لم تعد الأرض التى اغتصبها الصهاينة المستعمرون هى أرض الميعاد كما ادعوا بأنها وصايا التوراة، بعد ان ازدادت بصورة كبيرة الهجرة العكسية من إسرائيل لمن هم فى عمر الشباب الباحثين عن فرص للتعليم والعمل وأعتبروا ان أرض الميعاد هى التى تحمل لهم مستقبلا افضل مثل المانيا وكندا واستراليا والولايات المتحدة، كما أن الإسرائيليين الشباب أقل تمسكا بالهوية العقائدية الصهيونية، وأكثر بحثا عن المكاسب المادية، وهو ما يفسر تفاقم الهجرة السلبية، وكثيرا من الإسرائيليين يريدون كيانا اقتصاديا- اجتماعيا معقولا ولا يرضون بمحاولات إسكاتهم والتهرب منهم من خلال فزاعة الأمن ويرفضون نظام حكم قومجي- ديني يتدخل بفظاظة بحياة الفرد ويفرض عليه قيمه ويمارس التمييز العنصري ضد أجزاء من مواطنيه ويحتل شعبا آخر، حتى تحولت إسرائيل لمكان بلا أمل يدفع للهجرة. وتشير تقارير رسمية ودراسات أكاديمية إلى أن نحو 26 ألف إسرائيلي غادروا خلال السنوات الأربع الماضية، وأن 45% من الإسرائيليين يفكرون في الهجرة ويكثر الحديث فى الإعلام الإسرائيلى عن تحليل الأسباب ومنها ضعف الفكرة الصهيونية، والتدني الكبير في مستوى وجودة الحياة وتدنى المستوى الإقتصادى القائم على الهبه والمنح، بخلاف التهديد الأمنى المستمر الذى يروج له اليمين الإسرائيلى لتبرير الإعتداءات والهوس فى فكرة جيش الدفاع الذى ينفق على الأمن ما يجعل الإسرائيليين أكثر فقرا ويخفض قوتهم الشرائية ويضيق من معدلات رفاهيتهم الإنسانية، ويبلغ متوسط أعمار الإسرائيليين المغادرين 28 عاما، ويشكل اليهود الروس 40% منهم، إذ يعودون لوطنهم الأم أو ينتقلون للولايات المتحدة ودول غربية أخرى، وحسب دراسات جهات رسمية فى إسرائيل فإن عدد المهاجرين مرشح للتصاعد في السنوات القادمة لعدة أسباب مقابل توقف للهجرة اليهودية إلى إسرائيل تقريبا، منذ هجرة مليون روسي للبلاد في 1990 عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، كما أن نسبة عالية من الإسرائيليين الذين يفكرون في الرحيل هم من الروس أصلا الذين بلغوا البلاد لدوافع اقتصادية، وظلوا حتى اليوم يحافظون على ثقافتهم وعاداتهم ولغتهم الروسية. إن ظاهرة الهجرة المعاكسة ليست جديدة في إسرائيل، لكن الجديد أنها علنية ويمكن التعامل معها كهجرة جماعية لفئة الشباب داخل إسرائيل، وقد أثارت دعوة أطلقتها جماعة من الإسرائيليين المهاجرين إلى العاصمة الألمانية برلين، جدلا إسرائيليا بشأن الهجرة المعاكسة، الدعوة ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي لحث الإسرائيليين على الهجرة بسبب تكلفة المعيشة في إسرائيل، وقضايا أخرى تتعلق بالعدالة الاجتماعية والاحتلال المستمر للأراضي الفلسطينية وبالحرب على غزة، وما ترتب على ذلك من تهديد مباشر للإسرائيليين، والدعوة بهذا الشكل العلني للهجرة من إسرائيل تعكس تآكلا في القيم التي تجمع المجتمع الإسرائيلي، وتؤكد وجود انعكاسات سلبية على المجتمع، خاصة أن غالبية المهاجرين هم من شباب النخب، وهو ما يؤثر على الاقتصاد، والترابط بين الأجيال المسنة والأجيال الشابة، كذلك على الجانب الأمني والعسكري، وبالتالي تضرب المشروع الصهيوني في الصميم، وتعريه أخلاقيا امام اليهود المهووسيين بفكرة أرض الميعاد. قلق فى دوائر السياسة والإجتماع وفى تحليلها للظاهرة قالت إذاعة صوت إسرائيل أن الشباب الإسرائيلي لا يجد سببا منطقيا للبقاء في إسرائيل في ظل استنكاف رئيس حكومتها عن طرح أي رؤية سياسية لتسوية الصراع مع الفلسطينيين، أو خطة لتحسين مستوى المعيشة، مواظبا على إطلاق سيناريوهات كارثية حول إبادة الشعب اليهودي، فيما توجه موارد البلاد للمستوطنات بدلا من توظيفها في توفير خدمات الشعب، وأشارت الإذاعة إلى دور الهجمات المتتالية على سلطة القانون والحريات وتشريع القوانين غير الديمقراطية مثل ماوصفته بقانون الإقصاء المسمى "يهودية الدولة"، ويتعرض المهاجرون الإسرائيليون لانتقادات قاسية من الحكومة منها التشكيك بوطنيتهم ووصفهم بمناهضي الصهيونية، لكن صحيفة "هآرتس" توضح أن الهجمات على المهاجرين التي تلوح بالمحرقة تعكس لب المشكلة وتقول إن قادة اليمين لم يدركوا ما يطمح له قسم كبير من الإسرائيليين الراغبين بحياة طبيعية بدلا من حياة الخوف وفوبيا التسلح والإستيطان والتلويح بالمحرقة، فتكون المشكلة ليست بالمهاجرين بل بحكم اليمين الذي لا يقترح عليهم مستقبلا أفضل من استمرار العيش على حد السيف وصك استعباد اقتصادي يستنزفهم. ويقول ميرون رابابورت، المحرر في القناة الإسرائيلية الثانية، إن خصوصية هذه الدعوة أنها جاءت من برلين، وهو مكان له معنى يختلف عن معاني الأماكن الأخرى للإسرائيليين واليهود عموما، ويرى أن النظرة في إسرائيل للمهاجرين تغيرت منذ عهد رئيس الوزراء السابق إسحاق رابين الذي وصف المهاجرين بالطفيليات، وأشار إلى أن الهجرة إلى برلين بمثابة استعارة لإمكانية أن يحيا اليهود خارج إسرائيل، باعتبار أن ألمانيا مارست القمع ضد اليهود في الماضي، وكثيرون غادروا إسرائيل لشعورهم بالعزلة، وعدم التمتع بحرية التعبير والحركة، فى ظل مظاهر القمع والاضطهاد الإجتماعى، فمن الطبيعي أن تثير هذه الهجرة المعاكسة جدلا وقلقا في المجتمع الإسرائيلي.