صاح زملائي: اقفز.. سنتأخَّرُ.. أمامنا برنامج حافل ! فتغلَّبت على ترددي، ورددَّت : لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله؛ وقفزت في الزورق، فتأرجح، حتى اتَّخذتُ مكاني على أحد جانبيه؛ وتحرَّك. لا أُخفي عليكم.. كنت خائفاً، فهذه أوَّل رحلة لي في هذا البحر. إنه بحرٌ تتبدَّل أحواله بين ساعة وأخرى؛ و زورقنا ! .. آهٍ من زورقنا ! .. إنه يحمل اسم (زورق أبحاث)، ولكنه آخر الزوارق الصالحة للأبحاث .. جسمه خشبي، متهالك، يرتجُّ بتأثير دوران آلته المحرِّكة العجوز، التي بدأت – فعلاً – في الدوران .. الحمد لله .. وهي تنفث هبَّاتٍ صغيرة متتالية من دخان أسود، ويتناثر منها، على ملابس من يجاورونها، رذاذٌ زيتي. وعليَّ أنا أن أشارك في هذه المهمة العلمية، في البحر الأحمر، فوق هذا الزورق العجيب، الذي انتهى عمره الافتراضي، منذ زمن طويل !. سألت عن قائد الزورق وبحَّارته، فتضاعفت مخاوفي. لم يكن له قائد محدد، بل ثلاثة من عمَّال مركز الأبحاث، لا يوحي مظهرهم بأي درجة من الثقة !. على أي حال، لم يكن أمامي سبيل للتراجع، فالمهمة العلمية ضرورية، إذ كان علينا أن ندرس أحوال القاع، في موقع يتوسَّط مجموعة من الجزر الصغيرة، في مدخل خليج السويس، بعد تعرُّض المنطقة لحادث تسرُّب كمية من خام النفط، من ناقلة عملاقة. كنت أحد المكلَّفين بإجراء هذه الدراسة الحقلية .. وأنا لا أتراجع عن أداء واجبي، حتى وإن كان عليَّ أن أقوم بالعمل في زورق يلهث، وبمساعدة من بحَّارة يثيرون الشفقة، أكثر مما يوحون بالثقة. تحرَّك الزورق يحمل أفراد الفريق العلمي الثلاثة، والبحَّارة الثلاثة. غادرنا رصيف مركز الأبحاث، في شمال مدينة الغردقة، متَّجهين شمالاً، إلى مدخل خليج السويس. كانت الساعة، وقت أن تحركنا، تشير إلى العاشرة صباحاً؛ وكان تقديرنا أن نصل إلى الموقع في الواحدة ظهراً؛ ولكن الأعطال التي أصابت محرِّك زورقنا أرغمتنا على إبطاء سرعة الزورق، وهي بطيئة، أصلاً .. وقد أورثنا ذلك الملل والتوتُّر، فشاء زميل لنا – خفيف الظل – أن يهوِّن علينا الأمر، فأعلن أنه سينزل إلى الماء، ويسبح بجوار الزورق، ويسبقنا إلى الموقع. أخذنا نداعبه، وهو يعوم متجاوزاً الزورق؛ وفجأةً، صاح أحد بحَّارتنا، محذِّراً من أن المياه التي نمرُّ بها الآن مليئة بأسماك القرش؛ فأصاب الهلع صديقنا، حتى أنه أسرع وقفز إلى الزورق، في لحظات معدودة. ولم تمر دقائق قليلة، حتى رأينا بأعيننا سرباً من الأقراش، يحوم في المياه حول الزورق، فحمدنا الله على أن سبَّاحنا المغامر عاد بالوقت المناسب. لكن ذلك الأمر جعلني أراجع انطباعاتي عن بحَّارة زورقنا، بل إنني عاتبت نفسي، فقد حكمت على الرجال الثلاثة من خلال مظهرهم المتواضع. وتعمَّدتُ أن أُظهر تقديري للبحَّار صاحب نداء التحذير، وقسَّمت عليه، وزميليه، قالباً من الشوكولاتة. أخيراً، وصلنا إلى