسم والأعياد .
أما الحاج عبده حسن موسى ذلك الرجل النوبى المُتفتح الطيب القلب والرائق الملامح فيقول إن النوبة تعنى النيل ، فلا حياة بدون النيل ، فالنيل شريك أساسى فى كل مراحل حياة الرجل النوبى ، فعند الولادة يقوم الأهل بتحميم الطفل فى النيل واختيار كُنية أو اسم له علاقة بالنهر ، وعند الزواج يستحم العريس فى النيل مع أصدقائه فى مراسم مرحة وصاخبة وكذلك عند الوفاة لابد أن تمر الجنازة بالقرب من النيل ، ولابد أن يكون المسكن بالقرب من النيل وكذلك العملة فالنوبى لا يشعر بالراحة فى البعد عن النهر الذى يسرى فى جسده محل الدماء فهو بالنسبة له الشريان الذى يصله بباقى المدن داخل مصر وخارجها حيث يُعد النوبى مدمن سفر فقد كان يترك أسرته وأهله ويرحل طالباً للرزق وفى كثير من الأحيان كانت تطول سفرته لسنوات لذا كان النوبيون فى الماضى يفضلون الزواج من بعضهم البعض حيث تُعتبر المرآة النوبية أفضل نموذج للمرآة الحمولة الصبورة المُكدة ، أما الآن فقد تغير الحال وهجر الشباب مهن الأجداد بحثاً عن العمل الحكومى وتغيرت ميولهم ولم يعد المجتمع النوبى منغلقاً على نفسه وخرجت البنات للدراسة والعمل وكثُر الاختلاط مما أصبح يهدد اللغة النوبية بالإندثار ويدق ناقوس الخطر للحفاظ على العادات والتقاليد وتسجيلها وحفظها للأجيال القادمة .. ولكن ما يؤكده عبده موسى أن الحياة فى غرب سهيل مازالت تتميز ببعض جمال وبراءة الزمن الماضى لوقوعها على شط النيل ، فما زالت العادات الجميلة من التشارك فى الأفراح والمساعدة فى حل المشاكل والأزمات موجودة ومازال الجميع يتعامل كأسرة واحدة ، ففى الماضى كان يوجد ( طاقة ) فتحة بين البيوت وبعضها لا يتم غلقها أبداً كانت تستخدم فى تبادل أطباق الطعام لذا كنت تجد البيوت كلها تأكل من نفس الطعام فى وقت واحد فمن الممكن أن يأكل أول بيت فى القرية من نفس طعام أخر بيت .
ويقول الحاج على احمد عوضين الذى التقيت به فى منزله البسيط الكائن على ربوة عالية فى مواجهة النهر ومرسى البواخر إن منطقة غرب سهيل كانت تستقبل فى الماضى آلاف السائحين لمشاهدة الحياة النوبية على الطبيعة مما كان يسهم فى إنعاش الحياة والتجارة غير أن هذا الأمر تغير منذ سنوات فلم يعد الحال كما كان وقلت أعداد السائحين بشكل كبير وأصبحنا نعتمد على السائح المصرى فلم يعد الحال كما كان .
وفى النهاية يؤكد الجميع أن منطقة غرب سهيل التى تُعد الأقرب للحياة النوبية والتى يعيش بها ما يقرب من عشرة آلاف مواطن تعانى من نقص فى الخدمات وصعوبة فى المواصلات و مشاكل فى الصرف الصحى وتحتاج الى إلتفاتة من الحكومة لإنقاذ جزء عزيز من تراث مصر وهو التراث والتاريخ النوبى .

