تمر مصر بمنعطف خطير يهدد مستقبلها الحضارى والسياسى والاقتصادى نظرا للإنهيار المستمر فى منظومة التعليم.. وعبر رحلة طويلة غاص خلالها فى أعماق العملية التعليمية أدرك الدكتور دويدار البسيونى رئيس جامعة قناة السويس وأمين عام الجامعات العربية الأسبق أنه لإيقاف تدهور العملية التعليمية فى مصر وإصلاحها بدءا من المدرسة وحتى الجامعة، علينا أن نلقى نظرة متعمقة على تاريخ التعليم فى مصر لنعرف إيجابياته وسلبياته حتى نستطيع أن نضع تصورا للحلول على أساس متين مستفيدين من تجارب الماضى ليرشدنا إلى سلبيات الحاضر، فعكف على إعداد دراسة تاريخية ونقدية للعملية التعليمية بدءا من مصر القديمة وحتى عصرنا هذا، فمصر ليست دولة مستحدثة نشأت بقرارات دولية، ولكنها دولة لها جذورها الضاربة فى أعماق التاريخ، ولذلك يجب ونحن نبحث عن وسائل إصلاح التعليم أن ندرس ماضينا التعليمى قبل أن ندرس تجارب العالم المتقدم الذى أقام حضارته على أسس من حضارتنا الفرعونية والقبطية والإسلامية، وعلينا ونحن ننقل عن الآخرين أن نتبع أسلوب النحل لا أسلوب النمل كما قال أستاذنا العظيم زكى نجيب محمود، فالنمل يجمع غذاءه ويخزنه لوقت الحاجة لكى يستفيد منه دون أى تغيير أو إضافة، وهو يشير لأسلوب النقل دون إعمال العقل، أما النحل فتأخذ الرحيق وتخزنه ليخرج عسل شافيا، وهو يشير إلى إعمال العقل فى كل ما تأخذه عن الغرب.. الدراسة مطولة وعميقة ولكنى سأحاول تسليط الضوء على بعض جوانبها، خاصة التى تتعلق بالتعليم ما قبل الجامعى، ولكى نضع أيدينا على الحالة التى وصل إليها، فقد أشار تقرير صادر من وزارة التربية والتعليم فى الفترة الحالية إلى أن نسبة التلاميذ المسجلين فى التعليم الإعدادى الذين يجهلون القراءة والكتابة تزيد على 20%، كما أشار وزير التعليم الحالى إلى وجود نسبة ربما تكون مماثلة أو أقل قليلا فى التعليم الثانوى أيضا.. فما هى الحال التى كان عليها التعليم فى مصر فى السابق إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه الآن؟! { يقر العالم أجمع أن مصر الفرعونية أنشأت حضارة عريقة تتميز بأصالتها، وأنها لم تكن امتدادا لحضارة سابقة بل هى أصل الحضارات فى العالم ومنبع المعرفة والتحضر، وكلنا نعلم أن الحضارة نتاج فكر وجهد العلماء المبدعين الذين هم نتاج المنظومة التعليمية. { لا يمكن أن نجد منظومة تعليمية ذات مخرجات تعليمية راقية فى مجتمع ضاعت فيه القيم وانعدمت فيه رغبة أبنائه فى المعرفة والتعلم وارتضى أن يشترى لأبنائه شهادات سواء بالغش أو التزوير كالذى نراه فى منظومتنا التعليمية الحديثة، لذا علينا أن نعى كما وعى أجدادنا الفراعنة أن التعليم الجيد هو إرادة مجتمع يسعى إلى المعرفة ويريد أن يتقدم. { وأما عن حال التعليم فى العصر الإسلامى، فإن علماء الأزهر رغم تمسكهم بقيم وتقاليد الأزهر، فإن التعليم فيه كان دائم التطور حتى ينافس أنظمة التعلم الحديث، وكان ذلك على أيدى علماء عظام أمثال الشيخ محمد عبده وتلميذه الشيخ المراغى الذى نقل الأزهر من حالة الاضطراب الثقافى إلى الاستقرار النهائى، حيث بدأت البعثات تتوالى عليه من أرجاء العالم، وكان الأزهر فى ذلك الوقت يضم ثلاث كليات هى: الشريعة، واللغة العربية، وأصول الدين. { فى عام 1691 صدر قانون أحدث هزة خطيرة فى الأزهر، حيث فرض عليه كليات مدنية علمية كالطب والهندسة والزراعة، على الرغم من أن خطة التنمية فى مصر لم تكن فى حاجة إلى آلاف الخريجين من هذه الكليات الذين أصبحوا عبئا على ميزانية الدولة، كما أصبحوا رقما فى طابور العاطلين المؤهلين، وتقترح الدراسة فصل هذه الكليات