مصر الآن تعيش الذكرى الرابعة لثورة 25 يناير. تلك الثورة التى انطلقت شرارتها من ميدان التحرير، ثم امتدت إلى مصركلها من الإسكندرية إلى أسوان ومن السويس إلى مطروح. وانتشرت أصداؤها فى المنطقة كلها، بل والعالم بأسره، من منا لا يذكر كيف أصبح الميدان المغطى بالعلم ثلاثى الألوان أيقونة لكل الميادين بالحرية والعدالة الاجتماعية فى كل مكان.. تصادف وجودى خارج المحروسة منذ أغسطس الماضى وحتى أوائل هذا الشهر كأستاذ زائر بجامعة إلينوى فى إقليم الغرب الأوسط للولايات المتحدة. ومن هناك، وعبر هذه المسافة الطويلة بعيدا عن الوطن، أتيح لى أن أرى الأمور فى حجمها الحقيقى، بلا تهويل أو تهوين. كما أتيح لى أن أتابع عن قرب ذلك التحيز الصارخ هناك إزاء ما يجرى فى مصر من أحداث وتطورات. و لكن هذا ربما يكون موضوع مقال آخر. وكمدخل للحديث سأبدأ بسؤال كثيرا ما سمعته من المصريين خارج مصر و داخل مصر: هل نحن على الطريق الصحيح؟ و هل حققت الثورة أهدافها؟ وهم يقصدون بلا شك بالطريق الصحيح طريق الثورة. ويقصدون بأهدافها «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية». فما الذى يستدعى هذا السؤال؟.. إن الذى يستدعى هذا السؤال هو أن الساحة تموج بالكثير من الجلبة والضجيج. وهناك تشوش فى الرؤى يتطلب استجلاء حقيقة ما يجرى. فمن ناحية، تكرر الحديث ولا يزال، عن ثورتين و ليس ثورة واحدة: ثورة 25 يناير و ثورة 30 يونيو. وفى الاتجاه الآخر، تكرر الحديث ولا يزال، عن أن 25 يناير ليست ثورة، وإنما هى انتفاضة: بدأت وانفضت كما بدأت. بل سمعنا من قالوا إنها لم تكن ثورة، بل كانت مؤامرة دبرلها من دبر وخطط لها من خطط، واستخدم الشباب المصرى البرىء مخلب قط وأداة لتنفيذ المخطط! و لوضع النقاط فوق الحروف نقول: إن 25 يناير يمثل شرارة الثورة. هو بداية السعى لهدم النظام القديم وإقامة نظام جديد محله يحقق طموحات المصريين كما جسدها بعبقرية شعار «عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية .. كرامة إنسانية». إن ما تحقق منذ 25 يناير حتى الآن هو مجرد الخطوة الأولى فى مشوار الألف ميل. وعلينا أن نعى جيدا أن سياق الأحداث محكوم بجدلية العلاقة بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة. وفى البداية تم سرقة الثورة بواسطة جماعة الإخوان، وهى من قوى الثورة المضادة. ثم قام الشعب باستردادها فى موجة جارفة هى 30 يونيو. نحن إذن أمام ثورة عظيمة كان لها حتى الآن موجتان: الموجة الأولى فى 25 يناير والموجة الثانية فى 30 يونيو. ولا أستبعد أن تكون هناك موجات أخرى قادمة على طريق الثورة. والقول بأن 25 يناير كانت انتفاضة وانفضت أو كانت مؤامرة المحروسة، هو لسان حال قوى الثورة المضادة. أما قوى الثورة فلها لسان مختلف تتحدث به. وفى تقديرى المتواضع أننا قد ارتكبنا عدة أخطاء ندفع ثمنها الآن. و لا بأس، فالحياة دروس وعبر. المهم هو أن نستوعب الدرس و أن نتعلم من الأخطاء. هناك الخطأ فى ترتيب مراحل الانتقال إلى نظام سياسى جديد، و الخطأ فى التعامل مع مبارك وأعوانه، و الفشل فى ابتداع صيغة فعالة لإدماج الشباب فى العملية السياسية/ النظام السياسى. ولعل أكبر أخطائنا يكمن فى ترتيب مراحل الانتقال بعد تنحى مبارك فى 11 فبراير 2011. فبدلا من كتابة دستور جديد بديلا عن دستور 1971، أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة تعديلات دستورية جرت الموافقة عليها فى استفتاء 19 مارس. وتلا ذلك إعلان دستورى فى 