الزراعة كانت أول هدية قدمتها مصر للعالم ، فقد أقام المصريون حضارتهم قبل آلاف السنين على ضفاف النيل العظيم، حتى أطلق هيرودوت على مصر أنها « هبة النيل»، كما يصف المفكرون مصر بأنها «هبة المصريين»، لكن مع ذلك فقد تراجعت الزراعة بشكل كبير، وصارت الشكوى هى لغة الفلاح، والمعاناة هى المسيطرة على حياته، فالكيماويات والأسمدة والتقاوى، وإيجار الأرض، وأجرة الأنفار، وماكينات الرى والارشاد الزراعي، وغيرها من أسباب تعاسة الفلاح الذى يمنح الشعب كله غذاءه وكساءه من خيرات الأرض.. ومع أن الزراعة شهدت فترات تراجع كثيرة، فإنها مرت أيضا بمراحل انتعاش ورعاية كما حدث عقب ثورة 23 يوليو بإصدار قوانين الاصلاح الزراعى وإعادة توزيع الأرض الزراعية . ولأن السنوات الماضية شهدت تراجعا شديدا فى مساحات الأرض الزراعية بتبوير بعضها ، أو بالبناء عليها ، وغير ذلك من الممارسات والتعديات فقد آن الأوان لنعود الى أرضنا الطيبة ونهتم بها، ونصلح أحوال الفلاحين ورفع مستوى معيشتهم ، ونحل مشاكلهم حتى تعود مصر سلة للغذاء ، ونحقق الاكتفاء الذاتى من المحاصيل الرئيسية والاستراتيجية التى يحتاجها كل مواطن . «تحقيقات الأهرام» فتحت الملف الزراعى بكل شفافية والتقت الأطراف الرئيسية. عرفت مصر عبر العصور على انها سلة الغذاء ،وتربعت على عرش الزراعة بين دول العالم حينما كان يقاس تحضر الشعوب بتقدمهم الزراعى،ولكن اين نحن الآن من الماضى ؟! لقد تغيرت اوضاعنا الزراعية ولم تعد لدينا استراتيجية واضحة ترسم الخريطة الزراعية او تركيبة المحاصيل التى تحقق الاكتفاء الذاتى للغذاء،ولكننا بصدد استصلاح اراضى وضم قطع زراعية جديدة للرقعة الزراعية من خلال المشروعات الجارى تنفيذها سواء اقليم قناة السويس او الوادى الجديد او الظهير الصحراوى .. وحتى لاتتكرر السلبيات التى تهدد هذا القطاع الهام نتعرض لازمات ومشاكل القطاع الزراعى وكيفية علاجها خلال هذا التحقيق .. تعاونيات الريف يرى الدكتور عبد السلام جمعة نقيب الزراعيين ان المرحلة القادمة سوف تشهد نقلة فى القطاع الزراعى وذلك بعد اصدار قانون التعاون الزراعى (تعاونيات الريف ) المنتظر اقراره فى الفترة القادمة والذى من شأنه زيادة الانتاج ورفع مستوى الجودة وتوفير التقاوى وغيرها مما يحقق مصالح الفدان وتيسير تسويق المحاصيل بما يحقق مصالح الفلاح . وحتى يمكننا وضع رؤية مستقبلية للسياسات الزراعية التى يجب تطبيقها حتى نطور وننمى هذا القطاع للوصول الى الاكتفاء الذاتى للمحاصيل بما يغطى حاجة البلاد،لابد من وضع خطة استراتيجية تعالج المشاكل التى تواجه قطاع الزراعة والتى تتمثل فى عدة محاور يأتى فى مقدمتها تفتت الحيازات وتأكل الرقعة الزراعية والتى انحسرت فى 4.8مليون فدان نظرا لفقدنا 50 الف فدان كل عام ! والتى تحتاج الى ردع التعدى والتجريف والبناء بتفعيل القوانين المجرمة لهذا الفعل واتخاذ الاجراءات اللازمة من جانب الجهات المعنية والتعامل مع الاراضى الزراعية على انها محمية طبيعية . كما يجب التخلى عن منهج الاهدار الذى يتبناه البعض بالرغم من أننا فى أمس الحاجة لاستغلال الموارد بالاسلوب الرشيد والمناسب ، فعلى سبيل المثال