عن الأزهر، وأن تكون جامعته جامعة أهلية وقدوة للجامعات الخاصة التى ابتعدت عن القيم والتقاليد الجامعية الحقيقية، والتى تحول معظمها إلى وسيلة للكسب المادى باستغلال المشتاقين لحمل رخصة خريج جامعة. { نجاح المنظومة التعليمية فى عهد محمد على يرجع بالدرجة الأولى إلى إمكانات وقدرات الحاكم «المستبد العادل» كما وصفه الكثير من المؤرخين يعاونه شعب حضارى بحكم الفطرة والتاريخ. { ابتليت مصر بالاحتلال البريطانى فى عام 2881 ليقضى على المجهودات التى كانت تبذل لجعل التعليم قوميا، وحفلت هذه الفترة بتدخلات الإنجليز لتحويله عن مساره القومى، فضعف مستوى التعليم وهجره المصريون واتجهوا إلى المدارس الأجنبية. { كانت أول محاولة لتوحيد مسار التعليم الابتدائى والأولى تلك التى قام بها دكتور نجيب الهلالى عندما كان وزيرا للمعارف 2491، وكان توجهه هو أن يحول المدارس الأولية المنتشرة فى القرى والمدن إلى مدارس ابتدائية، ولكن الصعوبة التى واجهته هى أن الوزارة لم يكن لديها عدد كاف من المدرسين المؤهلين علميا وتربويا. { بعد قيام ثورة 32 يوليو 2591، وتغيير النظام السياسى فى مصر، ووصول حكام جدد يسعون لتكوين قاعدة جماهيرية.. وجدوا فى مشروع قومية التعليم فرصة ثمينة لاكتساب شعبية لدى الجماهير ولو على حساب نوعية التعليم، فصدر القانون 12 لسنة 3591 لتوحيد مسار التعليم الابتدائى والأوّلى، على الرغم من عدم توافر مدرسين أكفاء لهذه المهمة، فاختاروا الأدنى (التعليم الأوّلى) وتركوا الأعلى (التعليم الابتدائى)، وبذلك ألغيت المدرسة الابتدائية التى كانت أساس المنظومة التعليمية لمصر لحوالى 021 سنة ورحل مدرسوها إلى المرحلتين الإعدادية والثانوية وأزيلت لافتة المدرسة الأوّلية وحلت محلها الابتدائية، التى بقيت أوّلية فى المضمون والمحتوى. { المؤسف أن أطفال مصر فى الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضى كان يعلمهم معلمون جامعيون مؤهلون تربويا، بينما يعلمهم فى الخمسينات والستينات معلمون هم خريجو مدرسة المعلمين الأوّلية الملغاة أو الثانوية الأزهرية أو من يعرفون القراءة والكتابة دون تأهيل تربوى. { كانت النتيجة الحتمية لهذا العبث فى أساس المنظومة التعليمية أن المنظومة برمتها قد انهارت، كما انتشرت الدروس الخصوصية بين تلاميذ الابتدائية الذين لم يكونوا يعرفونها من قبل، فتأصلت فى تكوينهم النفسى وبانتقالهم إلى المرحلتين الإعدادية والثانوية حملوا معهم فيروس الدروس الخصوصية التى تفشت فى المجتمع المدرسى بل وأصبحت مرضا اجتماعيا. { بدلا من أن تتحقق قومية التعليم بإيجاد مدرسة واحدة لكل أبناء الشعب كما طالب بها المفكرون الأوائل أمثال طه حسين والقبانى، هدمت المدرسة الابتدائية التى كانت تقدم تعليما حقيقيا لبعض أبناء الشعب وحلت محلها مدرسة ابتدائية لا تقدم أى تعليم. إن المجتمع تقع عليه المسئولية الكبرى فى النهوض بالتعليم من عثرته، ويجب عليه أفرادا وجماعات خاصة مثقفيه أن يعوا دورهم.. وعلينا كمجتمع أن نقوم بواجبنا.. وعلى الشعب أن يستيقظ وينتزع حقوقه من العابثين بها ويسلمها لمن يستطيع أن يتحمل الأمانة كما فعل مع مثقفيه فى النصف الأول من القرن العشرين، الذين بنوا له منظومة تعليمية رائدة ارتفعت بالشعب وجعلته فى المقدمة ليتولى تعليم وتثقيف كل عالمه العربى، بل وينقذهم من ظاهرة التغريب التى كادت أن تطيح بالهوية العربية، خاصة فى الشعوب العربية بالشمال الإفريقى، وكان للمدرسين المصريين دورهم العظيم فى ذلك.. فهل من الممكن أن تعود مصر إلى هذا الدور الرائد فى التعليم والمعرفة؟!. د. عماد إسماعيل