«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصبى ذو الأدراج الخشبية
نشر في الأهرام اليومي يوم 06 - 02 - 2015

الصبى غريب عن القرية، وكان مشغولاً بِعَدّ النجوم عندما دهمته عربة يجرّها صفان من حيوانات خرافية، ومرت عليه عجلاتها الحجرية، تناثرت محتويات الصبى، لكنه ظل متشبثًا بروحه، وظلت متشبثة به، تجمّع المارة حوله بسرعة، لملموا محتوياته، رفعوه عن الأرض وتلفتوا حولهم بحثًا عن مساعدة، فوجدوا أنفسهم يدخلون به من باب صغير مفتوح، ويضعونه على سطح طاولة خشبية، وعندما تطلّعوا حولهم إلى المكان، نظروا لبعضهم بعضًا بعتاب ويأس، ولأن الصبى لم يكن لديه وقت كى ينقلوه إلى مكان مناسب وشخص يمكنه أن يساعد، فقد التفتوا إلى النجار العجوز صاحب المكان، الذى يقف وسط قطع خشب جديدة، وبيده منشار لامع، كان ينظر للصبى بهدوء، وبدا لهم كشخص يفكر فى شىء يفعله، أو أنه بالفعل يعرف ما يجب عليه فِعله.
اقترب النجار من الصبى المتشبث بروحه، بينما محتوياته بجواره، مختلطة ببعضها بعضًا، بحيث لا يمكن فصلها أو إعادتها إليه، فقط، كان القلب طافيًا فوقها بمفرده، ينبض بإصرار، نظر النجار فى عينى الصبى، مسح نقطة دم من خدّه، أزاح محتوياته قليلاً، وبدأ فى تجهيز درج خشبى صغير، ملأه بنشارة خشب ناعمة، ثم التقط القلب وغرسه بلطف فى وسطها، وثبّت الدرج فى صدر الصبى، وطلب من امرأة مذهولة تقف بجواره أن تمسك به حتى يُجهز غيره.
عند الدرج الخامس لم يكن النجار بحاجة إلى المرأة، فقد صارت الأدراج تتمعشق مع بعضها البعض دون تدخل من أحد، حتى امتلأت منطقة صدر الصبى وبطنه بمجموعة من الأدراج الصغيرة.
أدرك العجوز مبكرًا أن عمله سينجح عندما ثبّت درج القلب للصبى، ولمح فى عينيه رجفة حيّة، وكان كلما ثبّتَ درجًا جديدًا طَرَقَه بإصبعه طرقة واحدة، فيشهق الصبى شهقة صغيرة، وتنتبه الحياة فى عينيه، لذا، عندما انتهى من صدره وبطنه قَلَبَه على وجهه، وثبّت بطول ظهره أدراجًا أخرى، استغرق فى ذلك الليل كله، وعندما انتهى، التفت إليهم لأول مرة منذ أن وضعوا الصبى على الطاولة، فرآهم مكوّمين على أرض دكانه الصغير، كانوا ينظرون إليه وهم فى حالة بين النوم والوهم، فلا يعرف إن كانوا يقاومون النوم أم يحاولون تصديق ما يرونه، وحدها المرأة التى ساعدته فى تثبيت درج القلب كانت تقف بجواره، وتتنقل بعينيها بينه وبين الصبى الذى امتلأ بالأدراج.
بدأ النجار يطرق أدراج الصبى برفق ويترقب استجابته، فرأى جفونه ترتعش بالحياة مع كل طرقة، عندها ابتسم أخيرًا وتنهد بارتياح، فعرفت المرأة أنه أنهى عمله، وأحضرت من ركن الدكان مكعبًا خشبيًا قرّبته منه، فجلس ووضع ذراعيه على الطاولة، وأسند إليهما رأسه لينام، بينما عادت المرأة للركن، جلست هناك، عيناها على الصبى، وروحها تغطى كتفى النجار.
