الرائحة لا تطاق، ومع ذلك فهناك من يسد أنفه ويمد يده ليقلب أكوام القمامة رأسا على عقب بحثا عن لقمة عيش جافة يلوكها بأسنانه، أو علبة عصير فارغة يرفعها إلى فمه إستجداء لأى بقايا تنزل جوفه. ليس منا تقريبا من لم ير هذا المشهد مرة واحدة على الأقل فى شوارعنا ... طفل صغير أو شيخ كبير أو إمرأة ذات مظهر رث وفقير يسدون رمقهم مما يلقيه الغير.. هناك من أثار هذا المشهد لديه ماهو أكثر من مصمصة الشفاه وزفرات الحزن والآه، هناك من فكر وقرر أن يجعل لهؤلاء طعاما يأكلونه أيضا فى الشارع ولكن من صندوق آخر مغلق ونظيف، يأكلون ويشربون ويشبعون دون أن يمدوا أيديهم أو يفقدوا آدميتهم ولا كرامتهم من أجل لقمتهم. نقطة البداية ملاحظة شاب يعمل مهندسا باحدى الشركات ويقيم بمحافظة الإسكندرية لكثرة مشاهد الواقفين بباب المطاعم، أملا فى أى سندوتش أو بقايا «كانز» يجود به أحدهم، بالإضافة لمشاهد البحث عن الطعام فى صناديق القمامة وهنا قرر المهندس محمد عبدالفتاح الذهاب لأحد النجارين لمحاولة إخراج الفكرة التى جاءته إلى حيز الواقع، يقول لنا: تعبت كثيرا حتى استطعت الوصول لتصميم صندوق لاتزيد مساحته عن 50 50 يتم تثبيته فى الشارع ليتم وضع أى طعام مغلف به أو ساندويتشات أو علب عصير، يستفيد منها الفقراء، وقررت البدء بأحد مطاعم الفول والطعمية والوجبات السريعة الشهير بالاسكندريه وفاتحته فى رغبتى بتثبيت الصندوق على حائط المطعم من الخارج، على أن تكون مهمته متابعة الصندوق وتنظيفه ، ففوجئت بترحيبه بالفكرة، وحدثنى عن كمية الخبز والمخللات والسلطات التى تتبقى من رواد المطعم، ويتم إلقاؤها فى القمامة يوميا، يكمل محمد الذى يحتفل هذا الشهر بمرور عام على تركيب أول صندوق لحملته التى رفعت شعار: مكافحة الجوع سهلة، بدأت أراقب الموقف ولاحظت إستفادة فئات كثيرة من الأطعمة التى يتم تغليفها ووضعها بصورة لائقة، فعامل النظافة بالشارع يتناول إفطاره منها وكذلك الأطفال الذين يعملون فى جمع بقايا الكراتين، والذين كنت أشاهدهم يأكلون دائما من أكوام القمامة، بل وشاهدت أيضا عسكرى المرور يتناول سندوتشا يسد به جوعه، وبدأ المترددون على المحل يتقبلون فكرة الصندوق لدرجة أن الكثير أصبح معتادا على تخصيص مبلغ بسيط لشراء عدة ساندويتشات لوضعها وعدم انتظار ما يتبقى من طعامه.. اثنان فقط من أصدقاء محمد المقربين ساعدوه فى بداية التجربة ولكن الآن هناك فريق كبير من المتطوعين فى القاهرة والجيزة وكل محافظات الجمهورية، ومع ذلك فهم بحاجة لمزيد من الأيدى التطوعية لمحاربة الجوع. أكل البيت تساؤلات عديدة دارت فى أذهاننا وأظن أنها تخطر ببال كل من يقرأ عن تجربة صندوق الطعام، منها : هل لدينا ثقافة الأخذ بما يكفى احتياجاتنا أم أن هناك من سيجرد الصندوق من كل محتوياته ؟ هل سيبقى الطعام سليما دون فساد خاصة فى فصل الصيف ؟ هل ستتعرض الصناديق للكسر أو للعبث والتخريب ؟