يواجه العالم العربى تحديات عديدة، وقضايا خطيرة، عليه التصدى لها فوريا، وبمنظور استراتيجى واع، حفاظا على أمن المنطقة واستقرارها، و تأمينا لمصالحه المعاصرة والمستقبلية، ولم يعد لديه رفاهية الانتظار، بل وليس من المبالغة القول إن العالم العربى على حافة الهاوية و أن وجوده فى خطر، كمجموعة تجمعها المصالح الاستراتيجية والهوية، تتفق حول القضايا المصيرية، بصرف النظر عما قد يكون بين أعضائه من تباين أو اختلاف فى الأولويات بين الحين و الآخر، أو حتى فى المصالح والرؤى حول بعض القضايا العينية. قد يعتقد البعض أن هذه الخلاصة فيها إفراط فى التشاؤم، أو تحمل مبالغات غير مبررة، فى حين انها فى الواقع أقل ما يمكن ان يُقال، فمن تابع الأحداث الدولية خلال العقود الثلاثة الماضية، سيجد أن العالم العربى اصبح اقل استقرارا، مهتزا فى قراراته، غير قادر على مواجهة التحديات الإقليمية و الدولية، ومن شواهد و اسباب ذلك، أن منطقتنا هى الأكثر تغيرا فى قياداتها بشكل مفاجئ، أى بقضاء الله، أو نتيجة لرفض شعبى جارف، من المغرب إلى المشرق العربي، ومن البحر المتوسط إلى الخليج العربي، بكل ما يحمله ذلك من تداعيات وتساؤلات حول المراحل الانتقالية المتجددة و الممتدة، مما يخلق مناخا عاما من عدم الاستقرار و غياب الأمن. كما يلاحظ أن العالم العربى هو أكثر المناطق الحاضنة أو الجاذبة للنزاعات و التوترات الإقليمية، من الصحراء الغربية إلى النزاع العربى الإسرائيلي، إلى قضايا المشرق و أمن الخليج العربى والبحر الأحمر، و هو أيضا أكثر الساحات الإقليمية دموية بين الحروب العربية الاسرائيلية وتحرير الكويت، واحداث العراق وليبيا وسوريا واليمن، والمصدر الرئيسى للفكر المتطرف التكفيرى والإرهابي، بكل ما يصحب ذلك من تداعيات دولية وإقليمية ووطنية، وإهدار للأرواح، و آخر ما شهدناه الإرهاب الدموى الخسيس فى سيناء. ومن الملفت كذلك، أن عالمنا العربى هو الأكثر استدعاءً لأطراف أجنبية للتعامل مع قضايا داخل ساحته الإقليمية، و يعتمد على الغير فى الحفاظ على مصالح استراتيجية وضمان الأمن القومى والأوضاع، فى الكويت، ومواجهة داعش، والأوضاع بليبيا، وسوريا، وعملية السلام الفاشلة بين فلسطين وإسرائيل، والبرنامجين النوويين الإيرانى و الإسرائيلي، والعلاقات الأمنية بين عدة دول عربية مع دول عظمى، و يعتمد عدد كبير من دول العالم العربى على الطاقة والغذاء والسلاح، بل وحتى المياه من خارج حدودها، و تجاوز الاستثمارات والتجارة العربية مع غير العرب كثيرا إجمالى الاستثمارات والتجارة فيما بين أقطارنا، مما يعرّض المنطقة لتدخلات الغير فى شئونها. هذا، و يغلب على التشكيل الديمغرافى للعالم العربى نسبة عالية من الشباب، وهناك تأثير كبير للرسائل والمعلومات عبر التكنولوجيا الإلكترونية، أو الفضائيات على المزاج العربى الحاضر والمستقبلي، فيجب أن نتيقن أن الاضطرابات وتيار التغير سيستمر فى العالم العربي، بكل ما يحمله ذلك من سلبيات وإيجابيات. إذا اردنا حقيقة، بناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة، وضمان حرية واستقلالية القرارات العربية، علينا تغيير المنهج العربى للتعامل مع واقعنا ومن القضايا المختلفة، والعمل على تحديد مستقبلنا بأنفسنا كلما امكن حماية لمصالحنا، و من خلال اتخاذ المبادرات العربية، و بالتصدى لمشاكلنا قبل استدعاء الغير، مما يساعد على كبح جماح المؤامرات والمخاطر التى تهدد مجتمعاتنا، من داخلنا أو من قبل الدول