تمتلك المجتمعات فى تكوينها - مثلها مثل الأفراد - جانباً معنوياً يشكل قسماً من ملامح شخصيتها ويجمع مواطنيها على سمات بعينها تصبغ حياتهم بلون محدد من المشاعر والميول والاتجاهات العامة التى تتحكم فى اختياراتهم وتحدد مسار حياتهم. ففى مقابل الخبرات التاريخية والجوانب المعرفية العقلية التى تميز شعوباً عن غيرها هناك أيضاً جوانب معنوية تشكل وجدان الأوطان وتصوغ التطلعات والآمال والطموحات التى ترنو إليها الشعوب فى مسيرتها فى الحياة. وعلى طول تاريخ مصر الحديث تجلت أهم ملامح هذا الوجدان العام فى عدة مظاهر لعل أهمها الوطنية الجارفة التى جعلت الآلاف من المصريين يبذلون أرواحهم أثناء مقاومتهم للاحتلال البريطانى فى سبيل أن تحيا مصر حرة مستقلة. وبعد ثورة يوليو 1952 تجلت هذه الوطنية فى حرب 1956 والمقاومة البورسعيدية الباسلة خلالها. ومن عاش الحقبة الناصرية بانتصاراتها وانكساراتها حمل داخله أحلاماً وتطلعات عظيمة، تحطم جزء منها بنكسة 1967، ولكن أبداً ما تحطم داخله الاعتزاز بمصريته، لذا لم تكن الهزيمة العسكرية قادرة على أن تفت فى عضد هذا الشعب على الرغم من أن السنوات التى تلتها تعد من أحلك السنوات التى مرت بجيل ثورة يوليو. ورغم المظاهرات التى خرجت تطالب بإنهاء حالة اللا سلم واللا حرب فى بداية السبعينيات، إلا أنه يمكن القول بأن الوجدان العام فى مصر لم يتصدع بل ظل على حالة التوحد فى وطنيته ليتجلى كأروع ما يكون أثناء حرب أكتوبر 1973 حينما تألفت مجموعات شعبية تلقائية لرعاية جرحى الحرب فى المستشفيات، وأخرى لتنظيم حملات التبرع بالدم، وللالتفاف حول الجيش المصرى والمقاومة فى السويس ومدن القناة. ثم عاد هذا الوجدان القومى المشتعل بالوطنية وأفصح عن نفسه بتفجر ثورتى 25 يناير و30 يونيو بعد سنوات طويلة ظل فيها حبيس الصدور حتى ظن البعض أن مصر فقدت ذاكرتها الوطنية، وأن الجيل الجديد من شبابها قد نشأ مفتقراً إلى الانتماء الوطنى متأثراً بضحالة نظامه التعليمى وتراجع الحركة الأدبية والفنية عامة، واعتماده على وسائط التواصل الاجتماعى فى زمن العولمة. فرغم ما مرت به مصر لعشرات السنين من تجريف للحياة السياسية والثقافية إلا أن المصريين قد أذهلوا العالم بإسقاطهم نظاما استبداديا وآخر يستهدف هويتهم القومية فى أقل من ثلاث سنوات. وما كان لهاتين الثورتين أن تنجحا فى اقتلاع النظامين ما لم يكن المصريون على قلب رجل واحد فى ظرف توحدت فيه أهدافهم ومشاعرهم القومية ورؤاهم للمستقبل، لذا أسماها بعض علماء النفس «ثورة القوة الوجدانية للشعب المصرى». وفى ظل تراجع الدور الوطنى للإنتاج الفنى والأدبى، وكذلك تدهور الإعلام الرسمى أدت شبكات التواصل الاجتماعى دوراً بارزاً فى تنظيم وتفعيل الاحتجاجات الاجتماعية لتصل إلى ذروتها وتتفجر كثورة فى 2011. وقد استمر هذا الدور بقوة أيضاً إبان حكم الإخوان، وتضافرت معه قنوات فضائية خاصة دافعت عن وحدة الوطن والهوية المصرية