تبلغ المخلفات الزراعية نحو 30 مليون طن سنويا نقوم باهدارها بالحرق بالرغم من امكانية الاستفادة منها بتحويلها الى اسمدة وعلف ، وعلينا ايضا تعظيم الاستفادة من الموارد المائية المتاحة والتى يؤدى تناقصها الى التأثير على الانتاجية الزراعية لنقص المساحات المنزرعة. ومن أوجه القصور التى يعانيها قطاع الزراعة سياسة التسعير التى لا تحقق عائدا وهامش ربح مناسبين للمزارعين مما يؤثر على حافز الانتاج بالنسبة لهم ، مما يتطلب ضرورة ايجاد آليات لنظام تسويق جيد وتشجيع التسويق التعاونى فعلى سبيل المثال لابد من زيادة سعر توريد القمح ليبلغ 300 جنيه بدلا من 270 جنيها للطن ، وكذلك محصول الذرة الذى تحول الى علف رغم اهميته لعدم اقبال الفلاحين على زراعته نتيجة لتسعير الوسطاء له بسعر لا يقبلونه ولا يدر عائدا يتناسب مع الجهد المبذول. ويشير الدكتور عبد السلام جمعة الى التركيب المحصولى الذى يخضع لرغبات المزارعين دون وجود معايير حاكمة والذى يرتبط بمدى الربحية المحققة من زراعته دون النظر الى أهميته فلقد بلغت المساحة المنزرعة باللب 370 ألف فدان بينما تقلصت مساحة زراعة القطن من مليون فدان عام 1930 الى 300 ألف فدان فقط ! مما أثر على الانتاجية ، ويضاف الى ذلك زراعته بجانب الأرز حيث ان زراعة المحاصيل المبعثرة تؤثر على انتاجية الفدان ، كما يجب الاهتمام باتباع التكنولوجيا الزراعية الحديثة والتصنيع الزراعى ، ومواكبة التطور العلمى والمستجدات فى مجال الزراعة للنهوض بهذا القطاع الاهم فى الاقتصاد المصرى. السلبيات ومواجهتها يقول المهندس الزراعى حمدى يونس - وكيل وزارة الزراعة بالقليوبية والشرقية ونائب رئيس قطاع الارشاد الزراعى بالوزارة سابقا - إن ثروتنا الزراعية هى أمانة فى أيدينا ليس فقط للحفاظ عليها ولكن زيادتها وازدهارها ، والفلاح كتلة اقتصادية لايستهان بها ، ولقد مرت السياسات الزراعية وتطبيقاتها فى السنوات السابقة بتركيز الحكومات على سياسات الاصلاح الاقتصادى وتقليص دور الدولة لتحرير الزراعة من القيود الحكومية ، ولم يرافقه بالتوازى البدائل المؤسسية القادرة على القيام بأدوار الدولة. وكانت المحصلة السلبيات التى ظهرت فى زيادة الغش التجارى فى مدخلات الانتاج الزراعى من اسمدة ومبيدات وتقاوى ، وظهرت طبقة من الوسطاء الجشعين الذين يبخسون الناس حقوقهم ، وأصبح الضحية الحقيقية الفلاح البسيط والمستهلك ، المزارع يكد فى الزراعة ثم يحمل حصاد زراعته على كاهله ولا يستطيع تسويقه ، وكذلك تآكلت الرقعة الزراعية نتيجة للزحف العمرانى فى غياب الردع الحكومى مما أدى الى التفتت الحيازى ، بالاضافة الى غياب دور الارشاد الزراعى وفاعلية البحث العلمى ، كما ترتب على الإهمال التعدى على حرم الترع والمصارف وتحول الى طريق أو مبنى حتى لا يوجد مكان لوضع ناتج التطهير ، حتى التعديات لم ترحم الأشجار بل تم عمل مذابح لها واستغلال أماكنها بشكل لا يسمح بزراعة أشجار جديدة ،كما انهارت جسور الترع وتكبدت الدولة مبالغ باهظة جراء أعمال (التدبيش) ، ومن السلبيات أيضا زحف كردونات المدن على المزارع خاصة مزارع الدواجن وعدم احترام البعد الوقائى مما يسهم فى انهيار