فى حضرة مستشفى أبو الريش للأطفال وفى الدور الأول المخصص لأمراض الدم ، سيعتصر الألم قلبك ، وستحبس الدمع حرجا، وأنت ترى وجوها شاحبة لعشرات الأطفال، يتراصون هم وأمهاتهم فى انتظار معاناة جديدة تتكرر ثلاث مرات أسبوعيا، كشف ثم تحليل ثم نقل دم . وجوه شاحبة، تميل إلى الاصفرار، أنهكها صعود بضع درجات من السلم، لهاث أنفاسهم يشعر به كل من فى الدور، تزوغ أعينهم لأول مقعد خال كى يستريحوا من عناء المجهود الذى بذلوه، عيونهم تترقب حجرة الكشف، فى رحلة جديدة لصرف الدواء المؤلم، وأعراضه الجانبية فى انتظار مرض آخر يضاف إلى لائحة الأمراض التى جاءتهم بسبب نقل الدم المستمر. لم تنقطع قدم أم محمد «المرأة الخمسينية» منذ 14 عاما عن مستشفى أبو الريش، تحمل أبناءها الثلاثة المصابين بأنيميا البحر المتوسط، فى صبر وتحمل البلاء، أصبح العاملون فى المستشفى من أفراد عائلتها الكبيرة، يعرفون عنهم أكثر مما يعرفه أقارب وأصدقاء أولادها المرضى بالثلاسيميا. الإثنين والأربعاء والخميس، مواعيد ثابتة فى أجندة أم محمد، يعاونها فى حملها الثقيل، الأب الذى يعمل محاسبا فى إحدى الشركات، يذهب إلى بنوك الدم لتوفير الدم شهريا لأولاده، أو إلى جمعية أصدقاء مرضى أنيميا البحر المتوسط لتوفير العلاج غير الموجود أحيانا فى صيدلية أبو الريش. رحلة توفير الدم الذى يقطعها الأب شهريا ليست معاناة فى حد ذاتها، المعاناة هو من جراء نقل الدم، وإصابة الأولاد بأمراض أخري، غير المرض الذى يحملونه منذ الصغر، فالابن الأوسط أصيب بتضخم الطحال، والآخر بمضاعفات بالكبد. مرضى الثلاسيميا فى مصر، يعانون مرضهم فى صمت، يتحملون آلام نقل الدم، ومضاعفاته، ينتظرون أن يكون هناك علاج يساعدهم فى تخفيف بعض مما يعانون، إلى أن ظهر ما يسمى بالعلاج الأمثل» إكسجد« ، وقرر الدكتور على حجازى رئيس هيئة التأمين الصحى فى 14 سبتمبر 2014، توفير وصرف أدوية إنزال الحديد عن طريق الفم لجميع الأعمار، ولكن رئيس الهيئة يقرر والأطباء يمتنعون. منذ أربعة أشهر فور صدور هذا القرار، ومعاناة الحصول على العلاج يمثل دوامة لا تنتهي، فبعض أطباء التأمين الصحى قرر صرفه لمن هم دون سن العاشرة، حيث يكون وزنهم أقل وبالتالى استهلاكهم قليل، والبعض يرفض صرف العلاج لارتفاع تكلفته ويطلب تشكيل لجنة للصرف. حتى يحصل أبو محمد على العلاج الجديد عليه أن يذهب إلى عيادة التأمين الصحى بأحمد عرابى المهندسين حيث يصف العيادة ب »كشك السجاير« تعم الفوضى فيها، والمعاملة غير آدمية، ولا ينتهى الأمر هنا، بل تشترط عليه الذهاب إلى مستشفى الهرم بدلا من مستشفى أبو الريش الذى تعود عليه ويعلم الأطباء والتمريض ما يعانيه أبناؤهم بالتحديد، وفى النهاية لا يحصل على العلاج فيذهب إلى جمعية أصدقاء أنيميا البحر المتوسط. الدم غير متوافر بعينين ضيقتين ووجه شاحب يميل إلى السمرة يجلس فادى ذو الاثنى عشرة ربيعا على مقعد خشبى ، فى جمعية اصدقاء انيميا البحر المتوسط فى انتظار حصول أمه على العلاج، « فادى ملوش تأمين، مدخلش المدرسة أصلا» تقول الأم، وهى تحمل الأدوية بيديها، ويهم فادى ليأخذ اليد الأخري، لولا مستشفى أبو الريش والجمعية كان زمان فادى ضاع مني» وتروى دوامتها فى الحصول على الدم «الحمد الله بلاقى دم، بس فيه ناس تانية الفصيلة مش موجودة وبيتعبوا قوى علشان يلاقوه». د. لميس رجب أستاذ أمراض الدم وعميد طب قصر العينى الأسبق ترى أن أدوية عديدة موجودة لإنزال الحديد كان أولها وأشدها وجعا عن طريق الحقن تحت الجلد لمدة خمسة أيام أسبوعيا، عشر ساعات يوميا، مدى الحياة، لدرجة أن أحد الأطباء البريطانيين وصف من يتعاطى هذا النوع من العلاج بأنه