ليس ثمة شك فى أن ما شهده العالم فى الآونة الأخيرة من تصاعد غير مسبوق فى العمليات الإرهابية كماً وكيفاً واتساعاً، إلى الحد الذى جعل منها بمثابة تهديد للسلم والأمن الدوليين على نحو ما أشار مجلس الأمن الدولى فى قرارات عديدة له، إنما يستلزم سعياً حثيثاً من المجتمع الدولى للتعامل مع هذه الظاهرة بشكل جماعي، والعمل على صياغة وتنفيذ استراتيجية دولية عامة شاملة لمكافحة الإرهاب. والحق أن الإرهاب قد تصاعد، لا سيما بعد ما يعرف بثورات الربيع العربي، متخذاً مسارات جديدة، ومتسماً بصفات وخصائص ليس للمجتمع الدولى عهد بها. وقد اتسعت العمليات الإرهابية لتشمل أقاليم دول عديدة فى ذات الوقت، ومن ينظر إلى كل من العراقوسوريا ولبنان واليمن والصومال ومصر وليبيا وتونس والجزائر ومالى ونيجيريا، فضلاً عن أفغانستان وباكستان، إضافة إلى ما شهدته فرنسا أخيراً، يدرك مدى ما وصلت إليه هذه العمليات من اتساع جغرافى كبير. كما أن أعداد المنتمين إلى الحركات الإرهابية فى تزايد مستمر، إذ يقدر البعض أعدادهم بعشرات الآلاف. ليس هذا فحسب، بل اللافت للنظر أن هؤلاء الإرهابيين ينتمون إلى عدد كبير من دول العالم المتقدم والنامى على السواء، إلى حد أن الأممالمتحدة تقدر أن من يشاركون فى الأعمال الحربية، وكثير منها من قبيل الإرهاب، فى سورياوالعراق، على سبيل المثال، ينتمون إلى ثمانين دولة من دول العالم. ولعل مكمن الخطورة هنا أن هؤلاء سيعودون، أو بعضهم على الأقل، إن عاجلاً أو آجلاً إلى بلادهم، فينشرون فكر التطرف والإرهاب وممارساته فى هذه الدول. ومن ناحية أخري، فإن حركات الإرهاب الحالية أصبحت تسيطر سيطرة كاملة على أجزاء واسعة من أقاليم دول عديدة، كما هو الحال فى العراقوسوريا واليمن وليبيا وغيرها، إلى الحد الذى أغراها بأن تعلن لنفسها دولة تحت مسمى « الدولة الإسلامية فى العراق والشام «، وتسعى إلى توسيع حدود هذه الدولة وضم أقاليم جديدة إليها. وخطورة هذا تكمن فى أن السيطرة على هذه الإقاليم توفر ملاذاً آمناً للإرهابيين ولعصابات الجريمة المنظمة للمجئ إليها والعمل فيها دون خوف من ملاحقة أو متابعة، وهو ما يوفر معيناً بشرياً ومالياً لهذه الحركات الإرهابية، فضلاً عما تجنيه من موارد هذه الإقاليم، لا سيما النفطية منها، والذى يساعدها على الاستمرار فيما هى فيه. وقد حصلت هذه الحركات على كميات شديدة الضخامة والتنوع من الأسلحة من مخازن جيوش الدول التى انهارت، بدرجة أو بأخري، وعلى الأخص الجيش الليبى والجيش العراقى والجيش اليمني، وهو ما ساعدها على مزيد من التوسع والقدرة على الاستمرار. والحق أن ما تقدم يستدعى نظرة جديدة من المجتمع الدولى لكيفية التعامل مع هذه الظاهرة وصياغة استراتيجية شاملة للتعامل معها، تغاير تلك التى سار عليها فى مواجهتها من قبل. وإذا كان مفهوم الإرهاب واحداً من أكثر المفاهيم السياسية المعاصرة إثارة للجدل والخلاف. وإذا كان ثمة إجماع على إدانته باعتباره خطراً يهدد أمن البشرية واستقرارها، وعلى وجوب مواجهته بكل السبل للحيلولة دون تفاقم آثاره بالغة الخطورة على المستويين الوطنى والدولي. فإن هذا الإجماع يبقى شكلياً فحسب بالنظر إلى نسبية مفهوم الإرهاب والخلاف حول تحديده بشكل جامع مانع، قدر الإمكان، يرضى عنه الجميع، أو ترضى عنه الأغلبية على الأقل. وهو الخلاف الذى واكب كل المحاولات التى جرت لمناقشة موضوع الإرهاب، ووقف عقبة كؤداً أمام كل الاعتبارات والمعايير القانونية الصحيحة فيما يتعلق بتحديد مصطلح الإرهاب. غير أن هذا لا ينفى أن جهوداً مضنية قد بذلت فى سبيل تحديد مفهوم الإرهاب من الناحية القانونية. وهى