هذه الصناعة ، وكذلك عدم الالتزام بنظام الدورة الزراعية مما أدى الى قيام المزارع بزراعة المحصول الذى يعود عليه بالربحية وعلى سبيل المثال ليس الحصر زراعة الأرز بالمخالفة ، وغاب دور الرقابة والمتابعة والدورات التدريبية. التخطيط لتحقيق الرخاء ويضيف المهندس الزراعى حمدى يونس أن مستقبل مصر يبدأ من الريف لذلك فنحن بحاجة الى التخطيط لتحقيق الرخاء ، لحل القضايا التى تواجه قطاع الزراعة، فبالأمس القريب اعلن عن زيادة سعر طن السماد الآزوتى ، وأثيرت ضجة حول هذا الموضوع ، وتم مناقشة الأمر دون النظر للطرف الآخر وهم أصحاب المصانع الذين يعانون صعوبات كثيرة لاستمرارهم فى الانتاج ، وغض البصر عن أسباب الأزمة وهم تجار السوق السوداء ، وعند معالجة مثل هذه المشكلة يجب إصدار تشريع يعاقب كل من يتعدى على الاراضى الزراعية بالبناء عليها بعدم صرف الاسمدة ،لأن الذى يستفيد من الدعم الزراعى هو المخالف والضحية المزارع البسيط الملتزم ، ناهيك عن الحصر غير الحقيقى لمقررات الأسمدة للأنواع المختلفة للمحاصيل ، ولن ينتهى هذا الأمر إلا عن طريق استخدام نظام الحوكمة الذى يطبق فى كل دول العالم ، وتعد الجمعيات الزراعية هى الخدمة الأولى للمزارع ويمكن من خلالها ربط الزمام بقاعدة بيانات مسجلة على الكمبيوتر وعليه يتم الحصر وصرف الأسمدة مما يمنع باب الفساد. مشاكل المحاصيل الرئيسية وعن مشاكل المحاصيل الرئيسية فأبرزها التسويق ولذلك فإن التعاقدية عليها يجب أن تتم عن طريق مؤسسات أو شركات تقوم بهذا الدور تحت متابعة الحكومة لأن ما يحدث حاليا يستحق المراجعة ، فتسويق القمح على سبيل المثال يتم بشراء القمح مباشرة من الحقول عن طريق الوسطاء بسعر الحكومة المعلن وهم المستفيدون بفارق السعر عند تسليمه للمطاحن ، كما أن التسويق خلال التعاونيات أو بنوك القرى فلا يتم بالشكل المطلوب ،والمشكلة الأخرى التى تواجه المحاصيل هى صعوبة العودة لنظام الدورة الزراعية مرة أخرى نظرا للتفتت الحيازى. ولذلك يجب أن نتدارك تلك المشاكل فى الأراضى الجديدة والمستصلحة والتى يجب أن توزع بطريقة الاسهم مما يمنع تفتيتها ، وبذلك ينطبق عليه نظام التجميعات الزراعية ويؤدى ذلك الى توفير المياه والاسمدة والمبيدات ، وباقى المعاملات الزراعية الاخرى ، كما يجب البحث عن شركات تقوم بالتعاقد مع الفلاحين تحت إشراف وزارة الزراعة وذلك فى تطبيق تجربة زراعة الأرز على شرائح ، وكذلك زراعة القمح على مصاطب طبقا لتوصيات منظمة (الايكادا ) للمنطقة العربية وشرق افريقيا والتى تهدف الى زيلدة الانتاجية وتوفير المياه والاسمدة ، كما يجب التعاقد مع شركات لانتاج الطاقة من المخلفات الزراعية مع وجود التسهيلات اللازمة من الحكومة حتى لا تستمر ظاهرة التلوث الهوائى والبيئى من حرق المخلفات الزراعية . ولابد أن يقوم الاتحاد التعاونى الزراعى بدوره الريادى بتكوين آلية لكل محافظة لاقراض المزارعين بقروض ميسرة لسلالات الانتاج الحيوانى أو مصانع الالبان أو مزارع الدواجن المغلقة - يجب نقلها من الوادى والدلتا الى المناطق الصحراوية - وغيرها بضمان الحيازات الزراعية للمزارعين وليس بضمان أعضاء مجالس الادارة.