المحيطة بنا، أو نتيجة لمؤامرات خارجية. وهناك ثلاثة اهداف رئيسية يجب على العالم العربى التركيز عليها، وإعطاؤها الأولوية خلال المرحلة القادمة، اولها الحفاظ على الهوية العربية الوطنية، والتصدى لمحاولات البعض التشكيك فيها أو تفتيتها، لصالح هويات عرقية أو دينية أو مذهبية، وثانيهما تهيئة العالم العربى للانضمام إلى ركاب التنمية والتقدم، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وثالثهما إنشاء آليات وارساء تقاليد عربية لتعامل العالم العربى السياسى الاستباقى مع ازماتنا الاقليمية والحل السلمى للمنازعات بالطرق الدبلوماسية. وتلك الأهداف يمكن أن تشكل خطة عمل ثرية و دسمة للعالم العربي، خاصة عند تولى مصر رئاسة القمة فى مارس 2015. إن أولى الخطوات الجادة نحو حماية الهوية العربية هى أن تصارح كل دولة عربية مواطنيها بمشاكلها و تحدياتها قبل مخاطبة الشعوب العربية الأخرى، و محاورتهم حول المبادئ التى يجب أن تنظم دولنا داخليا، ثم عبر العالم العربى اقليميا، من أجل بناء مستقبل أفضل، مبادئ تقضى على مخاطر الاستقطاب الطائفي، و التطرف المذهبى الذى يهدد عالمنا العربي، مصحوبه بأفكار حول كيفية التوفيق بين التمسك بالهوية الوطنية العربية لدولنا و احترام شخصية الأقليات، و ثقافتها، و أصولها العرقية، مبادئ و أفكار تتصدى بحزم أمنى و عمق و حكمة فكرية للتطرف و العنف و الإرهاب، و ذلك كخطوة تمهيدية لإصدار الجامعة العربية لوثيقة أو إعلان للمواطنة العربية، تؤكد فيه الجامعة و أعضاؤها على احترام الدولة الوطنية ووحدة و سيادة أراضيها، و تتضمن مبادئ توافقية لحماية الشخصية الثقافية و الاجتماعية للأقليات فى سياق الدولة الوطنية، و الاتفاق على مراجعة هذه الوثيقة كل عشر سنوات، باعتبار أن التحول المجتمعى لا يتوقف و لا ينقطع. وبالتوازى مع هذا، على القمة العربية التصدى للفكر المتطرف التكفيري، و الذى يخلق بيئة خصبة للإرهاب، بوضع برنامج عمل و آليات لضمان وصول رسالة حضارية إلى مختلف فئات الشعب العربي. ليس من المبالغة القول إن العالم العربى فقد مصداقيته السياسية على المستوى الدولي، و أن عليه تطوير رسالته السياسية للعالم على اساس المبادئ التالية:- - أننا دول وطنية عصرية لا نفرق بين مواطنينا. - دول وشعوب ستواجه الإرهاب بكل حزم و قوة. - دول تحترم و تتمسك بالقانون الوطنى والدولى. - دول مستقلة تؤمّن لنفسها احتياجاتها بعلاقات متعددة مع مختلف دول العالم. - دول فاعلة و متفاعلة مع النظام الدولى و معنية بتطويره ليصبح أكثر عدالة و إنصافا . - دول حكيمة ورشيدة تحافظ على مصادر الطبيعة لعالمنا المعاصر، و لها مواقف ومبادرات المصادر الطبيعية من ضمنها حول الطاقة، و المياه، و المناخ. - دول إنسانية تحترم حقوق الأقليات، و المرأة، والشباب. - دول ذات سيادة لن تتأخر فى الدفاع عن النفس، أو ضمان أمنها القومى امنيا و فكريا، و فى الوقت نفسه دولة مؤمنة بالأمن الجماعى و الاقليمي، و حل النزاعات بالطرق السلمية, من خلال بناء العالم العربى مجتمعيا وسياسيا واقتصاديا،واجتماعيا، كجزء من العالم المعاصر فى القرن الواحد و العشرين، ويتطلب ذلك لم الشمل بين مواطنى دولنا، بعلاقة تعاقدية اجتماعية جديدة بين المواطنين وبين السلطة السياسية، و النخبة الاقتصادية، علاقة تبنى على المساواة بين المواطنين، و إعلاء الجميع الولاء للوطن على أى توجهات سياسية، أو انتماءات إيديولوجية أو حزبية أو عقائدية، كما يتطلب ذلك تعامل