ماإن بلغنى نبأ وفاة أخى وزميل عمرى الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم «أبو همام» حتى امتلأت جوانحى بالشجون والمشاعر وازدحمت على عقلى الذكريات القديمة والمواقف الحديثة فأخوتنا تمتد فى الماضى إلى مايربو على الخمسين عاما, ولذلك أرجو أن يتسامح القراء الكرام حين أستعيد ذكريات النشأة والشباب وقد دنوت من السبعين فكبار السن معذورون دائما فى إلحاحهم على استحضار الماضي,وربما كان فى هذا الماضى ما يفيد باحثين قد تعوزهم معلومات مخبوءة فى غوابر السنين فيجدونها فى مثل مقالى هذا. أخى عبد اللطيف عبد الحليم كان إنسانا خلق للشعر, وقد آثر أن يسمى ابنه «هماما» ويكنى بأبى همام لا لشيء إلا ليظل ملتصقا بالعقاد الذى افتتن به وبشعره ناشئا,«فالعقاد» هو «همام» فى قصته الوحيدة «سارة» التى يصور فيها تصويرا تحليليا لتجربة حبه العنيفة. التقينا أنا وعبد اللطيف ناشئين لم نتجاوز السابعة عشرة سنة 1961 فى المعهد النموذجى الأزهرى فى الصف الأول الثانوى , وقد أنشئ هذا المعهد بقرار جمهوري, واختير الطلاب الذين يلحقون به من المعاهد الدينية التى كان ينتسب كل معهد منها إلى محافظة من محافظات مصر. كنا مائة طالب فى هذه الدفعة الأولى, وصاحب فكرة إنشاء هذا المعهد هو الأستاذ الأديب «محمد سعيد العريان» وكيل وزارة التربية والتعليم آنذاك,وتلميذ الكاتب المعروف مصطفى صادق الرافعى ,وكان الهدف من إنشائه إعداد طلاب أزهريين عصريين يعتمدون على طريقة التفكير والاستنتاج لا على طريقة الحفظ والاستظهار, ويجمعون بين الثقافة التراثية والثقافة المدنية الحديثة,وقد كونت لجنة تربوية تجمع بين مشايخ أزهريين,وأساتذة مدنيين للإشراف على وضع المقررات واختيار المدرسين ومتابعة تطور حركة التعليم فى هذا المعهد , وإمدادها بالعناصر التى تحقق الهدف منه , وكان الأستاذ محمد خليفة التونسى الناقد والشاعر المفكر وتلميذ العقاد الأثير, وصديقه الأمين أحد أعضاء اللجنة من الجانب التربوى المدنى وكان فى الوقت نفسه أستاذاٍّ بالمعهد, فكان من توفيق الله لنا أن نتتلمذ على هذا الأستاذ العظيم, كنت أنا وعبد للطيف وزملاء آخرون مثل عباس بيومى عدلان وأحمد كشك,ومحمد أبو ليلة نتسابق ونتنافس فى التقرب إلى هذا الأستاذ والإفادة من علمه وثقافته , وكان رجلا تقتبس أخلاقه من مشكاة النبوة ,وكان يفيض حنانا أبويا وكان يستمع منا ويصغى إلى جدالنا ويقضى بيننا بطريقة رحيمة لا تغضب المخطئ ولا تغر المصيب. كان عبد اللطيف ابن ريف المنوفية, وكنت ابن الأحياء الشعبية فى القاهرة »الدرب الأحمر وعابدين والسيدة زينب, وكانت نزعة عبد اللطيف أدبية شعرية, بينما كانت نزعتى دينية فكرية ,كان يحفظ دواوين شعرية للقدماء والمحدثين , وقد ورث هذه الحافظة الشعرية عن والده,وكنت غارقا فى كتب الغزالى وابن رشد وابن تيمية, وأدى تنافسنا على صحبة الأستاذ إلى تنافسنا فى الذهاب إلى ندوة العقاد. وتدخل الأستاذ خليفة فأنصفنى منهما فقد تواردت الخواطر, وبقدر ما حزنت من هذا النقد فرحت واغتبطت ,ولم تطل صحبتنا لندوة العقاد سوى عامين ونصف العام وتوفى العقاد , ولكن طالت صحبتنا لندوة الأستاذ خليفة التونسى التى كان يعقدها فى بيته كل ثلاثاء وكان يرودها أكثر تلامذة العقاد وبعض الشعراء المشهورين وردا على مجلة «الصاحبان» صنعت مجلة حائط سميتها «المنار» استرجاعا لسيرة الأستاذ الإمام محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا وكان يشاركنى فى إخراجها وتحريرها. أحمد كشك عميد كلية دار العلوم فيما بعد ,والفنان العبقرى محمد محمد أباظة وكان أحمد كشك ينظم الزجل المبتكر ويحصد عليه الجوائز فكنا نشعر نحوه بالغيرة حزنا على شعرنا الذى لا ينال شيئا كنا طلابا أزهريين فقراء حقيقة, ولكننا أغنياء بقيمنا عبد اللطيف مع كبريائه, وتشبهه بالعقاد فى صوته, وحركة يده إذا تحدث, كان عظيم الحياء, وكان مع ذلك جسورا فى المنازلة الفكرية وكان كريما محبا لزملائه محبوبا منهم, وكنت أحبه وأثق فى علمه وأعرض عليه ما أنظم من شعر على الرغم من المنافسة ,وكان أستاذنا خليفة التونسى يرى فى الطلاب الأزهريين أرضا خصبة تؤتى ثمارها المرجوة إن حظيت بالرعاية والاهتمام. ومن سوء التقدير أن يلغى هذا المعهد بعد أربع سنوات من إنشائه ويسافر الأستاذ خليفة التونسى إلى العراق ثم الكويت محررا بمجلة العربى, وعدنا إلى معاهدنا الأولى ,وبعد حصولنا على الثانوية بتفوق التحقت بكلية اللغة العربية, والتحق عبد اللطيف بكلية دار العلوم ولمع نجمه فيها وتبناه الأساتذة النابهون ثم سافر إلى أسبانيا بعد تخرجه ,وهناك اتسعت رؤيته وظل محافظا على قاعدة الشعر من وزن وقافية وعاد من أسبانيا أستاذا للأدب والنقد فى دار العلوم, واكتسب شعره شوبا من الرمزية ممعن فيها, ونشر سبعة دواوين وعشرين كتابا فى الأدب والنقد ,وعده الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى من أحفاد شوقى مع أنه عاش حريصا على أن يكون من أحفاد العقاد,وبين المدرستين بون شاسع فى النظر إلى الشعر وغايته , رحم الله أخى عبد اللطيف أبا همام ,ومنح شعره الخلود فى الدنيا ومنحه هو خلود الآخرة فى جنات النعيم. لمزيد من مقالات د. محمد فايد هيكل