بابتسامة واسعة أجابت السيدة منى سالم مسئول فريق القاهرة والجيزة عن كل أسئلتنا التى تحفظها عن ظهر قلب لأنها تسمعها كثيرا فى الشارع كلما مروا بتجربة تركيب صندوق جديد، قالت لنا:نحن نتعامل مع الصندوق على أن أى بيت فى الشارع يستطيع أن يضع به ما يفيض عن احتياجاته من الطعام أو الحلوى، والتى يكون غالبا مصيرها البقاء فى الثلاجة أو الإلقاء فى القمامة، أى أن هناك من سيأكل هذا الطعام بدلا من تركه بالبيت يفسد، أما لو أخذ أى شخص أكثر من احتياجه فهو سيأخذه حتما للبيت أو لأولاده ليأكلونه،ونوعية الطعام الموضوع غالبا لا تخرج عن الأطعمة الجافة كالجبن النستو وأرغفة الخبز أو قطع الفراخ المشوية مثلا أو المكرونة بدون صلصات والفاكهة والباتيه ومخبوزات الفرن وهى نوعية قابلة للبقاء فترة معقولة دون فساد، والحقيقة أن الطعام لا يمكث كثيرا لأن هناك دائما من يأخذ، كما أن متابعة الصندوق تسهم فى توجيه الأشخاص لأخذ ما يكفيهم فقط، ومع الوقت من المؤكد أن الثقافة المصرية ستبدأ فى تقبل الفكرة والتعامل معها بشكل أفضل، ووجود سلبيات فى أى تجربة كما تقول منى سالم لا تعنى أبدا التوقف فعلينا أن نستمر ونصحح ونقوم ولا نيأس أو نستسلم لأن المحصلة النهائية الآن وبعد تركيب حوالى 324 صندوقا على مستوى الجمهورية أن الشعب المصرى بدأ يتقبل الصناديق وإن كان ذلك لا يمنع حالة الإستنكار والرفض اللذين نواجههما لدى البعض، بل إن فى محافظة سوهاج وصل تطوع الناس لدرجة تطوير الفكرة لتصبح صناديق مبردة كالثلاجات لحفظ الطعام أطول مدة، ولكن كيف يتم الانضمام لحملة مكافحة الجوع وهل هناك شروط لذلك ؟ الإجابة كانت على لسان محدثتنا:الحقيقة لاتوجد أى شروط فالعمل تطوعى خالص لوجه الله بعيدا عن أى توجهات سياسية أو حزبية أو أى تيارات دينية، المتطوع يجب أن يكون مدركا أن هدفه هو سد جوع فقير فى بلاده لا يعرفه شخصيا ولا يعرف ديانته ولا نوعه، ولا عمره ، هو مجرد إنسان يحتاج ماتضعه داخل الصندوق من طعام، والعمل معنا يمكن أن ينقسم تحت ثلاثة عناوين رئيسية: التسويق وهو معنى بالترويج للفكرة وإقناع الأهل والأصدقاء وأصحاب المحال التجارية بها، والثانى هو التركيب وهو يحتاج لبعض الخبرات الفنية فى عملية تثبيت الصندوق على الحائط، والثالث هو المتابعة وذلك بالمرور على الصناديق من حين لآخر وتفقد حالتها ودرجة اهتمام المسئولين عنها بها، وبالمناسبة هى مجرد مسئولية أدبية لا يترتب عليها أى إلتزامات أو مشكلات للشخص الراغب فى تركيب مثل هذا الصندوق على حائط عمارته أو دكانه أو مطعمه، وأقصى مايمكن فعله فى حالة إهمال الصندوق هو قيام أفراد الحملة برفعه وتركيبه فى مكان آخر، أما الشروط للأشخاص الراغبين فى تركيب صناديق لديهم فلا تخرج عن تعهدهم بتنظيف الصندوق والاهتمام به، ونشترط موافقة أصحاب العمارة أو ملاك أى عقار، كما نشترط ألا تكون المنطقة هادئة للغاية