غرب أسوان .. جزء من قلب النوبة

أما منطقة غرب أسوان كما يقول الأستاذ حمدى أبازيد فقد استوطن بها النوبيون النازحون بعد بناء خزان أسوان ولكن المكان يختلف عن غرب سهيل فلا توجد به البيوت الملونة وإن كانت المبانى مقامة على ربوات عالية وتتميز بطلائها بألوان تناسب البيئة المحيطة من أزرق وأصفر وأبيض وتتكون البيوت المقامة على مساحات واسعة من فناء مكشوف تتوسطه نخلة أو أشجار وحوله عدد من الغرف ، وفى غرب أسوان مازالت المرآة النوبية تحرص على إخفاء وجهها عند دخول الغرباء ومازالت اللغة النوبية متداولة، وإن كانوا يعانون من نفس المشاكل التى يعانى منها الأخرون فى كل قراهم الحديثة الا وهى الخوف من إندثار اللغة والعادات والتقاليد والشكل النوبى المميز فى الملبس والمأكل وبالتالى ضياع الهوية ، ومن هذا المنطلق تم إنشاء جمعيات للحفاظ على التراث النوبى وخاصة الصناعات اليدوية ورعاية أعمال بعض السيدات النوبيات فى مجال صناعة السلال والخوص والطواقى والحلى والخرز الملون وتتولى هذه الجمعية تسويق الإنتاج لضمان حصولهن على أرباح مجزية .. أما الغريب أن بعض هذه الجمعيات قد إنحرفت عن الهدف الرئيسى الذى أقيمت من أجله وهو تسويق المنتجات النوبية وتقديمها للعالم كتراث يجب الحفاظ عليه الى جهة لتحقيق الارباح وبالتالى تقوم بعض هذه الجمعيات بتنفيذ قطع من السلال والحلى والطواقى التى لا تمت للحضاره النوبية بأى صلة مثل تنفيذ سلة من الخوص من أندونيسيا وجنوب غرب آسيا ومحفظة من الخوص الرقيق للسيدات لم أر لها مثيل فى التاريخ النوبى ، كما تُعد (طاقية) قبعة «بوب مارلي» من الصوف الملون والتى انتشر بيعها فى بازارات النوبة خير مثال على الانحراف عن التراث النوبى - فما هى علاقة بوب مارلى المغنى الامريكى الاسمر بالنوبة ؟.

« نصر النوبة» وحكايات التهجير

أما المكان الثالث الذى استقبل المهاجرين النوبيين فهو «نصر النوبة» أو النوبة الجديدة فى كوم أمبو على مسافة ساعة ونصف من أسوان وهى التى استقبلت أكثر من 55 الفا من النوبيين الذين تم تهجيرهم اثناء بناء السد العالى عام 1963، وقد استمرت عمليات نقل النوبيين لمدة تقترب من 6 أشهر كما يقول اللواء ماهر الجيار الذى كان وقتها ضابطاً صغيراً فى بندر أسوان فقد صدرت التعليمات أن يتم نقل النوبيين وتهجير قرى النوبة كلها قبل إغلاق جسم السد ، وفى تلك الأثناء تم بناء منازل لاستقبال النازحين فى مركز نصر أو النوبة الجديدة وتم إعداد جداول التسكين فى القرى الجديدة التى حملت نفس أسماء القرى النوبية التى غرقت ، وقد تم تكليف العقيد صالح مرسى وكان نوبياً بتنفيذ هذا العمل ومعه مجموعة من الضباط الصغار ، فتوجه الى القرى التى تم إخلاؤها وكان يطلب من أهلها الاستعداد للرحيل وحزم امتعتهم وكانت القوة التى ترافقه تساعد الأهالى فى فك أسرتهم وحمل مقتنياتهم التى تم نقلها على ظهر ( براطيم ) صنادل بحرية كبيرة ، فكان النوبى يرحل حاملاً أمتعته وأسرته وماشيته ودواجنه حتى يصل الى ميناء الشلال حيث كانت تنتظرهم عربات نقل كبيرة تحملهم الى قراهم ليتم تسكينهم ويحصل كل واحد منهم على صك ملكية البيت ومبلغ صغير ليعينه على الحياة فى المكان الجديد … ويؤكد اللواء الجيار أن النوبيين كانوا سعداء فى هذا الوقت بنقلهم ولم تحدث منهم أى مشاكل لإيمانهم بأهمية المشروع الذى يضحون من أجله ، ولكن اللافت للنظر أن البيوت التى أقاموا بها كانت مبنية بالأسمنت وعلى الطراز الحديث مما حدا بالبعض منهم محاولة تغيير الشكل ليقارب الشكل النوبى من حيث القباب والفناء الفسيح ، ولكن المؤكد أن الحكايات عن النوبة والتهجير تكثر فى ليالى الشتاء بنصر النوبة حيث يتحلق الرجال حول الشاى على الفحم ليستمعوا للغناء على الطريقة النوبية ويسعدون بالرقص والتمايل على الأنغام الجميلة وهم يتذكرون ويحكون القصص عن النوبة القديمة وحكايات صيد التماسيح ومغزى الرسومات الملونة على البيوت والفارق بين طعم البلح الابريمى والسكوتى ، أما النساء فيجلسن فى صحن المنزل يشربن الكركديه باللبن ويحكين عن الأعراس النوبية زمان التى كانت تستمر لأكثر من ثلاثة اسابيع ترتدى خلالها العروس كل مصاغها وتذهب لدعوة صديقاتها للعرس وينزل العريس للاستحمام فى النيل مع أصدقائه وتتناول القرية كلها الطعام فى وقت واحد ومن نوع واحد .