جهود أخذت مسارات عدة كان من بينها مؤتمرات واتفاقيات دولية عقدت فى هذا الصدد، وكان منها الجهود المكثفة التى بذلتها الأممالمتحدة فى قرارت جمعيتها العامة، وفى مناقشات وأعمال اللجنة السادسة التابعة لها، بالإضافة إلى جهود اللجنة الخاصة التى كلفتها الجمعية العامة بدراسة موضوع الإرهاب الدولى ومحاولة تعريفه، وتحديد الأسباب الكامنة خلفه، وسبل الوقاية منه ومكافحته. علاوة على الجهود الفقهية العديدة التى بذلت فى ذات السبيل. والحق أن غياب نص قانونى دولي، حتى الآن، يحدد المقصود بالإرهاب بشكل عام لم يمنع ظهور نصوص دولية تجرم بعض الأفعال التى اتفق على كونها من قبيل الأعمال الإرهابية، كاختطاف الطائرات، أو الاعتداء على الأشخاص المتمتعين بحماية دولية كرؤساء الدول، أو المدنيين المسالمين. كما لم يمنع محاولات التمييز بين نوعين من أعمال العنف، أعمال يرتكبها فرد أو جماعة بهدف تحقيق مكاسب شخصية أو مادية، كاختطاف الطائرات للابتزاز، وأخذ الرهائن للحصول على فدية مالية، وهذه أعمال إرهابية دون مراء. وأعمال لا ترتكب لتحقيق غايات شخصية أو مكاسب مادية لمرتكبيها، وإنما خدمة لقضية عادلة ومشروعة يؤمنون بها ويشعرون بالالتزام تجاهها، مثل أعمال المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الأجنبى والنظم التى تمارس تفرقة عنصرية صارخة ضد جزء من الشعب الخاضع لها، وهذه لا يمكن أن تعد من قبيل الأعمال الإرهابية بحال، بل هى أعمال مشروعة بموجب أحكام القانون الدولى المعاصر. كذلك فإننا إذا استعرضنا الجهود العالمية والإقليمية فى المجال القانونى لمكافحة الإرهاب لأمكننا أن نقرر أن ما قامت به الأممالمتحدة فى هذا السبيل إنما يمثل أساساً صلباً يمكن البناء عليه، وهو يتمثل فى مجموعة من المعاهدات التى تشكل سلاحاً مهماً فى الحرب الدائرة ضد الإرهاب، يبلغ عددها اثنى عشرة معاهدة تتناول كل منها جانباً محدداً من جوانب الجهود الرامية إلى القضاء على الإرهاب. هذا بالإضافة إلى الإعلان الصادر عن الدورة التاسعة والأربعين للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1994 بشأن التدابير الرامية للقضاء على الإرهاب الدولي، وهو الإعلان الذى تضمن، رغم عدم تعريفه للإرهاب تعريفاً محدداً، مجموعة من المبادئ والإجراءات والتوصيات التى تخاطب مختلف الدول بإدانة قاطعة لجميع أعمال الإرهاب وأساليبه وممارساته والتى تشكل انتهاكاً صارخاً وخطيراً لمقاصد وأهداف ومبادئ الأممالمتحدة. ولقد أعادت قرارات الأممالمتحدة التالية لأحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001 التأكيد على ذات المعاني. ففى اليوم التالى للأحداث أكد مجلس الأمن الدولى فى قراره رقم 1368 خطورة هذه الأحداث الإرهابية كونها تشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، مقراً للولايات المتحدةالأمريكية بحق الدفاع الشرعى فى هذا الصدد، مطالباً الدول الأخرى العمل على تقديم مرتكبى هذه الجريمة إلى العدالة. وعلى ذات الدرب سار قرار مجلس الأمن رقم 1373 الصادر فى 28 من سبتمبر 2001، والذى لم يعرف الإرهاب، ولكنه أشار إلى عدد من الإجراءات المطلوبة لمكافحة الإرهاب داخليا ودولياً، والمتمثلة فى ضرورة التزام كل دولة بمنع ووقف تمويل الأعمال الإرهابية، ومصادرة وتجميع كل الأموال الخاصة بأشخاص يرتكبون أعمالاً إرهابية أو يحاولون إرتكابها، وعدم توفير الملاذ الآمن لمن يمولون الأعمال الإرهابية أو يدبرونها أو يدعمونها أو يرتكبونه، وإدراج الأعمال الإرهابية فى القوانين والتشريعات المحلية وكفالة عقوبات صارمة لها، واتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لمنع تجاوز هذه الجرائم والأعمال الإرهابية الحدود الإقليمية للدولة، وتبادل المعلومات بين الدول والتعاون بينها من خلال اتفاقيات ثنائية ومتعددة الأطراف لمنع وقمع الاعتداءات الإرهابية واتخاذ إجراءات ضد مرتكبى تلك الأعمال..