لأن فرص وجود الفقراء ستكون شبه منعدمة، وبمجرد اتصال الشخص بنا نقوم بعمل معاينة للمكان المقترح فإذا تبين أنه يصلح، قمنا بتجهيز صندوق على نفقة الحملة وتركيبه، وبالمناسبة فنحن لا نتلقى أى تبرعات، وكل من يريد أن يسهم معنا يمكنه أن يساهم إما بتركيب صندوق جديد أو بوضع أطعمة فى الصناديق الحالية.. وهذا هو تليفون الحملة ورابط صفحتها للتواصل: 01146603824 https://www.facebook.com/goo3misr مشكلات التركيب كنا بحاجة لمشاهدة هذه الصناديق على الطبيعة ومعرفة ردود أفعال الناس تجاهها، وفى مدينة نصر بشارع حسن مأمون وجدنا صندوقا معلقا على حائط دار للفتيات اليتيمات، ووجدنا إحداهن تضع بيدها عبوات صغيرة من اللبن المبستر وقطع جبن وخبز.. بدأنا نسأل الجميع : قالت لنا ثناء شعبان مؤسس الدار إنها قرأت عن الفكرة عن طريق الفيس بوك وسارعت للتواصل مع أفراد الحملة وتم تركيب الصندوق بالفعل، حيث يتم وضع أطعمة جافة به من أغذية الدار بينما يتم وضع وجبات ساخنة فى رمضان والمناسبات الدينية، وتوضح أن هناك ناسا مقتنعة بالفكرة وآخرين يرون أن إعطاء صدقة مباشرة أفضل، وبصراحة الصندوق يستفيد منه كثيرون ومنهم عمال التراحيل، وعمال النظافة، وأحيانا حارس العقار وأولاده، لكننى مؤمنة تماما بالفكرة وأرغب فى تطبيقها عند بيتى أيضا. الحاج سعد فتح الله الطحان مسئول أمن العقار وهو يتولى أيضا متابعة الصندوق، يقول: أحيانا أضطر للفت نظر شخص يقوم بأخذ كل الطعام الموجود لأن يأخذ ما يمكنه أكله فقط، وهناك استجابة، وأشعر أنه مع الوقت سيعتاد الناس على ذلك من تلقاء أنفسهم.. وبالقرب من المكان عند تقاطع مصطفى النحاس كان الموعد لنشهد بأنفسنا كيف يكون تركيب صندوق جديد، الحقيقة أن المهمة صعبة فرغم الموافقات ظهر اعتراض مفاجئ من إحدى الساكنات التى اعترضت بشدة لأن الصندوق سيتسبب فى تجمع الفقراء! فريق العمل التطوعى كان يضم مى أحمد وتعمل مهندسة بترول بإحدى الشركات، وهى تقتطع من وقتها وجهدها للنزول فى مواعيد تركيب الصناديق لتشارك فى المهمة التى تقول عنها إنها رائعة لأنها تمنع عن الفقير ذل السؤال، أما الحاج كامل فهو يتحمل عبء حمل الشينيور ودق المسامير وتثبيت الصندوق على الحائط ، يقول: جارى يعطينى أدواته مشاركة منه فى هذا العمل الخيرى الرائع، وأنا بعد خروجى للمعاش المبكر بسب استغناء الشركة التى أعمل بها عنى أضع كل طاقتى فى مهمة تركيب الصناديق فى أى مكان فى مصر، وقفنا طويلا بجوارهم وهم يعملون بكل حماس وجدية، نرقب شكل الخير لدى المصرى عندما يجد من يخرجه للنور، وأيا كانت حجج البعض فى محاربة الفكرة أو منطقهم فى عدم واقعيتها فلعلهم إذ تذكروا مشهد طفل يتم حبسه لأنه أكل خبزا لا يملكه، أو مشهد من يقلبون فى القمامة العفنة ليحصلوا على أى بقايا صالحة أو غير صالحة لتقوم مقام ثلاث وجبات.. فلربما صمتوا أو سارعوا بالانضمام لفريق مكافحة الجوع.