اليوم هو الثلاثون من ديسمبر، ولم يبق إلا يوم واحد على انتهاء العام، عام 2014، الذى شهد مولد روايات ومجموعات قصصية كتبتُ عن بعضها على مدار العام، كما شهد رحيل بعض من كتبوا تلك الأعمال، وآخرهم الرائعان رضوى عاشور ومحمد ناجى. ومع حلول هذا الشهر تجمعت لدى كتب أدبية من مواليد 2014، بعضها صدر فى ديسمبر والباقى أثناء العام، ولم أكن قد قرأته بعد. 6 كتب، منها روايتان ومجموعة قصصية، ورابع هو نتاج يجمع ما بين طبيعة الرواية والمجموعة واليوميات السياسية، هو ذلك العمل البسيط البليغ «ثلاثة مشاهد للعلم»، لأحمد أبوخنيجر (سلسلة كتابات الثورة)، وخامسها نصوص عامية أقرب للشعر ومعظمها موزون يلتزم إيقاع بحر شعرى قريب من الكلام العادى هو بحر «الخبب»، ويمكن أن نسميها خواطر شعرية، ذلك هو كتاب «رجل الحواديت» للزميلة آمال عويضة (عن سلسلة حروف). كتاب سادس, لزميلة أخرى هى الدكتورة هالة أحمد زكى، يسرد بعض مشاهد من تاريخ القاهرة الإسلامية وبيوتها الأثرية بحس أدبى يُفرز أحياناً مقاطع ذات جمال شعرى، هو كتاب «دقات على باب مصر» (الصادر عن سلسلة اقرأ).
فأما الروايتان، فهما «عطارد» لمحمد ربيع (عن دار التنوير)، و«انحراف حاد» لأشرف الخمايسى (عن الدار المصرية اللبنانية)، وأما المجموعة القصصية, أو سبحة اللؤلؤ، فهى «كما يذهب السيل بقرية نائمة» لمحمد عبدالنبى (عن دار ميريت), أخيراً وليس آخراً. لنبدأ إذن بالنهاية. ولن نتحدث عن قصص المجموعة التسع فرادى، بل سنتحدث عنها كوحدة إبداعية واحدة، كقصة واحدة كتبت بتسع طرق مختلفة. وهذا يقودنا للبحث أولاً عن أوجه التشابه بينها، قبل الإعجاب بتنوعها الكبير، كأننا إزاء زهرة النرد، من بعيد تتطابق جوانبها، وعن قرب يعطينا كل وجه قراءة مختلفة. القصص التسع فيها سخرية حزينة، فيها عدم احتفاء بالواقعية كمذهب فنى، وتمرد كامل على الحياة اليومية، مع انتقاء مفردات منها فى نسيج سوداوى يجنح للسيريالية ويقترب كثيراً من روح الشعر، فى رثاء متنوع الأشكال، يدنو أحيانا من الهجاء، لمدينة لا ترى البحر، أو تظن أنها تراه. فى استطراد حزين لهذه النغمة، نأتى لعمل شديد الحزن هو الآخر، بل ربما كان أشد حزناً. تلك رواية «عطارد» لمحمد ربيع، ذلك المولود الديسمبرى المرتعش من البرد، الكتاب الفواح بعطر الأحلام المقتولة، الذى يرى القاهرة عام 2025 ويروى عنها، فنبصر شوارعها وقد تراكمت فيها الجثث، ونرى بطل الرواية، وهو ضابط سابق، يخوض فى بحر الجثث، بل ويضيف إليها، وهو يبكى على الأحياء منهم والأموات، وقد تصور أنه مبعوث الرحمة، ومهمته أن يشحن المعذبين إلى الجنة بتخليصهم من الجحيم الذى هم فيه. والرواية فيها بعض المغالاة، لكن صياغتها اللغوية بديعة، وقدرة كاتبها على التصوير مبهرة، وقراءتها متعة رغم تلك المغالاة فى القتامة والدموية. الرواية الثانية والأخيرة فى هذه الصحبة هى رواية أشرف الخمايسى «انحراف حاد»، حيث تستمر السيرالية، والكابوسية أحياناً، التى نلمسها بدرجات فى العملين السابقين، كما يواصل الخمايسى مطاردة هاجسه الصوفى