لا تكفي مفردات قاموس الشجب والاستنكار علي كثرتها لإدانة الاعتداء الإرهابي الذي وقع مؤخرا في سيناء وضد الكتيبة101, كما لا تكفي مفردات قاموس العزاء والمواساة والتعاطف للتعبير عن مشاعر المصريين إزاء أسر الشهداء وأسر المصابين والقوات المسلحة والشرطة, ذلك أن الحادث يتجاوز بكثير سقف الخطاب التقليدي إن في الإدانة وإن في المواساة. وكما أن هذا الحادث الإرهابي يمثل نقلة نوعية وخطيرة في مسار وتطور العمليات الإرهابية إعدادا وعدة وعتادا وتخطيطا وتدبيرا فإن مواجهة تداعياته تتطلب نقلة كيفية في التصدي للإرهاب علي كافة الصعد الأمنية والثقافية والتعليمية والفكرية والسياسية ولن يتأتي ذلك إلا عبر استكشاف أهداف ودلالات هذا الحادث ووضع خطة تجمع بين المدي القصير والمتوسط والطويل لمواجهة الإرهاب. استهدف الحادث الإرهابي الجيش المصري باعتباره العامود الفقري للدولة المصرية والقلب الصلب لها, ورسالته إلي المصريين تتمثل في فك ذلك الارتباط بين المواطنين وبين المؤسسة العسكرية وإرباك الثقة المتبادلة بينهما لأن ذلك الارتباط والتلاحم كانا ولايزالان حجر الزاوية في التصدي للفاشية الدينية والإرهاب والعنف والمتاجرة بالدين, إضعاف الدولة المصرية هو الهدف الأول للإرهاب, حيث استعادت الدولة بعض العافية وتمكنت من استئناف الحضور في المشهد الدولي والإقليمي وتعد العدة لعقد المؤتمر الاقتصادي في مارس المقبل تمهيدا لجذب الاستثمارات العربية والأجنبية واستعادة الثقة الدولية في الاقتصاد المصري. هذه الحياة التي تدب في الدولة المصرية وأوصالها وأجهزتها تعني في قراءة الجماعات الإرهابية ومن يمولها ويساعدها أن الطريق لعودة الإخوان إلي الحكم أصبح مقطوعا وأن الدولة والمجتمع يصممان علي السير في اتجاه بناء الدولة ومؤسساتها ووأد الفتنة في المجتمع, وبناء علي هذه القراءة فإن العمليات الإرهابية وتطورها النوعي استهدفت زعزعة الثقة في الدولة وتصدير اليأس للمواطنين من الوصول إلي الأمن والأمان. تختلف الموجات الإرهابية الحالية عن سابقاتها من أكثر من زاوية, حيث كانت الموجات الأولي محصورة في بعض الجماعات الإسلامية ولم تكن تحظي بدعم إقليمي ودولي كما هو الحال بالنسبة لموجات الإرهاب الحالية والتي تميزت بالإضافة إلي ذلك بصعود الإخوان إلي الحكم وبقاؤهم لمدة عام خبروا فيها دهاليز الحكم والدولة واضطلعوا علي الأسرار الأمنية وغيرها من الملفات. وبرغم خبرة مصر الدولة والمجتمع في مكافحة الإرهاب وسبقها في هذا المجال فإن اللحظة الراهنة وبعد هذه العملية الإرهابية الخطيرة في سيناء بحاجة لخطة مزدوجة علي جبهتين, الجبهة الأولي محاربة الجيل الحالي من الإرهابيين في سيناء وفي الداخل أما الجبهة الثانية فتتمثل في وقف صناعة أجيال جديدة من الإرهابيين وتجفيف المنابع التي تغذي الإرهاب بدماء جديدة من الشباب. وكل من هذه الجبهات يفترض مهمات نوعية وفنية مدروسة تشارك فيها العديد من المؤسسات المختلفة الحكومية والشعبية والمدنية السياسية والثقافية والمهنية, فالجبهة الأولي أي محاربة الجيل الحالي من الإرهابيين الذين يرفعون السلاح في وجه الدولة وأجهزتها عبر العمليات الإرهابية الإجرامية يقتضي اليقظة والحذر والحيطة والاستخدام الشرعي للقوة باعتبار أن الدولة- أية دولة- ليس فحسب الدولة المصرية ينبغي أن تحتكر استخدام العنف المشروع نيابة عن المجتمع, وذلك يقتضي تدعيم تسليح القوات وتعزيز مصادر وأجهزة المعلومات وإعداد وتدريب القوات المؤهلة لهذا النوع من المواجهات في المدي المنظور والطويل ودراسة العمليات الإرهابية ونوعية الإرهابيين والتدريبات التي تلقوها وخطوط تزويدهم وإمدادهم بالمال والسلاح والدعم الفني ووضع خطط لتعويق هذه الإمدادات ووضعها تحت أعين الأمن بهدف مصادرتها والحؤول دون أن تقع في قبضة الجماعات الإرهابية. أما الجبهة الثانية والتي تبدو مهمة في المدي المتوسط والطويل بل لا تقل أهمية عن الجبهة الأولي فتتمثل في وقف صناعة وإنتاج أجيال جديدة من الإرهابيين وتوقف تغذية الإرهاب بدماء جديدة, ولا شك أن المواجهة علي هذه الجبهة لا تخص الأمن والقوات المسلحة بل تخص المجتمع ومؤسساته المختلفة الدينية والتعليمية والثقافية والفكرية, في فرنسا وعقب العمليات الإرهابية في باريس, ما أن هدأت العاصفة حتي بدأ النقاش حول هذه القضية أي الخلفية الاجتماعية والتعليمية التي تغذي الإرهاب, رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والحكومة اتخذت العديد من الإجراءات التي تتعلق بالمدرسة والتعليم وتدعيم القيم المشتركة بين المواطنين وتعليم العيش معا وإعداد المعلمين وتأهيلهم للحوار مع الطلبة والوصول بهذا الحوار إلي نتائج وتوافقات حول القيم الأساسية للعيش المشترك في إطار المجتمع التعددي في الثقافات والأعراق. بالإضافة إلي ذلك تركز النقاش علي استنكار الفصل في التعليم والسكن والضواحي والتهميش والإقصاء وضرورة دمج الأعراق المختلفة المكونة لفرنسا في التعليم وغيره من المؤسسات. في حالة مصر فإن الضرورة تقتضي إعادة نظر جذرية في مناهج التعليم بحيث تتركز حول المواطنة وحقوق الإنسان والتسامح وقبول الاختلاف وتشكيل العقل النقدي لدي الطلاب بدلا من التلقين والحفظ وتنمية القدرات علي الفهم والاستيعاب, وضرورة الإعداد للمعلم الجديد الذي يتحاور مع الطلاب وينمي ملكاتهم النقدية والعقلية, وإعادة نظر جذرية في مناهجه وتطوير هذه المناهج لتتلاءم مع سوق العمل المتغير والذي أصبح يتطلب مهارات مختلفة عما سبق. إن المواجهة للإرهاب في الجبهة الثانية ينبغي أن تكون شاملة لأنها تشمل كافة مؤسسات المجتمع وتشارك فيها كافة القوي السياسية والمدنية لأن الإرهاب نتيجة تراكم أخطاء وسياسات سابقة عبر فترة طويلة من الزمن وليس هناك حل سحري للإرهاب بين يوم وليلة والوقت ليس متأخرا للقيام بهذه المهمات بشرط أن تبدأ الآن ويتطابق الخطاب مع الأعمال والأفعال وأن نثق دائما أن النصر حليف لمصر ولشعبها. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد