نحتاج الآن إلي تعميق مفهوم أمانة الكلمة والأمانة ضد الخيانة، وهي كلمة ذات مفهوم واسع، تضم تحت لوائها أنواعًا كثيرة، ومفهومها في الشريعة الإسلامية عام وشامل لكل أقوال العبد وأفعاله، قال تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً»، فإذا كان العبد محاسبًا على أقواله وأفعاله فهو مؤتمن عليهما أيضًا. ومن بين أنواع الأمانات أمانة الكلمة، فالكلمة أمانة، فمنها الطيب ومنها الخبيث، فالكلمة الطيبة يكسب بها المسلم أجرًا من الله تعالى إذا كانت صادقة نافعة مفيدة للأمة، وكذا الكلمة الخبيثة التي تدعو إلى الباطل وتؤدي إلى الشر والفساد يعاقب عليها المرء، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً من رضوان الله يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوى بها في جهنم». وفي ضوء هذه الكلمات تظهر أمانة الكلمة التي يجب أن يلتزم بها المسلم ليكون من المؤمنين حقًّا؛ قال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت»، أي أن تكون كلماتك نافعة ومؤثرة وتخدم دينك ووطنك وتسعى للمِّ شعث أمتك، كلمات توحِّد الصف وتعالج قضايا الأمة وهمومها في ضوء كتاب ربنا جل وعلا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم. فقول الخير أو الصمت عما سواه أمر من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته؛ كي يستقيم إيمانها، فاستقامة اللسان من خصال الإيمان، فعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه»، ولقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على الخير وعلى التماسه، وتحري الصدق في القول والعمل، فقد روى الطبراني من حديث أسود بن أصرم المحاربي، قال: قلت: يا رسول الله أوصني، قال: «هل تملك لسانك؟» قلت: ما أملك إذا لم أملك لساني؟ قال: «فهل تملك يدك؟» قلت: فما أملك إذا لم أملك يدي؟ قال: «فلا تقل بلسانك إلا معروفًا، ولا تبسط يدك إلا إلى خير»، ولقد خطب عمر بن عبد العزيز يومًا فرقَّ الناسُ، وبكوا، فقطع خطبته. فقيل له: لو أتممت كلامك رجونا أن ينفع الله به، فقال عمر: إن القول فتنة والفعل أولى بالمؤمن من القول. فإذا كان القول سيأخذنا إلى فتنة عظيمة لا يعلم مداها إلا الله تعالى؛ فأولى بنا أن نلتزم الصمت، فهو في هذه الحالة يكون من الحكمة، قال ابن مسعود رضي الله عنه: «والله الذي لا إله إلا هو، ما على الأرض أحق بطول سجن من اللسان». لكن هذه ليست دعوة على السكوت والتزام الصمت على المعنى المطلق، إنما غايتنا في الكلام والسكوت الخير؛ أي الغاية المرجوة منهما هي الخير، فإذا ما تحقق الخير بأيهما اتبعناه، كلامًا كان أم صمتًا، ونحن إذا تكلمنا التزمنا الصدق وتحرينا أمانة الكلمة، قال محمد بن عجلان: «إنما الكلام أربعة: أن تذكر الله، وتقرأ القرآن، وتسأل عن علم فتخبر به، أو تكلم فيما يعنيك من أمر دنياك»، فهذا ما يكون عليه الكلام لا أن نتكلم لنلوك الشائعات بألسنتنا ونردد الأكاذيب التي تنشر بين الناس الفتن، بحيث يتعدى ضرر كلامنا إلى غيرنا فتفقد الكلمة أمانتها وتتحول إلى شرارة تشعل النار التي تأتي على الجميع بالسوء. إن سلامة الإيمان كما ذكرنا مرتبطة بنزاهة اللسان، قال صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، وعليه يجب على المسلم أن ينزه لسانه من كل قبيح ولا يجري عليه غير الحق، وينأى بنفسه ولسانه على أن يجري عليه زورًا أو كذبًا أو غيبة أو نميمة أو استهزاءً أو استخفافًا بالناس، أو إفشاءً لأسرار الآخرين عند الخصومة، وصدق صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة». ومن الحفاظ على المجتمع أمرنا القرآن الكريم بالتثبت والتبين، إذا حمل فاسق نبأ فيه كذب يفترى به على الناس فقال الله سبحانه: «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين»، فعلينا أن نتحرى الصدق في القول وفي النقل والتثبت في تلقي الكلام عن الآخرين، فمع انتشار وسائل الاتصالات المختلفة أصبح الإنسان يقف حائرًا أمام هذا السيل الهادر من المعلومات والأقوال والأفعال، وهذا يحتم عليه أن يكون يقظًا في التلقي عن الآخرين. ومن ضوابط أمانة الكلمة أن تراعي مصلحة المسلمين ودولتهم، لقوله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، وألا تؤدي كلماتهم إلى الإضرار بالنفس أو الآخرين، لذا فإن حرِّيَّة إبداء الرأي يجب أن تخضع للقاعدة الفقهية المهمَّة المستقاة من حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله تعالى عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنْ «لا ضَرَرَ وَلا ضِرَار». لمزيد من مقالات د شوقى علام