إلخ. كذلك يمكننا أن نستخلص من نص الفقرة الثالثة من قرار مجلس الأمن رقم (1566) الصادر فى 8أكتوبر 2004، أن المجلس أراد أن يعرف الإرهاب بأنه «تلك الأعمال التى ترتكب ضد المدنيين بقصد القتل أو إلحاق إصابات جسمانية خطيرة، أو أخذ الرهائن، بغرض إشاعة حالة من الرعب بين عامة الجمهور أو جماعة من الأشخاص أو أشخاص معينين، أو لتخويف جماعة من السكان، أو إرغام حكومة أو منظمة دولية على القيام بعمل أو عدم القيام به». وجاء القرار رقم 1624 لسنة 2005 والمتعلق بالتحريض على ارتكاب أعمال الإرهاب، ليدعو الدول الأعضاء بالأممالمتحدة إلى أن تحظر بنص القانون التحريض وأن تمنع مثل هذا التصرف، وأن تحرم من الملاذ الآمن أى أشخاص توجد بشأنهم معلومات موثوقة وذات صلة تشكل أسباباً جديةً تدعو إلى اعتبارهم مرتكبين لذلك التصرف. وفى عام 2006 اعتمدت الدول الأعضاء فى الجمعية العامة للأمم المتحدة «استراتيجية الأممالمتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب» وهى على شكل قرار وخطة عمل مرفقة به. وهذه هى المرة الأولى التى اتفقت فيها الدول الأعضاء جميعها على نهج استراتيجى موحد لمكافحة الإرهاب، ليس فحسب بتوجيه رسالة واضحة مفادها أن الإرهاب غير مقبول بجميع أشكاله ومظاهره بل أيضاً بالعزم على اتخاذ خطوات عملية فردياً وجماعياً لمنعه ومكافحته. وتلك الخطوات العملية تشمل طائفة واسعة من التدابير التى تتراوح من تعزيز قدرة الدول على مكافحة التهديدات الإرهابية إلى تحسين تنسيق أنشطة منظومة الأممالمتحدة فى مجال مكافحة الإرهاب. ونسنتنتج مما سبق، أن الأممالمتحدة قد دأبت من خلال أجهزتها المعنية على إدانتها الكاملة للإرهاب أياً كانت صورته أو بواعثه، وألقت التزاماً على عاتق الدول بالامتناع عن دعم الأنشطة الإرهابية أو التحريض عليها أو تيسيرها أو تمويلها أو التغاضى عنها، والتزامها باتخاذ كل التدابير العملية والملائمة لضمان عدم استخدام أقاليم كل منها لإقامة منشآت إرهابية أو معسكرات للتدريب، أو فى تحضير أو تنظيم الأعمال الإرهابية التى ينتوى ارتكابها ضد الدول الأخرى أو مواطنيها. هكذا فإن التصدى لظاهرة الإرهاب إنما يستدعى معالجتها باستراتيجية متعددة الجوانب والأبعاد تنظر إلى الإرهاب الدولى باعتباره تهديداً للسلم والأمن الدوليين، ومن ثم ضرورة مواجهته بصورة شاملة من خلال اعتماد استراتيجية عامة فاعلة موحدة وجهد دولى منظم، يقوم من ناحية على إدراك أن غياب اتفاق بشأن تعريف شامل للإرهاب يعوق الجهود الدولية الرامية لمكافحته ومن ثم يجب التغلب على مشكلة التعريف هذه. ويقوم من ناحية أخرى على ضرورة معالجة العوامل التى توفر أرضية خصبة لإزدهار الإرهاب، كالاحتلال الأجنبي، والتمييز العنصرى والدينى ونحوها، وعدم العدالة فى توزيع الثروات على المستويين الوطنى والدولي. ويقوم من ناحية ثالثة على تسوية المنازعات الإقليمية والعالمية بالطرق السلمية لتفويت الفرصة على المنظمات الإرهابية التى تستغل معاناة الشعوب. وأخيراً وليس آخراً ضرورة التفكير بشكل جاد فى إضافة جريمة الإرهاب إلى الجرائم الأربع التى تختص المحكمة الجنائية الدولية بالنظر فيها، وهو ما قد يكون موضوعاً لمقال تال نظراً لأهميته من جانب، وما يحويه من تفاصيل من جانب آخر. لمزيد من مقالات د. محمد شوقى عبد العال