الكثيرون فى الغرب لا يتصورون وجود مسيحيين فى منطقة الشرق الأوسط، فالعالم العربى فى نظر الغرب هو الإسلام، رغم أن المسيحيين فيه يُعَدُّون بالملايين، وغالبا ما يتم تناسى أن العالم العربى هو مهد المسيحية. ويعيش فيه حوالى 18 مليون مسيحي، تدق كنائسهم أجراسها ويحتفلون بعيد الميلاد المجيد وينشدون التراتيل الدينية المسيحية فى مصر ولبنان وسوريا وفلسطين والأردن والعراق. وعلى مر القرون، لعب المسيحيون الشرقيون دوراً حضارياً وثقافياً وعلمياً فى هذه البلدان، وعاشوا بسلام مع المسلمين ولكنهم لم يسلموا فى كثير من البلدان من فتاوى القتل والإرهاب والتهجير التى لم تفرق بين المسلمين والمسيحيين على السواء، بسبب تنامى التيارات الإسلامية المتشددة التى تصل فتاواها إلى حد تحريم تهنئة الإخوة الأقباط فى عيد الميلاد المجيد. وبرغم أن هناك بعض المتشددين الذين حرموا على المسلمين تهنئة المسيحيين فى أعيادهم، بدعوى تعارض ذلك مع الشريعة الإسلامية، فإن علماء الأزهر يؤكدون أن ديننا الوسطى الحنيف، أوصانا أن نبرهم لأنهم شركاء الوطن، ولهم حق الجوار، ومن حقوق الجار أن نقول لهم كلمة طيبة بمناسبة انتهاء العام الميلادي، وأن تهنئة الإخوة الأقباط من قبيل البر والإحسان إلى الجار وأمرنا الإسلام بهذا، كما أباح الإسلام الهدايا بين المسلمين وغيرهم، بل أجاز العلماء الأكل من ذبائحهم والتزوج من نسائهم، وذلك من باب تقوية الروابط وتقوية الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط. ويقول الدكتور عبدالحليم منصور، وكيل كلية الشريعة والقانون بالدقهلية، إن تهنئة غير المسلمين بأعيادهم مشروعة، لأن الأقباط شركاؤنا فى الوطن وجيراننا ونعيش معهم ويعيشون معنا فكيف لا نهنئهم؟ فعن عبد الله بن عمرو أنه ذبحت له شاة فجعل يقول لغلامه أهديت لجارنا اليهودى أهديت لجارنا اليهودى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:» ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه «. وتهنئته الأقباط بأعيادهم من قبيل البر الذى دعا إليه القرآن الكريم قال تعالى :» لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ «. كما أن الأقباط أقرب الناس مودة إلينا نحن المسلمين قال تعالى فى سورة المائدة :» لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ «. والإسلام أباح لنا طعامهم وأباح لنا التزوج من نسائهم فكيف يحرم بعد ذلك تهنئتهم . قال تعالى «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ « وأضاف: إن التزاور مع غير المسلمين من أقباط وغيرهم جائز فقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام دخل على جاره اليهودى يعوده فقال : اشهد أن لا إله إلا الله ، وأنى رسول الله ، فنظر الرجل إلى أبيه فقال له : أجب أبا القاسم ، فشهد بذلك ومات ، فقال ? : ‹ الحمد لله الذى أعتق بى نسمة من النار ‹ كما أباح الإسلام معاملة غير المسلمين بيعا ورهنا وإجارة وغير ذلك فعن عِكْرِمَةَ عَنِ بن عَبَّاسٍ قال قُبِضَ النبي? ودرعه مَرْهُونَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ من يَهُودَ على ثَلاَثِينَ صَاعاً من شَعِيرٍ أَخَذَهَا رِزْقاً لِعِيَالِهِ « فكيف يبيح الإسلام معاملتهم على هذا النحو ولا يبيح مجاملتهم بالتهنئة فى مناسباتهم؟! وأكد الدكتور عبد الحليم منصور، أن ما ذهب إليه المخالفون من عدم الجواز فهذا – فيما يبدو لى – محمول على حال قيام العداوة بين المسلمين وغير المسلمين، ونشوب الحروب فيما بينهم، ففى هذه الحالة يتأتى القول بالمنع، وعلى هذا يحمل كلام العلامة ابن القيم وابن تيمية فقد عاشا زمن هجوم التتار على المسلمين وما حدث من اعتداء على المسلمين فى هذه الحقبة، فكان قولهما محمولا على حال قيام حرب بين المسلمين وغيرهم، أما إذا تغير الحال وتبدل الوضع وصارت العلاقة بيننا وبينهم علاقة سلام ففى هذه الحالة يتأتى القول بالجواز، وهذا ما هو حادث الآن. تقوية الوحدة الوطنية وفى سياق متصل يرى الدكتور عبدالفتاح إدريس، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، أن الإهداء وقبول الهدية من غير المسلم جائز أيضًا، وهدية غير المسلم لا بأس بها ومستحبة لأنها من باب الإحسان، وأنه لا مانع شرعاً من التهنئة بتلك المناسبات التى تقوى دعائم الوحدة الوطنية، وتؤكد عظمة الإسلام وسماحته تجاه الآخر والشريك فى الوطن. وعلينا أن نتأمل اختيار القرآن للتعامل مع المسالمين من أهل الكتاب فى كلمة (البر)، حينما قال الله عز وجل (أن تبروهم)، وهى الكلمة المستخدمة فى أعظم حق على الإنسان فى الحياة بعد حق الله تعالى، وهو(بر الوالدين)، وأجازت لنا آيات أن نأكل من ذبائحهم، فقال تعالى: “الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ)، والتهنئة فى هذا اليوم من باب الإحسان الذى أمرنا الله عز وجل به مع الناس جميعا دون تفريق، لقول الله عز وجل (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)، وأيضا (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)، وأن الله عز وجل، لم ينهَنا عن بِر غير المسلمين، وأشكال البر عديدة، وأقلها كلمة طيبة، وذلك فى قوله تعالى : (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المقسطين)، وهذه المناسبات فرصة جيدة لنشر الحب والسلام على الأرض وتأكيد لصلات الترابط والأخوة بين المصريين والشعوب جميعا.