يستحق جائزة نوبل فى التحمل، بعد ذلك ظهرت أجيال جديدة من الدواء عن طريق الفم، منها ما له أعراض جانبية ومنها ما ليس له أعرض جانبية وهو ما يسمى العلاج الأمثل « إكسجد»، ولكن سعره مكلف جدا يصل إلى 4000 جنيه للعلبة الواحدة تؤخذ حسب وزن الإنسان، ولكن الدولة لا تدعم سوى الحقن التى يصل سعرها إلى 240 جنيها يأخذه المريض مدعما ب 80 جنيها فقط، وفى بعض الأحيان يتم اللجوء إلى نوعين من الدواء أحدهما لتخفيف الحديد فى الجسم والآخر لعلاج الكبد. وحين تم البدء فى العلاج الأمثل المكلف بدأ بالسن الصغيرة كون وزنها يستهلك أقل، مما يكلف الدولة مبالغ أقل، كان ذلك منذ سبع سنوات، وبالتالى من كان وقتها سنه ثلاث أو أربع سنوات وقت العلاج بلغت الآن أكثر من عشر سنوات، فخرجوا من إتاحة العلاج حيث يصرف لمن أقل من 10 سنوات. وتشير د. لميس هنا تضخمت الأزمة، إذ صار صعبا عودة الطفل إلى الحقن، أو أن يكون فى البيت مريضان أحداهما يأخذ أقراصا لا تسبب له ألما أو أعراضا، والآخر يعانى آلاما يومية وأعراضا كبيرة. فقد قام رئيس التأمين الصحى مشكورا بإصدار قرار بصرف العلاج الأمثل لكل المرضي، لكن هذا القرار على أرض الواقع قوبل برفض غالبية الأطباء، فتحججوا بتكلفته العالية ومن ثمّ إحالته إلى لجنة كى تقرر صرفه، وآلاف المرضى لا يستطيعون الوصول إلى هذه اللجنة، فالرؤساء يوافقون وصغار الأطباء يمتنعون. الوقاية غائبة وبعيد عن أزمة العلاج تنبه د. لميس إلى خطورة المرض إذ تقول إن مصر تعد من أكبر الدول المنتشر فيها أنيميا البحر المتوسط، وذلك بسبب عدم الاهتمام بالوقاية، وهو مرض لا قاعدة محددة له، فقد يتزوج رجل وامرأة حاملان للمرض ويأتى أولادهما مصابين، وقد يأتى لولد ولا يأتى لآخر، وهنا فى مصر العدد فى تزايد عاما عن عام، بينما هناك دول أخرى على البحر المتوسط، صار» زيرو « مرضى جدد كقبرص وإيطاليا، والسبب هو تطبيق الوقاية بصرامة وإلزام كل من يتقدم للزواج بتقديم شهادة تثبت خلوه من بعض الأمراض من بينها أنيميا البحر المتوسط، لكن الأمر هنا جد مختلف، إذ يعمد المتقدم للزواج إلى شراء هذه الشهادة بجنيهات معدودة كصيغة مكملة للزواج خوفا من أن يكون هناك مرض يمنعه من إتمام الزواج، أو يسبب له حرجا أمام أهله أو أهلها، بل شاع قديما أن الكشف المبكر قبل الزواج هدفه سعى الدولة إلى معرفة المصابين بمرض الإيدز. وحامل المرض هو إنسان طبيعى جدا لا يظهر عليه علامات المرض، الخطورة هو فى نقله، ولا توجد إحصاءات، عن زيادة المرض سنويا، لكنه فى بعض التقديرات تقول إن هناك ألف مريض سنويا من كل مليون ونصف مليون مولود. والمرض وراثي مزمن وتصل نسبة حاملى المرض فى مصر فى بعض المناطق إلى نحو 10%، بينما تغيب الإحصائيات الحقيقية عن نسبة المرضى الفعليين، ففى مستشفى أبو الريش مسجل نحو 4 آلاف مريض، ليس بالضرورة كلهم مترددين، فقد يكون اتجه بعضهم إلى مستشفى آخر، وبالتالى من الصعب إحصاء المرضى على مستوى الجمهورية الخطورة الحقيقية أن مرضى أنيميا البحر المتوسط يعانى معظمهم من فيروس »سي« بسبب نقل الدم المستمر لهم، إضافة إلى أن نقل الدم يؤدى إلى تراكم الحديد، وهو يؤذى جميع أعضاء الجسم. وتنصح د. لميس المتزوجين حديثا فى هذا الوقت بالكشف على الزوجة الحامل قبل الاسبوع الثانى عشر، حتى لو اكتشف أن الجنين مصاب بأنيميا البحر المتوسط، فيحق له شرعا الإجهاض، وتذهب د. منى حمدى أستاذ أمراض الدم بأبوالريش إلى أن إحدى كوارث المرض هو زواج الأقارب، وبإمكاننا وقف مأساة الأطفال، بإجراء تحليل بسيط جدا قبل الزواج، حتى لا يأتى وقت يندم فيه حين يرى ابنه يموت أمامه كل يوم ولا يستطيع فعل شيء له.