من مسافة 100كيلومتر تفصله عن الحدود الليبية أعلن وزير الدفاع الفرنسى أن جنوب ليبيا أصبح مصدر قلق لأمن البحر المتوسط وتهديد لمصالح فرنسا. ولكن وبعد ساعات أعلن الرئيس الفرنسى أن بلاده لن تتدخل عسكريا فى الأزمة الليبية مجددا إلا فى ظل ظروف مقيدة. فعلى الرغم من التدخل الفرنسى للإطاحة بالقذافى عام 2011 فإن المصالح الفرنسية اليوم ألزمت القيادة فى الإليزيه بإتخاذ موقف جديد يتماشى مع وضع جديد. شروط جديدة فبعد أيام قليلة من بداية العام الجديد تحدث الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند لمدة ساعتين فى إذاعة «فرانس إنتر» الفرنسية محددا موقف بلاده من التدخل العسكرى فى الأزمة الليبية وشروط التدخل المستقبلى. فقد استبعد أولاند فكرة أى تدخل عسكرى فرنسى فى ليبيا، وقال إنه «يتعين أولا على المجتمع الدولى تحمل مسئولياته والعمل على إطلاق حوار سياسى مفتقد فى ليبيا حتى الآن، وثانيا إعادة النظام». وردا على إمكانية مشاركة فرنسا فى تدخل محتمل للأمم المتحدة، قال أولاند إن مثل هذا التوجه ليس مطروحا فى الوقت الحاضر. وأضاف موضحا شروطه لتدخل فرنسى قائلا: «إذا كان هناك تفويض واضح وتنظيم واضح ومحدد بالإضافة إلى توافر الشروط السياسية»، فإن فرنسا يمكن أن تشارك «إلا أن الأمور لا تسير فى هذا الاتجاه». وأكد قادة الإليزيه أن القوات الفرنسية المتمركزة فى دول الساحل (تشادوالنيجر ومالى) ستوجه ضربات ضد المسلحين وعصابات تهريب السلاح فى كل مرة يغادرون فيها مواقع إختباءهم (جنوب ليبيا). وهكذا إستبعدت باريس سيناريو التدخل العسكرى المباشر فى ليبيا على المدى القصير مكتفية بمحاولة حصار الميليشيات المسلحة داخل ليبيا.ولم تأت رسالة أولاند بمعزل عن تصريحات وزير دفاعه جان إيف لودريان الذى قام بجولة زار خلالها القواعد الفرنسية على خط المواجهة فى تشادوالنيجر. فمع أول لحظات العام الجديد حذر وزير الدفاع الفرنسى لودريان من بقاء المجتمع الدولى «مكتوف الأيدى» أمام ما يحدث فى ليبيا، ودعا «المجتمع الدولى» للتحرك حتى لا تتحول ليبيا إلى «ملاذ إرهابى»غير مقبول. كما حث «دول الجوار» على دعم الليبيين «للعثور على سبل الإستقرار»، معتبرا أن الحل «يجب، بقدر الإمكان، أن يجده الليبيون أنفسهم». وقال لودريان أمام الجنود الفرنسيين المتمركزين فى العاصمة التشادية نجامينا وفى قاعدة عسكرية فرنسية بماداما شمال النيجر (على مسافة 100كيلومتر من الحدود الليبية)خلال زيارة تفقدية بمناسبة إحتفالات رأس السنة أن «ما يجرى فى ليبيا، فى ظل الفوضى السياسية والأمنية، لايعنى سوى إقامة ملاذ إرهابى فى المحيط المباشر للقارة الأوروبية». وأضاف أن «المجتمع الدولى سيرتكب خطأ جسيما إذا ما بقى مكتوف الأيدى أمام قيام ملاذ للإرهاب فى قلب البحر المتوسط. هذا أمر لا يجب القبول به». وجاءت التصريحات الفرنسية فى الوقت الذى تطالب فيه دول عديدة فى