الذى طالعناه فى «منافى الرب». وإخلاصاً لحالة القتامة العامة، ينتهى العمل، الذى يجتمع أبطاله فى ميكروباص، نهاية كارثية. وقد أجاد الخمايسى تضفير الحكايات التى تخص كل ركاب الميكروباص الأربعة عشر. نغمة مختلفة تماماً تصعد من أوراق الكتاب الصغير الشجى «ثلاثة مشاهد للعلم» لأحمد أبو خنيجر، المكتوب فى أجواء ثورة 25 يناير، والذى يحتفى بعودة العلم، بكل رمزيته وبكل الشحنة العاطفية التى يفجرها فى القلوب ومن القلوب للعيون، والذى كنا قد فقدناه ومات فى قلبنا معناه فى الأعوام الطوال العجاف التى سبقت الثورة، وحلت محل الرمز الجليل الدائم صورة الزعيم الزائل. أجمل ما فى الكتاب بساطة لغته وصدقها، وعدم احتفائها بالشكل الأدبى، فكأن كاتبه يتكلم لا يكتب، ولا يأبه بتصنيف ما يقول فى أنواع القول الأدبى وقوالبه. ويغلب على العمل تفاؤل وحماس يستدعى الدمع إلى العيون. أختم بنصين، أحدهما من كتاب الزميلة آمال عويضة «رجل الحواديت»، والآخر من كتاب «دقات على باب مصر» للزميلة الدكتورة هالة أحمد زكى. نبدأ بنص الخانقاوات من كتاب «دقات على باب مصر»، وهى أوقاف سلطانية كانت تخصص لأهل التصوف فى القاهرة الفاطمية وحتى المملوكية، وكانت أحياناً بيوتاً للدرس أيضاً، وأصبحت «تكايا» فى العصر العثمانى: «يحكى أنه فى زمن بعيد، كانت الشوارع والطرقات فى بر مصر تسكن إذا ما سجا الليل، فلا تكاد ترى من حولك إلا خيالاً، لظل يتحرك حول ضوء مصباح خافت، أو شمعة متواضعة لمن تتجافى جنوبهم عن المضاجع.. لكن الأذن تسمع، قبل أن يرتفع صوت المؤذن فى الفجر، صوت ذكر خافت.. أصوات جميلة تسبح الله.. تصدر من مكان قريب.. من إحدى الخانقاوات». ومن «رجل الحواديت» هذا النص: أما غريبة، أما عجيبة، يعنى المفروض الواحد يسكت ويكفى على حزنه ألف ماجور، علشان الواحد م الناس التانيين ما يعكرش مزاجه بسلامته، بشوية هم، وشجن، وألم، وحنين، من واحد كان قافل على نفسه كل الأبواب، وحايش عن شجرة حزنه السودا الغامقة أى شعاع هربان م الشمس. ولذلك وبناء على المذكور عاليه: هذا ندائى مكتوب بالذات للناس التانية القادرة العايشة بالعضلات القاسية: «بص يا سيدى، يا اللى من الناس التانيين، وانت يا بيه يا اللى مضايقك كلام مش فارق من واحد غلبان قلبه، وفقير أهله، وكل ما حيلته حساب جه حظك إنك تبقى جوه رصيده، فُكك منه، إرخى أحلى ستارة تمنع عنك يوم حزنه، وغربان يأسه، وحدادى تخطف كتاكيت فرحك، اقفل عنه طلعة بدرك، وامنع عنه شمس عيونك، وافضل جوه استديو عظمتك، واخرج لينا فى الأساطير أبوزيد زمنك، أو عنتر شايل سيفك اللى بيلمع فى وش الغربان والبوم». وبعد، لم أشأ أن يمر العام دون أن أكتب، ولو قليلاً، عن هذه الأعمال، التى قرأتها فى اللحظة الأخيرة، والتى يستحق كل منها مقالاً منفرداً. لكن عزائى أن أكون نجحت فى تحريض القارئ العزيز على هذه الأعمال، فيوسعها قراءة، تعويضاً عن ضيق الحيز، زماناً ومكاناً، حيث لم تنصفها الكتابة النقدية وظلمها الإيجاز حين وجب الإسهاب. لكنى متأكد أنها تعرف جيداً كيف تتحدث عن نفسها.