الموقع، وقد تجاوزت الساعة الثالثة عصراً؛ فبدأنا عملنا على الفور. وفوجئنا بأن حجم التسرُّب النفطي أكبر من التقديرات الأوَّلية التي نُقِلت إلينا؛ فكان علينا أن نبذل جهداً مُضَاعفاً؛ وانشغلنا بالعمل، ولم نلتفت لتقدُّم الوقت؛ حتى فوجئنا بالغروب الوشيك. وكانت خُطَّتنا قائمة على أن ننهي عمل اليوم، ونلجأ إلى جزيرة قريبة، ننصب فوقها خيمة جلبناها معنا، نقضي بها ليلتنا، ثم نعود إلى نفس الموقع، في صباح الغد، لنستكمل أبحاثنا الحقلية في بقعة الزيت الخام. غير أن الاضطراب الذي حلَّ بمواعيد الرحلة، جعلنا نتوقَّف قليلاً، لنعيد ترتيب بنود خطَّتنا. قال أحد البحَّارة : المسافة إلى الجزيرة طويلة، وسيدركنا الظلام ونحن بمنتصف الطريق إليها.. وهي محاطة بالشعاب المرجانية، ذات الأطراف الحادة، في المياه الضحلة حولها، وفي ذلك خطر على القارب !. سألناه : وما العمل ؟. قال : المسافة إلى نقطة حرس الحدود، على شاطئ الخليج، أقرب، والمياه آمنة .. ويمكننا أن نصلها مع الغروب. وبدون أي مناقشة، تحرَّكنا باتجاه نقطة الحراسة، وقد لفَّنا الصمت، وبداخلنا خوف من أن يخذلنا الزورق الضعيف .. وقد خذلنا !.. إذ تعطَّل مرَّتين، وكأنه يعاندنا ويتحالف مع الوقت ضدَّنا، حتى أننا وصلنا النقطة بعد أن سقطت الشمس في البحر، عند الأفق الغربي. وحدث ما كنَّا نتوقَّعه ولا نحبه؛ إذ صاح فينا جنود الحراسة، محذِّرين من مغبَّة الاقتراب. قالوا إن لديهم أمراً بإطلاق النيران على أي جسم يطفو فوق سطح البحر، بعد غروب الشمس. وكنا على علم بذلك، فهذا إجراء أمني، علينا أن نحترمه، لأنَّه موجَّه إلى مهرِّبي المخدرات والسموم البيضاء، لحماية أهلنا من شرورهم .. غير أن صعوبة الموقف جعلتنا نرجوهم أن يتصلوا بقادتهم، ويتحققوا من شخصياتنا، ويسمحوا لنا بالمبيت عندهم، فالبديل صعب ومحفوف بالمخاطر. ولكن الجنود الأمناء أبوا، وأمرونا، في حزم، أن نبتعد عن النقطة، ونعود إلى البحر المظلم؛ وكان علينا أن نطيع. أخذنا نتخبَّط في الظلام الحالك، وكان القمر غائباً. كان الخطر يحيط بنا من كل ناحية.. فنحن لا نقدر على قضاء الليلة في زورق متهافت، فهل نغامر بالتوجُّه إلى الجزيرة ليلاً ؟. فجأةً، قال أحد البحَّارة، وهو أكبرهم عمراً وأقلُّهم حجماً: _” سنصل إلى الجزيرة، بإذن الله !”. واعتلى مقدِّمة الزورق، وجلس القرفصاء، وعيناه مسددتان إلى الماء، والزورق يسير على مهلٍ؛ وكان الرجل يردد، كل بضع ثوانٍ، كلمة : “غزير” ؛ فلمَّا سألت عن معناها، قيل لي إنها تعني ارتفاع الماء تحت الزورق، وابتعاد قاعه عن أسنان الشعاب المرجانية. وعلمت أن ذلك البحَّار قد ورث هذه الخبرة عن أبيه، فهو يعجز عن رصد شفافية الماء بعينيه، في هذا الظلام، فيستعيضُ عن ذلك بأن يستمع إلى صوت ارتطام المياه بجسم الزورق، ويترجم ذلك إلى (غزير)، فيمضي الزورق؛ فإن لم يكن الماء تحته غزير، صاح