المنطقة، مثل تشادوالنيجر، بتدخل عسكرى دولى عاجل بهدف التصدى للمجموعات المسلحة فى ليبيا. وتجدر الإشارة إلى أن السلطة فى ليبيا تتنازعها حكومتان وبرلمانان، الأولى تعتمد على الميليشيات المتطرفة دينيا، والثانية حكومة رسمية معترف بها من المجتمع الدولى تعتمد على الجيش الليبى، وقد اغتنمت الجماعات المسلحة حالة الفوضى الأمنية والسياسية لإقامة قاعدة لها فى جنوب البلاد الذى أصبح ملاذا آمنا لهم. وتمثل تلك الحالة من السيولة الأمنية والسياسية فى ليبيا تهديدا كبيرا لدول الجوار وخصوصا لجنوب اوروبا. فبالنسبة للاوروبيين فان المخاطر تكمن فى تدفق المهاجرين من سواحل ليبيا مع المعاناة الانسانية التي يعيشونها في المتوسط قبل الوصول، وملاذات المسلحين المتطرفين فى الجنوب والشرق التى تهدد بإشعال منطقة الساحل مجددا حيث توجد القوات الفرنسية وبعض القوات الأمريكية. فوفق ما أكده مصدر حكومى فرنسى يصل حوالى عشرة الاف مهاجر شهريا من ليبيا. وفى الجنوب فإن كل انجازات عملية سرفال (التدخل العسكرى الفرنسى فى مالى) يمكن ان تصبح مهددة. أسباب التأرجح لقد تأرجح الموقف الفرنسى تجاه فكرة التدخل العسكرى فى ليبيا بين التدخل الكامل والتدخل تحت مظلة دولية وعدم التدخل إلا فى ظل شروط مقيدة. ويمكن تفسير ذلك التأرجح بما يلى: 1 الإرهاب الداخلى فى فرنسا حيث يمكن أن تكون هناك أعمال إنتقامية مضادة فى قلب فرنسا. 2 إظهار الإحترام للسيادة الليبية وعدم الرغبة فى توريط القوات الفرنسية فى مغامرة منفردة خاصة وأن محاولة إستصدار قرار من مجلس الأمن بالتدخل الفرنسى العسكرى فى ليبيا قد تواجه بعض العقبات مع إمكانية إستخدام روسيا حق الفيتو لتعطيل إصدار مثل ذلك قرار ردا على المواقف التى تبنتها فرنسا ضد روسيا عقب الأزمة الأوكرانية. 3 تعرض القدرات العسكرية الفرنسية لضغوط القتال على أكثرمن جبهة فى وقت واحد حيث حربها فى العراق ضد تنظيم «داعش» وعدم إنتهاء مهامها فى مالى بشكل نهائى بالإضافة إلى إتساع رقعة عمليات «بوكو حرام» من نيجيريا إلى الكاميرون الفرانكوفونية. 4 الإنشغال فى حالة التوتر السائدة فى شرق أوروبا، وتحديدا حول أوكرانيا، بين روسيا وحلفاءها من جانب والولايات المتحدة وحلفاءها من جانب آخر. 5 الوضع الإقتصادى المحلى والإقليمى. ففرنسا مثلها مثل باقى دول أوروربا تمر بمرحلة تقشف فى محاولة لتحسين موقف إقتصادها كما تستعد لمواجهة إحتمالات حدوث هزة فى منطقة اليورو فى حالة إنسحاب اليونان منها. 6 رؤية تقول بشكوك حول إستدراج الدول العربية، التى نجت من مخططات التفكيك والسقوط فى ظل موجة إضطرابات الربيع العربى، إلى ساحة قتال تستهلك ما تبقى لها من قدرات إقتصادية وعسكرية وسياسية. وهكذا فرض الأمر الواقع نفسه على مواقف فرنسا التى لاتريد الخروج من تدخلها العسكرى فى ليبيا ومالى بخسائر تطال مصالحها فى شمال أفريقيا وحوض المتوسط بل وفى قلب فرنسا ذاتها.