باختصار كانت النوبة مليئة بالحكايات والحواديت وأصبحت الآن أقرب للحداثة بمبانيها ذات المواد الحديثة وأسلاك الكهرباء وأبراج الضغط العالى التى تملأ المكان وتفسد المشهد الملون الجميل ، وأصبح من الطبيعى بعد أن تتمتع بمشاهدة البيوت البسيطة ذات القباب الجميلة واللوحات الملونة التى تعكس مشاهد من الحياة اليومية وتسمع خرير مياه نهر النيل وهى تنساب بين الصخور الجرانيتية الصلبة أن تصطدم عيناك بطبق أو هوائى للأقمار الصناعية يعلو سطح البيت المسقوف بالخوص والبوص ليصيبك بصدمة حضارية ويعيدك الى القرن الذى جئت منه مما يفسد عليك متعتك ورومانسية الأوقات التى قضيتها فى أحضان الطبيعة البكر ، ولكنها كما قال بعض النوبيين «سُنة الحياة » ولا يمكن أن نتأخر عن ركب الحداثة والتطور الطبيعى للبشرية …
ونصيحة للجميع إذا أردنا أن نحافظ على النوبة فلابد أن نحافظ على ابتسامة الرجل النوبى البسيط و ابتسامة الأطفال الصغار الذين ما أن يشاهدوا الغرباء حتى يبدأوا فى الحديث بلغتهم النوبية ذات الرنة الموسيقية الأخاذة للفت الانتباه وهم يتابعون ملامح وجوه السياح وإندهاشتهم فيضحكون بملء الشفاة فتظهر أسنانهم البيضاء الجميلة .
للحفاظ على النوبة يجب أن نعتنى بالقباب البيضاء المميزة لبيوتهم ويجب أن نحترم عاداتهم فهم وإن طال الزمان لا يغلقون بيوتهم بالمزاليج الضخمة الملونة التى وضعوها على أبوابهم للزينة ، فأبوابهم دائماً مفتوحة فى وجه الجميع ونساؤهم ذوات حياء حتى وإن إرتقوا فى التعليم وما أن ترفع الكاميرا فى وضع الإستعداد للتصوير حتى تسارع المرأة النوبية بوضع البرقع على وجهها أو تطلب منك عدم التصوير أو حتى تختفى فى إحدى الغرف .. فحياء النساء فى النوبة عمره آلاف السنين .
للحفاظ على النوبة يا سادة لابد أن نعتنى بتوفير أبسط مستلزمات الحياة لهم ونوفر للنوبى العناصر والمواد الطبيعية اللازمة لبناء منزله دون الإخلال بالبيئة وبالطبع لابد من إدخاله فى منظومة التقدم والحداثة بدون التغول على الطبيعة (فمن الممكن إعداد قرى خاصة بهم تستخدم عناصر الطبيعية وتواكب العصر فى نفس الوقت بدون صدمات حضارية ، مثل أن يتم إبعاد أبراج الكهرباء عن الحيز العمرانى لهم ومد أسلاك التليفزيون بشكل مستتر حتى لا يفسد المشهد الجمالى ومد خطوط المياه الحلوة والصرف الصحى بشكل أنيق) أو تحويل قراهم الى محميات طبيعية بشكل يليق بحضارتهم وتاريخهم .
فهل ينتبه أحد للنوبة قبل أن تندثر وتذوب فى بوتقة الحداثة ، فنصحو فى يوم ولا نجد البيوت الملونة الجميلة البسيطة الا وقد تحولت الى مزارات مصطنعة للسياح تقدم تراثاً لا علاقة له بالماضى .. إنتبهوا قبل أن تبتعلنا قبعة بوب مارلى .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.