استيقظ العجوز باكرًا، كانوا ما يزالون على حالتهم بين النوم والوهم، أخرج ألوانه وفرشاته الصغيرة، وبدأ يلوّن أدراج الصبى النائم، بينما تقف المرأة بجواره، وتتمنى أن يعطيها الفرشاة لترسم ولو خطًا واحدًا، إلا أنه لم يفعل، وأنهى تلوين الأدراج وحده، لكنها كانت سعيدة عندما مَدّ لها يده بالفرشاة والألوان، دون حتى أن ينظر إليها، لتعيدهما إلى مكانيهما.
العجوز، كان يتمنى ألا ينتبه أحدهم قبل أن يستيقظ الصبى من نومه، حتى يرى عينيه قبلهم، ويرى أول إحساس يظهر فيهما، لكنه سمح للمرأة أن تقف بجواره تنتظر، ولم تمض سوى دقائق قليلة حتى فتح الصبى عينيه مباشرة فى عينى النجار، الذى دقّ قلبه بعنف، حتى كادت دقة قلبه أن تطيح به خارج دكانه، لكنه تمالك نفسه فى النهاية وابتسم للصبى، تحسس درج القلب لديه، بينما كانت المرأة تلامس بقية الأدراج بأطراف أصابعها، حتى انتبهت على ضحكة صغيرة من الصبى، فبدأت تلامس وجهه، وتبتسم لعينيه.
نهض الصبى، غادر الطاولة، تطلّع إلى أدراجه، وبدا فَرِحًا بألوانها كأنها ملابس جديدة حصل عليها، كان طبيعيًا كما لو أنه يعيش بها طوال عمره، حتى إنه اندهش من كل هذه العيون التى تملأ الدكان وتنظر فيه بذهول، وعيون أخرى تتزاحم فى الشارع وتحاول الوصول إليه، تحرك بينهم ببساطة، بينما العجوز يُدقّق النظر فى ظهره، ليتأكد من السلم الخشبى المرن، الذى ثبّته هناك فى العمق مثل عمود فقرى، ولوّنه بالأبيض، كانت الأدراج محكمة، بلا مفاتيح، أو مقابض، وحده الصبى يستطيع فتحها، وليس عليه إلا أن يفكر فى الدرج الذى يريده فينفتح فورًا، عرف الصبى ذلك دون أن يخبره النجار العجوز.
كان الأمر مدهشًا للقرية، فالصبى يتحرك بسهولة، يلعب مع أقرانه بمهارة، يجرى، يسبح، ويتسلق الأشجار، لم يفقد أىّ شىء، وكلما حاول الصبية فتح أحد أدراجه لم يكن يمنعهم، ويتركهم يجرّبون، حتى تأكدوا بعد وقت قصير أن هذا غير ممكن لهم، فقط، لم يعد بإمكان الصبى أن يتقدم فى العمر، كما أنه منذ حصل على الأدراج لم يعد يغادر القرية، هو الغريب عنها صار كأنه قطعة منها تتحرك داخلها، وكان من الممتع للصبية أن يصحبهم عند حدود القرية، ويفتح لهم أدراجه، فيستمتعون أولاً بتلك الأدراج الكثيرة التى تنفتح وتنغلق دون أن يلمسها أحد، ثم بما يرونه داخلها من أعاجيب، أو عندما تكون خالية وممتدة أمامهم بمدى عيونهم.
