منذ أن بدأت أحوال كل من المدرسة والجامعة المصرية في التردي والقصور في أداء رسالتهما التربوية والوطنية مع بداية السبعينيات, تكاثرت الدراسات والمقالات والإذاعات المسموعة والمرئية. بل والرسوم الكاريكاتورية في نقد ذلك الأداء. وتبين لنا جميعا المعدلات المتنامية في ذلك التردي الذي تراكمت مؤشراته في جسم التعليم حتي لم يكن من المبالغة اعتباره منظومة مريضة هزيلة. ومع هذا الجسم المريض الذي تتوالي آلامه وأوجاعه لم يفلح معظم ماقدم له من حقن, وروشتات دواء واستراتيجيات علاج في تماثله للشفاء والحيوية وتمام العافية والحول. وتواترت علي علاجه عدة أطباء من الوزراء واعد من في تصريحاتهم بخروجه قريبا من غرفة الإنعاش, لكنها جميعا تفادت وتجاهلت مصدر الداء الحقيقي ونوع الدواء المطلوب لبداية الانعاش الحقيقي. ان مصدر العلة وراء كل مايشكو منه منذ أربعة عقود من الزمان, لايكمن في المناهج, أو في طرق التعليم والتعلم, أو نظام الامتحانات, أو في الإدارة المدرسية أو نظام المركزية أو في عدم المواءمة بين الخريجين وسوق العمل, أو في مستويات جودة الخريجين, ومع تقديرنا لكل ماتستدعيه تلك المشكلات من تطوير فني وتنظيمي إلا أنها كلها تبقي اعراضا جانبية لمصدر أصل تلك العلة الجاثمة, ألا وهو القصور في حجم الإنفاق المالي المخصص لموازنات التعليم. وقد أوضحت في مقال سابق بالأهرام منذ نحو ستة أشهر بعنوان( القول الفصل في تطوير التعليم) مايترتب علي ذلك من تعدد أمراض الجسم التعليمي, وفي أواخر الأسبوع الثاني من شهر مارس هالني أن أجد في نفس هذه الفترة وفي ثلاث صحف مختلفة, بعض صيحات العلماء والمفكرين المعنيين بقضايا مصر المستقبل ومفادها تأكيد قضية التمويل, واعتبارها أم المسائل إذا ما أردنا إنقاذ التعليم مما يعانيه من علل وهزال وأوجاع, وفي هذا الشأن قرأت تصريحات وتعليقات أعمق وأشمل تأثيرا من كتابات أساتذة تربويين. ففي تصريح أ.د فاروق الباز يؤكد أن تطور مصر وتحقيق مسيرة تنموية مستدامة إنما يتم عن طريق منح التعليم والبحث العلمي أولوية مطلقة, مشددا علي ضرورة الإنفاق علي التعليم أكثر من أي مجال آخر. وفي تصريح للدكتور أحمد درويش وزير التنمية الإدارية, أكد الأهمية البالغة للتعليم في تنمية الثروة البشرية والقوي العاملة, ويري أن الإنفاق الحكومي علي التعليم لايتكافأ مع الآمال المعقودة عليه, وأن السعي إلي زيادة فعالية الإنفاق علي التعليم تغدو أولوية بارزة في دعم مسيرته. وفي ندوة مع إحدي الجمعيات الأهلية يتحدث الدكتور حسام بدراوي عن مستقبل التعليم في مصر,ويري ضمن مايجدر تأكيده من أولويات تطوير التعليم أن تحتل قضية الإنفاق علي التعليم موقع الصدارة, وهو يعتقد في هذه المناسبة وفي غيرها من المناسبات تخصيص ميزانية لاتقل عن ضعف الميزانية الحالية, وهذا يعني ان يكون ماينفق علي التعليم بما لايقل عن8% من الناتج المحلي الإجمالي إذ أن النسبة الحالية قد تدنت في السنوات الست الماضية إلي نحو4% في المتوسط حتي وصلت هذا العام4.3%, ويعني هذا أيضا أن يكون نصيب التعليم من الموازنة العامة مابين20% و22% بدلا من14% نصيبه الحالي. أما الاستاذ الأديب فاروق جويدة في مقاله في الأهرام بعنوان( ثلاثية الإصلاح في مصر) فإنه يري أنه لن تخرج مصر من أزماتها إلا إذا أصلحت منظومة التعليم الفاسدة من خلال تعاون وتكامل وزارات التعليم والإعلام والثقافة, ويهيب بنا أن( أعيدوا للمدرسة قيمتها ومواردها ودورها في ايجاد أجيال جديدة). ومن ثم فإني سأستمر مرددا إلي ماشاء الله صيحة الحاجة الملحة لتمويل يتكافأ مع متطلبات التعليم الأساسية, بعيدا عن مواكب النفاق والتدليس والتزييف وتجارة الأوهام والإبداع أو صولات التخويف بالحزم والصرامة في انضباط العملية التعليمية, أو الإبهار بأفاعيل التكنولوجيا. ولا أري بعد اليوم مجالا لارتباطه بمفاهيم جديدة في متاهات إصلاح التعليم إلا من خلال تأكيد الأولوية القصوي للتمويل الضروري. وهو لزوم من قبيل فرض عين وما يأتي بعد مما نردده من ضرورة المشاركة المجتمعية يعتبر فرض كفاية وما أندره!! إن قضية التمويل ثم التمويل الكافي لإنقاذ التعلم من غرفة الإنعاش وسريان دم العافية في جسده هي القول الفصل وما هو بالهزل, في مسيرة التعليم الناهضة ليحقق طموحاتنا ومقاصدنا الجوهرية في مصر المستقبل لكي تكون قاهرة الأيام ومحققة الحلم الجميل.