اللذين تعرضا للخطر آنذاك، واستطاعت أن تشحذ وجدان قطاعات الشعب بشرائحه المختلفة وراء حملة «تمرد» مما أدى فى النهاية لإسقاط هذا الحكم بثورة 30 يونيو. ومع ذلك فإن هذا الدور قد تراجع بشدة خلال العام الأخير، بل لقد أدى هجوم بعض الإعلاميين على ثورة يناير ووصمها بالتآمر إلى حالة من الإحباط العام التى طالت قطاعاً من الشباب كان قد شارك بقوة وحضور كثيف فى كلٍ من ثورتى يناير ويونيو بدافع من وطنيته الناصعة وآماله فى مستقبل أفضل تستحقه مصر. هذا فى الوقت الذى تتصاعد فيه على شبكات التواصل الاجتماعى موجة من الهجوم على النظام الحاكم وتشويه ما يتخذه من قرارات والتشكيك فيما يتبع من سياسات. وتهدف هذه الحملات المنظمة على يد الجماعات الإرهابية وخلاياها النائمة إلى التأثير فى هذا القطاع من الشباب - الذى لا يملك الذاكرة السياسية ولم يخض من قبل أية تجارب فى العمل السياسى - وإعادته إلى حالة السلبية واللامشاركة التى قبع فيها سنوات قبل ثورة يناير، ومن ثم تحرم مصر من عصب قوتها المحركة نحو الخروج من هذه المرحلة الحرجة. وعلى الجانب الآخر يقف الغرب الذى لا يريد أن يتخلى عن مخطط كاد ينهيه بتقسيم مصر والوطن العربى لولا تصدى الشعب والجيش المصرى له فى 30 يونيو. فرغم ما يصدر عن قادة الغرب مؤخراً من تصريحات إيجابية تتحدث عن دعم مصر، فإن حملة التشويه والتشكيك فى ثورة يونيو وخارطة المستقبل مستمرة على أشدها: فهذا معهد كارتر يعلن بدون أية مقدمات إغلاق مقره فى مصر وعدم إرسال بعثة لمراقبة الانتخابات البرلمانية المقبلة، مدعياً عدم توافر المناخ الذى يدعم الحريات ويكفل إجراء انتخابات نزيهة. وفى الوقت نفسه تستمر افتتاحيات ومقالات الصحف الغربية الكبرى فى بث الاتهامات الصريحة للنظام الحاكم فى مصر بالتعدى على حقوق الإنسان وتشديد قبضته على المجتمع المدنى، وتقليص المجال أمام الحريات العامة، متجاهلين عمداً ما تخوضه مصر منفردة من حرب ضد الإرهاب. هذا بالإضافة إلى ما تصدره المؤسسات البحثية الأمريكية القريبة من دوائر صنع القرار من تقارير تتحيز على نفس المنوال ضد ثورة 30 يونيو ونتائجها. وتهدف هذه الأطراف الداخلية والخارجية إلى تصعيد للتوترات والصدامات مما يؤدى إلى إثارة حالة من عدم اليقين تجاه مستقبل مصر، . ويظل هناك الكثير على أرض الواقع الذى يجب القيام به لتواصل مصر حفاظها على عبقرية شخصيتها القومية التى تجعلها تستعصى على محاولات الهدم من الداخل وتشكل معينها الأساسى فى مواجهة التحديات الراهنة. إذ يتعين كى نعبر هذه المرحلة الدقيقة أن تشحذ الدولة المصرية كل أسلحة قوتها الناعمة وروافدها الثقافية على تنوعاتها لاستنفار الوجدان الوطنى للمصريين مرة أخرى فى معركتهم مع قوى التطرف والإرهاب. ولكن قبل كل هذا وبعده يظل التعليم هو المعين الأساسى الذى يتم من خلاله الغرس الثقافى لقيم الوطنية والفداء فى وجدان الأجيال الناشئة. لمزيد من مقالات د.نجوى الفوال