بدأ الأمر عندما جاءه أحد الصبية ومعه شكل مصنوع من القش، يمكن رؤيته كنحلة أو وردة أو وحش صغير، وطلب منه أن يخبئه له فى أحد أدراجه، فخصص له واحدًا وضع فيه وحشه، أو نحلته، أو وردته، وكل الأشياء التى أراد أن يخبئها عن الآخرين فيما بعد، وكلما أراد رؤيتها، أو احتاج منها غرضًا ما، جاءه وطلب فتح الدرج الخاص به، وقد أعجبه هذا كثيرًا، فتحدث به لأصحابه، وصارت لهم أدراج خاصة، ثم تحدث الصبية لأمهاتهم، فصار لكل منهن درجًا تخبئ فيه أشياءها الغالية، كانت الواحدة منهن تختبر الصبى أولاً بأن تترك لديه نقودًا ضئيلة، أو أشياءً لا تهمها كثيرًا، ثم تعود بعد يومين وتطلب منه أن يفتح درجها، وعندما تجد أشياءها على حالها كما وضعتها بيدها، تأتى إليه بكل ما تخشى أن يضيع أو يُسرق أو يؤخذ رغمًا عنها، ثم لا يمر وقت طويل حتى يبدأ الرجال الاحتفاظ بأموالهم وأشيائهم الغالية لديه بعيدًا عن اللصوص، والأيدى غير المرغوب فيها، كانت أدراجه تتسع لكل شىء، حتى إنهم كانوا ينزعون أسرارهم من صدروهم ويخبئونها هناك، ودومًا كان لديه درج خالٍ.
لم يكن أىّ شىء ليملأ الصبى أو يُثقله، فما زال يتحرك بنفس خِفّته ومهارته، صار الجميع يراقبونه، ليس خوفًا من أن يهرب، ولكن خشية أن يفكر أحد ما فى تحطيم أدراجه والحصول على ما يخبئه الآخرون لديه، خاصة أن ذلك صار سرهم المعروف، فالجميع يعرف أن الجميع يخبئون فيه أشياءهم الغالية، لكن لا أحد يتحدث عن ذلك، وكلما سقط الصبى أثناء لعبه مع أقرانه، وجد على الفور يدًا كبيرة تساعده، فى النهاية، ورغم أىّ شىء، كان الصبى هو أكثر مكان يأمنون فيه على أغراضهم، وكلما ترك أحدهم شيئًا لديه، دفعه هذا إلى أن يترك المزيد.
كان الصبى يمر كل يوم بدكان العجوز، ويتوقف لحظة فى الشارع لينظر إليه وهو يعمل بالداخل، وعندما يشعر النجار بعينيه، يتوقف عن العمل ويلتفت إليه، يبتسم كلٌ منهما للآخر، ثم يمضى الصبى ولا زال بينهما سر لم يعرفه الكبار، فقد كان الصبى يصحب أقرانه إلى حدود القرية، ويُنزل لهم ثلاث درجات من ذلك السلم الممتد بطول ظهره كعمود فقرى، فيصعدونها ويدخلونه، وبينما يستعيد درجاته الثلاث، يصعد أصحابه سلمًا كبيرًا بداخله، يتفرع فى اتجاهات عديدة، ويدخل بهم متاهات وعوالم عجيبة، هناك، يهطل عليهم مطر، يلفّهم نهار وليل، تصادفهم كائنات وألعاب، عوالم تتداخل أو تتغير فجأة، أحيانًا كان صبية القرية كلهم يدخلون متاهات الصبى دفعة واحدة، فتخلوا منهم الشوارع والبيوت، ما يلفت انتباه الكبار، فيسألونهم، يراقبونهم، يتحدثون معهم، يهددونهم، أو يغرونهم، ومثلما عرف الرجال والنساء والشابات سر الأدراج، عرفوا سر السلم الخشبى، ولم يتحدثوا عنه، إنما يأتون للصبى فى الخفاء حسب اعتقاد كل منهم، ويطلبون منه أن يُدخلهم إلى عالمه العجيب، ولم يكن الصبى ينكر أىّ شىء لديه، فمجرد أن يطلب منه أحدهم شيئًا، فإنه يفعله ببساطة، لذا كان يبتسم فى كل مرة، ويُنزل تلك الدرجات الثلاث ليدخلوا إلى متاهاته وعوالمه، كان البعض منهم يريد أن يرى ما يخبئه الآخرون فى أدراج الصبى، والبعض الآخر يريد أن يسرق شيئًا منها، إلا أن أحدًا لم يستطع، هناك، كانت عوالم سحرية ومتاهات، تستحوذ على أفكار كل من يدخل، فينسى رغبته فى رؤية ما يخبئه الآخرون أو سرقته، وتلتهمه المتعة بكامله، لم يكن أحدهم ليصادف الآخر، كلٌ فى عالمه رغم تتداخله مع عوالم أخرى، وأدراج صغيرة ملوّنة تتحرك طوال الوقت، وتحجبهم عن بعضهم بعضًا، أحيانًا كان الصبى يُخرجهم فجأة من متاهاته، عندما يَنزل أحدهم درجات سلم هناك، أو يفتح بابًا يعتقد أنه يؤدى إلى مكان ما، فيجد نفسه فى أحد شوارع القرية أو داخل بيته، لم يكن هذا يغضبهم، كانوا يعتبرونه إحدى ألعاب المتاهة، ومزاج العوالم السحرية.