26 سبتمبر 2011 تم على إثره انتخاب البرلمان الذى حصل فيه الإخوان على 43% من المقاعد والسلفيين على 22%. لقد فتح الإعلان الدستورى فى مارس 2011 الباب لجماعة الإخوان لسرقة الثورة. كان هذا بمثابة أول انحراف عن تحقيق أهداف ثورة 25 يناير، ومازلنا ندفع ثمنه حتى الآن. وكان من الضرورى كتابة الدستور أولا ثم إجراء إنتخابات رئاسية، ويأتى البرلمان بعد ذلك. فلم تكن جماعة الإخوان فكرا وسلوكا تختلف عن نظام مبارك الذى ثار عليه الشعب فى 25 يناير. فى الذكرى الرابعة لاندلاع شرارة الثورة، فإن مصر الآن تعيش مرحلة صراع شديد، وكر وفر، بين قوى الثورة و قوى الثورة المضادة. وبعد أن حققت قوى الثورة نجاحات ملحوظة، يبدو أن ميزان القوى بدأ يميل الآن لصالح قوى الثورة المضادة. ولعل أكبر دليل على ذلك هو إفلات مبارك وأعوانه من الحساب والمساءلة عما ارتكبوه فى حق مصر والمصريين. الأمر يبدو أشبه ب«خروج الشعرة من العجين». ولا عزاء للثورة والثوار. فبعد الماراثون القضائى المعروف إعلاميا بقضية القرن، خرج مبارك وأعوانه «خروج الشعرة من العجين». فلا هو المسئول عن قتل المئات من خيرة شباب مصر خلال ال 18 يوما الأولى للثورة وحتى تنحيه فى 12 فبراير 2011. ولا هو المسئول عن بيع الغاز المصرى للعدو الإسرائيلى. ولا هو المتورط فى تهريب أموال المصريين الغلابة إلى خارج البلاد. ولا هو المسئول عن أن وضعية مصر على الساحتين الإقليمية والدولية أصبحت فى الحضيض خلال فترة حكمه التى استمرت ثلاثين عاما. لقد كان خطأ فادحا من البداية أن تطرح المسألة وكأن ثمة مخالفة قانونية ارتكبها الرئيس وأولاده وأعوانه. كيف ذلك و قد صاغوا القوانين وسنوا التشريعات لكى تحقق أغراضهم وتسهل لهم سلب العباد ونهب البلاد. لقد مارسوا النهب والسلب بالقانون الذى صاغوه ومارسوا القهر بالقانون الذى ابتدعوه. فلا غرابة إذن أن يصدر حكم القضاء بالبراءة كمسألة تحصيل حاصل. ولكن يظل السؤال: من الذى قتل شهداء الثورة؟ ومن الذى تسبب فى إصابة ملايين المصريين بالالتهاب الكبدى الوبائى والفشل الكلوى والسرطان والفقر والجهل؟ من الذى تسبب فى تشتيت ملايين المصريين بحثا عن لقمة العيش ما بين الخليج وليبيا وجنوب أوروبا؟ ومن الذى جعل الكثيرين منهم وليمة سائغة للأسماك نتيجة غرق العبارات فى البحر الأحمر والمراكب فى البحر المتوسط؟ إننا هنا لسنا بصدد مخالفات قانونية وإنما إزاء جرائم سياسية من الطراز الأول: جريمة تركيع وطن وتجويع شعب. وهذه الجرائم لن تقيد ضد مجهول مهما مضى الزمن، ولن تسقط بالتقادم مهما طال الوقت. يحدثنا التاريخ أنه لا توجد ثورة أنجزت أهدافها وحققت طموحاتها خلال سنوات معدودات. والثورة المصرية ليست استثناء. لقد بدأنا الخطوة الأولى فى مشوار الألف ميل. انطلق المارد، وهو الشعب المصرى، من القمقم. ولن يستطيع أحد إعادته مرة أخرى. وبما كان أهم الإنجازات أن المصريين أسقطوا عامل الخوف إلى غير رجعة. ويكفى أننا خلعنا اثنين من الحكام خلال ثلاث سنوات. ولمن كان يشك فى قدرة الشعب المصرى، فهذا أكبر دليل. تواجه ثورة 25 يناير و هى تدخل سنتها الخامسة، تحديات جساما. كتبنا دستورا جديدا، علينا أن نضعه موضع التطبيق بنجاح. حققنا بعض التقدم نحو العدالة الاجتماعية، لكن أمامنا مشوار طويل. ويبقى الشباب هم الرقم الأصعب فى المعادلة الوطنية. وختاما، تحية واحتراما لأرواح شهداء الشرطة فى 25 يناير 1952 وشهداء ثورة 25 يناير 2011.. لمزيد من مقالات د. جودة عبدالخالق