العالم العربى مع القضايا التنموية التى تقف امام الوفاق المجتمعى أو الانضمام إلى ركاب التحضر، على رأسها تفشى الفقر والامية بين مجتمعاتنا، فكيف ندّعى التحضر و نقبل أن تصل نسبة الفقر بيننا إلى ما يقرب من 40%، أو ندعى التقدم ويعيش بيننا فى العالم العربى أكثر من 52 مليون امىّ، دون توافر السكن الأدمي، أو الرعاية الصحية الأساسية لأعداد غفيرة من شعوبنا. إن على القمة العربية القادمة تبنى مشروع إقليمى للقضاء على الفقر و الأمية فى العالم العربي، وتوفير المسكن، والرعاية الصحية الأساسية لكل مواطنى العالم العربى قبل عام 2030، وهى اهداف ممكنة ودون ارهاق حقيقى. يجب على القمة تبنى أهداف طموحة لزيادة نسبة التجارة و الاستثمار بين الدول العربية، لمضاعفة التجارة و الاستثمار العربى - العربى قبل عام 2040. يغفل على عدد كبير من المتابعين للتطورات الدولية، ان الجامعة العربية، بيت العرب، هى أقدم المنظمات الاقليمية، إلا ان الممارسة العملية فيما بين العرب ولدت عدم ثقة فيما بين الاقطار العربية، و إنكماش الإرادة السياسية للمشاركة فى التفكير الاستراتيجي، أو لتحديد الآليات العربية للدبلوماسية الوقائية، ولحل النزاعات بالطرق السلمية، خارج جامعة الدول العربية او داخلها. لن يتم التعامل مع العناصر المختلفة لهذه المشكلة بين ليلة وضحاها، وإنما هى مشاكل هامة و من الضرورى التصدى لها بعجالة، إذا كنا بالفعل نريد أن نكون اصحاب قراراتنا، او نأمل فى تحصين أنفسنا من ممارسات الغير، على الدول العربية نفسها تحمل مسئولية اكبر فى القضايا الاقليمية و الشرق أوسطية. و من المتناقضات العربية الواضحة أننا نحمل المجتمع الدولى و أطرافا اجنبية مسئولية مشاكلنا الاقليمية من الصحراء الغربية، و ليبيا، و عملية السلام العربية الاسرائيلية، و سوريا، و الإرهاب، و الأمن الإقليمي، ثم نوكل، أو رضينا أن نوكل إليهم كراع رئيسى لحلها فى تناقض غريب و غير منطقي. وفى سبيل تقويم الرؤية و تنشيط المبادرة و الدور العربى يجب تكليف عدد من الخبراء العرب بإعداد دراسة عن العالم العربى والمناطق المجاورة حتى عام 2030، تشمل ما نتوقعه للمنطقة، وما نأمل أن نصل إليه، لنحدد السياسات المحققة لذلك، مع تركيز خاص على العلاقة العربية- العربية والعلاقة بين العالم العربى ودول الجوار، بمعنى الأمن الإقليمى العربى المباشر. ويقترح أن تعقد مصر عند توليها رئاسة القمة العربية اجتماعات تشاورية كل 6 اشهر فيما بين القادة العرب أو بعضهم، للتشاور حول القضايا الاقليمية المختلفة و التحديات المستقبلية، والمقصود هنا مشاورات جادة، بعيدا عن الاعلام، على مدى يوم عمل كامل أو يومين، لتقييم المواقف و المكاشفة و المصارحة، تمهيدا لطرح سياسات إزائها، دون الاهتمام بإصدار البيانات إلا فى أضيق الحدود. و يجب النظر بشكل أكثر جدية فى رفع كفاءة الدبلوماسية الإقليمية لفض النزاعات و الدبلوماسية الوقائية، و بناء السلام و التعمير بعد إنهاء النزاعات بالعالم داخل و خارج الجامعة العربية،وهناك تجارب دولية و اقليمية عديدة يمكن الاستفادة منها. و الخلاصة، على العالم العربى أن يختار بين الاستمرار على نهجه الحالى و حتمية فنائه، و بين تبنى منهج عمل عربى جديد، شاق و ممتد، يصون الهوية العربية، و يضع اسس عالم عربى جديد داخل دولنا، و فيما بيننا، و نتحمل فيه نصيبا اكبر من مسئولية مشاكلنا الإقليمية، حفاظا على استقراره، و تأمينا لمستقبلنا. لمزيد من مقالات السفير: نبيل فهمى