رغم كل الأمان الذى تقبع فيه أشيائهم داخل أدراج الصبى، والمتعة التى يحصلون عليها عندما يدخلون عوالمه، كان هناك ذلك القلق الذى يتململ فى نقطة بعيدة داخلهم، وينفجر فيهم للحظة متحولاً إلى عين مخيفة تشتعل فى الظلام، فينهض أحدهم مفزوعًا، وهو يفكر بأنه ليس الوحيد الذى يدخل عوالم الصبى، وربما تَوصّل أحد ما إلى طريقة يستطيع بها الوصول إلى الأدراج الأخرى، كانوا يفكرون فى كل الاحتمالات عدا هروب الصبى، يستبعدون ذلك، لكنهم يتساءلون فى الوقت نفسه: كيف يظل خفيفًا، بنفس الحجم، والوزن، رغم كل ما يتركونه لديه؟! هل لاحظوا أيضًا أنه لا يتقدم فى العمر؟ يتعجبون من أنهم لا يرون شيئًا من أغراضهم وقتما يتجولون داخله، كيف يفعل ذلك، وأين تكون أغراضهم؟ إلا أن كلاً منهم كان ينسى أسئلته تلك عندما يذهب إلى الصبى، ويطلب منه أن يريه أغراضه، فينفتح له درج يحويها جميعًا، وهى على حالها مثلما رآها آخر مرة، هل يُربكهم ذلك بزيادة أم يطمئنهم؟ لم يتوقفوا عن الثقة به، ولم يتوقف قلقهم عن الرعشة بداخلهم.
كان خوفهم يزداد يومًا بعد يوم، يرقبون الصبى عن بُعد فى الشوارع كأنما يحرسونه، يقطعون كلامهم، نومهم، وطعامهم، ليطمئنوا عليه، وعدا النجار العجوز والمرأة التى ساعدته فى تثبيت درج القلب، كانت القرية كلها قد استعملت أدراجه، خبأوا فيها كنوزهم وأسرارهم، تركوا لديه كل ما يعتبرونه غاليًا أو مهمًا، وما يخشون عليه التلف أو الضياع أو السرقة، حتى إنهم كانوا يحتفظون عنده ببعض ملابسهم، آنيتهم، وأغراض أخرى شخصية للغاية، ما جعل قلقهم يضرب مساحات كبيرة بداخلهم، حتى فقدوا القدرة على النوم، وصاروا يفكرون طوال الوقت أن كل ما يحبونه ويخافون عليه موجود هناك فى أدراج الصبى، وقد لاحظوا أخيرًا أنه لا يتقدم فى العمر، وأن العديد من الأجيال صاحبته فى مرحلة من عمرهم، ثم تقدموا فى هذا العمر، وتركوه خلفهم صبيًا، أو أنه من تركهم يشيخون وحدهم.