بزميله أن يوقف الزورق تماماً، ويعدِّل اتجاهه. ظلَّت قلوبنا معلَّقةً بكلمة (غزير)، وكانت أحلى كلمة في اللغة العربية !. فلمَّا أعلن ملاَّحنا الخبير أننا قد وصلنا، تنفسنا الصعداء، وحمدنا الله. عاد يقول : _” ولكننا لن نرسو على الجزيرة مباشرةً، لنبتعد عن الشعاب ..” فكان علينا أن ننزل إلى مياه ترتفع حتى صدورنا، نحمل أمتعتنا فوق رؤوسنا، لنحميها من الابتلال، ونتحسس القاع بأقدامنا، حتى لا تمزِّق الشعاب المسننة أحذيتنا. وكانت فرحتنا بالغةً، حين وطئت أقدامنا أرض الجزيرة. نسينا التعب. نسينا الخوف. نسينا الجوع؛ وكنَّا قد فقدنا كل المواد الغذائية، حين سقط صندوقها في البحر، ونحن نخوض في المياه إلى أرض الجزيرة. وأسرعنا نقيم خيمتنا، ونستسلم بداخلها لنوم عميق. استيقظنا في الصباح الباكر على أصوات زاعقة. كانت الطيور البحريَّة تحوِّم فوق الخيمة، كأنها تستنكر وجودنا. نظرنا حولنا، فأدركنا سرَّ انزعاجها منَّا .. لقد دخلنا أرض أعشاشها !. فقررنا أن نعتذر، وفككنا الخيمة، وغادرنا المكان؛ وجلسنا عند خطِّ الشاطئ، محاطين بأجمل لوحة طبيعية يمكن أن تراها عين .. بِركُ المدِّ والجزْر، وجانبٌ من الشعاب المرجانية، تراها أعيننا من خلال المياه بالغة الصفاء، بكل أنواع الكائنات الحية التي تعيش فيها ومعها. غير أن متعتنا بالطبيعة الساحرة أفسدها إحساسنا بالجوع؛ فنحن لم نأكل شيئاً منذ منتصف نهار الأمس، مع كل ما كابدناه من جهد ومشقَّة.. ثم إننا فقدنا رصيدنا من الطعام، فما العمل ؟!. وكنت أنا أكثر أفراد الفريق إحساساً بالجوع، فجاءني البحَّار الثالث، غير البحَّار الذي أنذرنا بأسماك القرش، وبحَّار (غزير)؛ وقال لي : _” هل يمكنك أن تصبر ساعتين ؟” . قلت _ “ نعم .. فماذا ستفعل ؟”. قال : _” ذهب صندوق الطعام للأسماك ليلة الأمس .. سآتي إليك بالأسماك التي أكلت طعامنا !!”. وغاب عن أنظارنا ساعةً، وعاد وفي يده خيط يتدلَّى منه عدد من الأسماك الكبيرة، هو نفس عدد أفراد المهمة. وضع الأسماك أمامنا، ثم غاب لدقائق؛ وعاد يجرُّ وراءه كومةً من الأعشاب الجافة، أشعل فيها النيران، وشوى عليها الأسماك. وجلست مع المجموعة، أتناول أشهى وجبة في حياتي. بعدها، عدنا إلى زورقنا، يحملنا إلى موقع العمل، لننتهي منه، ونأخذ طريق عودتنا إلى مقرِّ المركز، عند الحدِّ الشمالي لمدينة الغردقة. كان الزورق يسير بنفس البطء، وله نفس الصوت المزعج، ونفس الارتجاجات.. ولم أكن أشعر بإرهاق، وكنت مطمئنَّاً، فاستسلمت للنوم في أرضية الزورق. ولمَّا وصلنا إلى المركز، كان أول ما فعلته أن كتبت تقريراً، رفعته لرؤسائنا، أطلب فيه مكافأة ثلاثة خبراء: أحدهم، يشعر باقتراب الأقراش دون أن يراها؛ والثاني، لديه إحساس فائق بالشعاب المدببة، دون أن يراها؛ أمَّا الثالث، فلديه قدرة هائلة على استعادة ما استولت عليه أسماك البحر الأحمر من طعامنا !.