حتى كانت ليلة، فكر فيها رجل واحد أن يسترد أشياءه من الصبى، وعندما خرج يبحث عنه، وجد القرية كلها فى الشوارع، كانوا يصادفون بعضهم بعضًا، فيتجاهل كلٌ منهم الآخر، بينما النجار العجوز يقف فى فتحة دكانه الصغير يراقبهم، وحزن عميق يلمع فى عينيه، وأمام البيت الملاصق له، تقف المرأة التى ساعدته فى تثبيت درج القلب، والحزن نفسه فى عينيها.
لم يبحث أهل القرية كثيرًا عن الصبى، وجدوه يمشى بوسط شارع يمر بمنتصف القرية، كان ينظر للسماء ويعدّ النجوم بصوت مسموع، فلم ينتبه عندما هتف أحدهم بتلقائية وهو يشير إليه: «الصبى»، عندها ظهروا جميعًا فجأة، واندفعوا إليه، حتى صاروا على بعد خطوات منه، فانتبه إليهم، فَزِعَ من عيونهم الكثيرة، وكلٌ منهم يريد الوصول إلى أدراجه قبل الآخرين، اضطرب الصبى بشدة، وتخشّبَ جسده خوفًا، لم يطلبوا منه فتح أدراجه، أخرجوا فئوسًا وسكاكين كبيرة كانوا يخبئونها تحت ملابسهم، واندفعوا يضربونها، وبدأ بعضهم يشعل فيها النيران، بينما يتراجع الصبى المرتبك غير قادر على فتح أىّ درج، فتزداد نيرانهم وضربات فئوسهم، ثم ظهر الصبية أصحابه من كل اتجاه، وهم يلقون بالتراب على النيران، يدفعون عنه الفئوس والسكاكين قدر استطاعتهم، إلا أن الكبار وقد التهمهم الجنون، كانوا يبعثرونهم بعيدًا بضربات قوية، وفى محاولة أخيرة منه، جرّب الصبى أن يفتح أدراجه كلها دفعة واحدة، إلا أن فزعه الذى منعه ذلك، هو نفسه الذى ساعده أخيرًا أن يجرى باتجاه حدود القرية، فانطلقوا يطاردونه، والصبية يلاحقونهم ويحاولون إعاقتهم.
تجاوز الصبى حدود القرية، بمجرد أن تجاوز الكبار هذا الحد توقفوا فجأة، تلفتوا حولهم، وقد وجد كلٌ منهم نفسه داخل متاهات الصبى وعوالمه، كانت معهم فئوسهم، سكاكينهم، ونيرانهم، تطلعوا إلى العالم هناك، فأحسوا بخجل طفولى، ألقوا الفئوس، السكاكين، والنيران، تنقلوا بين عوالمه ومتاهاته الجميلة، التهمتهم المتعة من جديد، ثم بعد كثير من الوقت، وجد كلٌ منهم نفسه، ودون قصد منه، يقف على حدود القرية، تلفتوا حولهم، وإلى بعضهم بعضًا، أدركوا أن الصبى هو من وضعهم هنا، راجعوا أجسادهم ليتأكدوا أنهم بخير، ثم دخلوا القرية، وهناك، يصادفون أشياءهم التى خبأوها لدى الصبى مبعثرة فى الشوارع، فلا يهتمون بها، أو يلتقطونها بلا رغبة حقيقية، ثم يتركونها بعد عدة خطوات، وقد أدرك كلٌ منهم أن أهم وأجمل شىء لا يزال موجودًا لدى الصبى.
بعيدًا عن القرية، أو قريبًا منها، جلس الصبى دون حقد أو كره، وفتح دُرجًا يخصه، أخرج منه فرشاة، ألوانًا، قِطَعًا خشبية، وأدوات صغيرة، بدأ يُصلح أدراجه المصابة، ويجهز أخرى جديدة، ثم لوّنها جميعًا، كان يفعل ذلك بسهولة كأنما فعله مئات المرات، بينما ينظر إلى السماء ويَعُدّ النجوم بصوت مسموع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.